العالمالمجتمعتقارير وتحقيقات

غـارُ حِـرَاء.. بينَ عُمقِ البِناء وعظَمةِ الأدَاء..بقلم : علاء الصفطاوي

صراعٌ عميقٌ بين العقلِ والعاطفة، العقل يرى استحالةَ خوض التجربة لاعتبارات شتى، حيث أنني أعاني من حساسية في الصدر منذ فترة طويلة، إضافة إلى زيادة – وإن كانت قليلة – في الوزن ربما تمثل عائقاً أثناء صعود هذا المكان المرتفع .

لكنّ العاطفةَ كانت تدفعُ نحو صعودِ الجبل، حبًّا وشوقاً لرؤية مكانٍ قضى فيه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لحظاتِ الإعداد، ليكون أهلاً لحمل أعظم رسالة في الوجود . هذه المعركةُ الشرسةُ دارت رحاها بمجرد أن وقعت عيناي على جبل النور، الذي يقع غارُ حراء في قمَّته .

لكنَّني قطعتُ حبلَ العقلِ المتين بسكين العاطفة الملتهبة، لأحقِّقَ رغبةً عاشت بداخلي فترةً طويلة من الزَّمن .

وبدأتُ رحلةَ الصعودِ نحو الماضي، وكلما علتْ بيَّ الدرجات، ازدادَ منِّي سكبُ العبرات، ووجدتني أخاطبُ إمامَ المرسلين .. وخاتمَ النبيين، وأقول له: ما أعظمك يا سيدي، كم صعَدت نحو الغار !! وتحملتَ في سبيل ذلك المشقةَ والعناء .. لتخلو برب الأرض والسماء . في خلوةٍ يهيمنُ عليها التفكير، والتقربُّ من اللطيف الخبير.

وكلما اقتربتُ من الغار ازداد قلبي خفقاناً، ونفسي حبًّا وهياماً، ثم جاءت اللحظة التي أبدعَ إقبال – رحمه الله –  في وصفها، لحظةٌ تضعُ فيها قدمَك مكانَ قدمِِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتصلي في المكان الذي تعبّد فيه الليالي ذوات العددِ لخالقه ومولاه، ثمّ أصابتني رعشة وأنا أنظر نحو السماء وأتذكّرُ جبريلَ .. وهو ينادي على الخَليل : اقرأ !

تلك الكلمة الخالدة، التي لمّا وعَت الأمة معناها .. وفهمت مرادها ومغزاها، انتشرَ في أرجائها نورُ العلم .. وتبدَّدَ ظلامُ الجهل، فأصبحت – عن جدارةٍ واستحقاقٍ – في مقدمة الرّكب، وأضاءَ شعاعُ حضارتِها أرجاءَ الكون .

” اقرأ ” في الحقيقة منهجُ حياة .. فريضةُ مثلها مثلُ الصلاة، ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم : طلبُ العلمِ فريضةٌ على كلِّ مسلم  ( صححه الألباني ) .

ومن عظمةِ القرآن الكريم أنّه حدّد منهجية القراءة عندما قال : ” اقرأ ” ثمَّ أعقبها بقوله ” باسم ربك “، فكل ما يقرّبك من الله اقرؤه، وكل علم يقوم على التجربة والاستنتاج حتماً سيصل بك إلى الله، ويزيدك معرفة بقدرته وعظمته، وهذا ما رأيناه وقرأناه عن علماءَ بارًزين، عاشوا حياتَهم في رحابِ التجارب العلمية، ثمّ خرجوا علينا بحقيقةٍ ستظل خالدةً خلودَ الليلِ والنهار وهي : إنّ لهذا الكونِِ إله .

وهنا يتبادرُ سؤالٌ إلى الذّهن : إذا كانت القراءة تحظى بهذه المكانةِ في ديننا، فكيف تحوّلت عند مسلمي اليوم من فريضةٍٍ إلى هواية ؟ !!

سؤال يحتاجُ إلى إجابة كافية شافيةٍ تصفُ الداء .. وتضعُ له الدواء .

