احدث الاخبار

قوانين قراءة التاريخ ( 5 ) بقلم : عصام زايد

سنتي التغيير و التدافع لا تتجهان إلا للإنسان الحر… و لا حرية بلا بصيرة

” … إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ”

خلق الله سبحانه وتعالي الإنسان و خلق معه أداة تمثل  قوته وضعفه في آن واحد .. إن أراد يٌفعل أزرار قوتها و إن أراد يٌفعل مفاتيح الضعف والذلة فيها .. تلك الآداة هي الإرادة  .. تلك القوة المهيبة .. أعطيت للإنسان دون سائر الخلق ، قد يفعلها فرد بمفرده فيزلزل بها أمة .. وقد تفرط فيها أمة فيمتطيها فرد ، أداة لا تفرق بين مؤمن و كافر وبين أمة و أمة .. ولكي نحيط بأبعادها لابد من إستدعاء سبب و حكمة خلق الإنسان فعند غياب الحكمة يتوه المعني ونفقد البوصلة.

يقول الله تعالي

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) البقرة

فالخلافة المعطاه للأنسان هنا خلافة جوهرها الحقيقي  إعمار و تنمية الكون بالمعني الشامل للنماء ، ولأننا نتحدث عن كون فسيح محيط علمنا به محدود بما تم اكتشافه من علوم كلية علمها  الله سبحانه و تعالي لأدم ( وما ينتظرنا من مخزون أكثر بكثير مما تم اكتشافه )  كان مناط التكليف ( الإعمار) فردي و الحساب عليه فردي لأنك و بصورة شخصية تبدأ وتنتهي عندك المسئولية مسئولية الإعمار .. والأداة القوية التي تمتلكها هنا هي الإرادة الحرة.

ولايمكن أن نشعل ضؤ الإعمار بدون أن نحرك مفتاح الإرادة لتتجه كليا لتغيير الواقع بتطويره أو ببناء أسس جديدة أو بإزالته ..

لذا كانت سنة التغيير المجال الأول لعمل الإرادة ويلازمها سنة التدافع فلا تعمل الأولي دون الثانية و لا معني لتدافع دون أن يكون جوهره التغيير .. لذا كان تحرير الإرادة  الغاية من الفتوحات الإسلامية .. تحريرها لتتلقي دون خوف ، فإن أرادت تحركت نحو التغيير العقائدي و إن لم ترد تحركت نحو الإعمار و النماء الأرضي دون الأخروي.

التغيير إرادة فردية و بالتلامس تصبح جماعية المظهر و المخبر .. إن لم تتحرك إرادة التغيير في الكون لتوقف النمو البشري عند الحضارة البدائية و لتوقفت العلوم عند اكتشاف النار وإختراع عصاة الصيد المسننة .. ولكننا ننعم اليوم بتلاحق الإكتشافات و سرعتها حتي صار الإلمام بها من الصعوبة بمكان. وصرنا نري مظاهرها ونتلمس طرق إستخدامها.

إرادة التغيير ذاتية الجوهر تعطي صاحبها قوة قد تستخدم للإصلاح أو للتدمير على المستوي المادي أو النفسي ولقد نوه القرآن لذلك بقوله تعالي في سورة الرعد   ( …. إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ … ) [1]

” إن الإطلاق في الجملة يجعل مداها المشروح شاملا لجميع الناس و البيئات و الطبقات و الملل و النحل والحالات الإقتصادية و الإجتماعية و السياسية[2]” .. ويشعر المتلقي في هذا الخطاب أن الإنسان سيد نفسه كما هو سيد الأرض، وعمرانها مرتبط أساساً بمدي استعداده و أهليته، وأن صلاحها و فسادها منوط بصلاحه و فساده من حيث ما بنيت عليه روحه من عقائد وأخلاق توجه سلوكه العملي.

إن إرادة التغيير هي نقطة الإنطلاق التي تتحرك عليها كل السنن الربانية .. هي التي تحمل داخلها الوقود ومفتاح الإشعال ( سنة التدافع )،هي البوصلة التي توجه مسار البشرية وتلفت الإنتباه لمناطق القصور لتستكمل .. لذا إن نشطت تحركت الأمم وتدافعت للأمام و إن خفت حدتها سكنت سكون الأموات .. لذا كان التنوع في الأمم بحكم إرادة الشعوب و الحكام وقوة دافعيتهم إلي :

أمم تخلفت في كل نواحي الحياة الروحية و المادية ( أمم ارتضت أن تعيش بمبدأ الخوف من التغيير .. عطلت لديها الأداة وهي الإرادة )

أمم تقدمت في مجالات العلوم المادية دون أخري ( أمم فهمت الإعمار للكون بمفهوم مادي )

أمم تقدمت فيها علوم الإتصال الروحي دون غيرها ( أمم فقدت بوصلة الخلافة وسببه )

أمم تقدمت فيها العلوم المادية و بعضا من النضج في منظومة القيم الكلية ( أمم بدأت رحلة التغيير الشامل )

هذا التنوع النوعي لا يفزعني و لا يخيفني لأنه تنوع بشري تحتاجه الأرض لتنمو، فعندما تتجه إرادة التغيير يوما نحو تغيير السلوك إلي الله بفهم حقيقة الربوبية و الألوهية وحقيقة الإعمار الشامل عندها ستكون الأرض ذاخرة بالنماء في أجزاء كثيرة لتبني عليها حضارة متكاملة .. فالحضارة الربانية القائدة ترث الأرض فتنمي ما بها من خير وتزيل ما بها من ضمور فيرتفع بناء التوحيد لله تعالي ويظلل البشرية.