وهناك موقفٌ تأملت فيه كثيراً .. ووقفتُ أمامه طويلاً، وهو ما كانت تفعله أمُّ المؤمنين السيدة خديجة – رضي الله عنها –  وهي تحملُ الطعام لزوجِها، وتصعد إليه على درجاتِ الحب والشوق، ولمَ لا ؟!! وهي التي تعرفُ قدرَ حبيبها، ومنزلةَ زوجها !!

فيا لعظمةِ الزوجةِ عندما تكونُ لزوجها مُعينَةً ونصِيرة .. وبما يُرضيه ويُسخطهُ عالِمَةً وخبيرة .

ولذلك عندما قال صلى الله عليه وسلم : الدنيا متاعٌ وخيرُ متاعها الزَّوجةُ الصالحة ( رواه مسلم ) لم يأتِ هذا الحديثِ من فراغٍ، بل قاله صلى الله عليه وسلم من وحي التجربة، وتعبيراً عن الواقع الجميل الذي عاش أحدَاثَهُ في رحاب هذه الزوجة المباركة !

ثم قلتُ لنفسي: هنا وقف محمدٌ صلى الله عليه وسلم ينظرُ إلى الدنيا من علٍ، يحتقر متاعها الزائف، وبهرجتَها الخادعة، ويقضي أوْقاتاً طويلة بين صخور صماء، وهو يتأملُ بعمقٍ في خلْقِ الأرضِ والسماء، ويزدادُ قرباً من مولاه .. ليكونَ بعدَ ذلك نبيّهُ ومُصطَفاه .

بل يقضي الليل كلّه بمفرده في هذا المكان الموحش، لا يخشى ظلمته، ولا يخافُ من سكونه ورهبتِه، وكيف يخاف وهو في معية القوي الجبَّار، الذي أذل أعناق الجبابرة .. وأهلك الطغاة والأكاسرة .

خلوةٌ إيجابية تقوم على التفكّر والتدبر والتأمل في كتاب الله المنظور، حيث السموات والأرض وما بينهما من مخلوقات تنطقُ بوحدانية الخالق سبحانه وتعالى .

هذا البناء الروحي العميق جعل من صاحبِه شخصيةً فريدة، قادرةً على حملِ رسالة خالدة، يضحي براحته من أجلها .. ويعملُ جاهداً على نشْرِها، إضَافةً إلى تربيةٍ ساعدته – صلى الله عليه وسلم – على تحمّل المحنِ والأزمات، والتعامل بحالةٍ من الرّضا مع الشدائدِ والابتلاءات، فلم يسخط يوماً، ولم ييأس لحظةً، بل عاش والأملُ ملءُ َ جوانِحه، حتى في أصعبِ اللحظات .

وأيقنتُ أنّ الأماكنَ والبقاعَ لا تكتَسبُ مكانةً في قلوبِ النّاسِ من ذاتها، وإنّما يرفعُ قدرَها ويُعلي شأنَها أناسٌ عاشوا على ترابها .. وحقّقوا إنجازاتٍ وأعمالاً جليلةً على أرضها !

فحفظَ لهم التاريخُ صنيعَهم … وذكر للبشريةِ شمائِلهم وأفضالَهم .

وانقضت تلك اللحظات الجميلة، وعدتُ إلى الواقع الأليم الذي تمرُّ به الأمة، وفكَّرتُ في السبيلِ لنهضتها فوجدتُ أنّنا في حاجةٍ إلى رجالٍ تربّوا تربيةً عميقة، يكونُ للخلوة والعزلةِ الشّعورية نصيبٌ منها، ليتزودوا بزادِ الإيمان، وتتحلى نفوسهم ببديعِ الإحسان .

وتخلُو قلوبُهم من حُبِّ الدنيا والتعلق بها، ليؤدوا دورَهم في مجال دعوتهم كما أدّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتخلَّقوا بأخلاقِه، ويتَّصفوا بصفاته، ليغيِّر الله من حالهم من الابتلاء المبين .. إلى النَّصرِ والتَّمكين .

علاء الصفطاوي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.