وإني أزعم بعد قراءة متأنية للسنن الربانية (و التي في مجملها تنشأ الحضارة الإنسانية القائدة) أن جميع السنن تعمل من خلال سنتين قائدتين هما :

  • التغيير
  • التدافع

فكلاهما متلازمين إن أردت التغيير يبدأ التدافع  وكلاهما يخاطب جميع مظاهر الحياة الإنسانية و الحيوانية و النباتية بصورتهما الفردية و الجماعية وغيابهما يؤدي لإصابة الكون بالشلل و التعطيل وظهور الأفكار المريضة كالإرجاء  والجبر.

“… وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)[3]

يقول صاحب الظلال ” لقد كانت الحياة كلها تأسن وتتعفن لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض . ولولا أن في طبيعة الناس التي فطرهم الله عليها أن تتعارض مصالحهم واتجاهاتهم الظاهرية القريبة , لتنطلق الطاقات كلها تتزاحم وتتغالب وتتدافع , فتنفض عنها الكسل والخمول , وتستجيش ما فيها من مكنونات مذخورة , وتظل أبدا يقظة عاملة , مستنبطة لذخائر الأرض مستخدمة قواها وأسرارها الدفينة . . وفي النهاية يكون الصلاح والخير والنماء ……….”

نقطة البداية دائما تحرير الإرادة بالفهم والوعي عندها يتحرر البصر فيري مناطق القصور وتبدأ تستجيب همم التغيير وينطلق التدافع

لقد أوجد الله سبحانه وتعالي لنا قوة الشر الأعلي متمثلة في أبليس و أعوانه لتكون مثالاً للمقاومة الإيجابية ومحركا للتغيير الداخلي ودافعا للنماء .. فإن إستكانا له كان التغيير السلبي و التدافع الخاطئ و إن تمت مقاومته تحركت البشرية و إرتقت.

إضاءة ( 1 ):

تبرز هنا أسباب الرغبة المتزايدة في إخماد تلك السنتين في شعوب العالم الإسلامي بل وقتل الإحساس بهما في النفوس بترويج الوضع الراهن وأنه الأفضل من تغيير وتدافع لا نعلم منتهاه (أنظر لأساليب الحكم و التعليم و الإعلام ونظم القيادة كلها تخاطب الخمود و السكون في عالمنا المبتلي). إن تحرير الإرادة يبدأ بتحرير أدواته (السمع و الإبصار و الأفئدة) .. فالعقول و القلوب التي جبلت على الطاعة دون الفهم و على تحييد إرادتها و تجييرها للغير .. لن تصلح لقيادة الأمم مهما إنتشرت وكبرت فهو إنتفاش الخبز عند إختلاطه بالماء .. فالتربة أسنت و النفوس تعودت التواكل .. وتلك بيئات تحتاج لحرث أرضها و تهوية تربتها و بذر نبت جديد.

إضاءة ( 2 ).

فكما نتحدث عن الأمم نتحدث عن مكوناتها من كيانات إقتصادية و سياسية و إجتماعية مهما تعددت أهدافها إن لم تقم بتفعيل إرادة التغيير و أخمدت إرادة التدافع ذبلت و تقوقعت و إنتهت لتكون صفحة غير مضيئة في كتب التاريخ.

إضاءة ( 3 )

في العالم الغربي المادي وحتي يتم التدافع الإيجابي وفي ظل تنحية الدين .. تم إحلال قوي مادية بدلا من الشيطان وما يمثله من شرور فحلت الشيوعية فترة من الزمن لتكون محرك التغيير و التدافع وعندما إنتهي دورها كان الأسلام هو العدو والمحرك الجديد للتغيير و التدافع ليظل الغرب في حالة حركة يقظة متدافعة تتجه للنماء.

إضاءة ( 4 )

حركة السنن الربانية تعمل في الكون جميعها ولكن قاعدة حركتها تدور حول سنتي التغيير و التدافع.

  • هل يمكن تصور أن تعمل سنة الأخذ بالأسباب دون التدافع ؟
  • هل يمكن أن نتصور سنة الإبتلاء بلا إرادة تغيير ؟
  • هل يمكن أن تعمل سنة الإستمرار بلا تدافع و أخذ بالأسباب ؟
  • هل يمكن أن نصل للنضج بلا تغيير وتدافع و إستمرار ؟

طبقا لفهمي الخاص على كل صاحب رسالة أن يقوم بتشجيع كل إعمار يتم في الأرض وبذل الجهد لنشر القيم معه  فلعل نماء يكتمل في أي مكان يصلح لحمل الشعلة الحضارية. نحن مطالبون في التواجد في بقاع الكون أينما وجد نماء مادي نعطيه البعد الروحي و أينما وجد تدافع نعمل لإكتمال معناه .. فالأرض كلها أرض الله وإعمارها مسئولية فردية و جماعية.

تحرير الإرادة نقطة الإنطلاق .. والسنن الربانية تعمل بلا عنصرية فكيف نستفيد من حركتها ؟

[1]الرعد 11

[2]التفسير الحديث (محمد عزة دروزة)

[3]البقرة 251

عصام زايد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.