
كتب/ هاني حسبو.
في السابع عشر من شهر مارس 2025 توفي الشيخ الحوينى.
جملة مفتاحية للغوص في حياة شخص مسلم وهب حياته كلها لدين الله عز وجل.
اعتقد ان هذا التاريخ يجب أن يكون ميلاد الحويني الحقيقي فمنذ ذلك التاريخ عرف الناس ما لم يكونوا يعرفونه عن الشيخ رحمه الله تعالى.
وإلي وقت كتابة هذه الكلمات نجد جوانب خفية في حياة هذا الرجل.
ابرز هذه الجوانب وجلها هو تمسكه الحقيقي بالسنة النبوية الذي ظل طوال عمره يدافع عنها وعن صاحبها صلى الله عليه وسلم.
يروي ابنه هناد جانب من هذا التمسك في منشور له منذ أيام:
هذا المقال قد يطول، لكنه -مهم جدًّا جدًّا-
أروي فيه بإذن الله ما يتعلّق بالصلوات الخمس، وكيف كان أبي رُضوان الله عليه شديد الحرص عليها، وماذا كان يقول لي عند كلّ صلاة، مستشهداً بمواقف وذكريات محفورةً بداخلي أردتُ أن أشاركها معكم.
أوّلًا: أسأل الله أن يكون هذا خالصًا لوجهه الكريم، وأن يكُون في ميزان حسنات أبي، فلعلّ دعاء رجلٍ صالح منكم يرفعه الله به الدّرجات في الجنّة.
ثانيا: أن أدلّ به الناس على الخير، فلعلّ قلباً حاضراً يقرأُ فيهتدي ويُصْلِحَ حاله مدركاً أن لا تهاون في الصلاة، فهي أول ما يُحاسبُ عَليهِ العبد.
•••
[نبدأ بصلاة الفجر، أول الصلوات].
كان أبي رُضوانُ الله عليه يستعدّ قبل أذان الفجر بربع ساعة، ثم ما يلبث أن يأتي إلى غرفتي بنفسه ويوقظني بكلمات لا أنساها: “يلا يا هَنَّاد… الفجر يا ابني… يلا علشان منتأخّرش.” وكان من حرصه لا يُغادرُ الغرفة حتى يتأكّد من أنّني قد استيقَظتُ فعلًا كي لا يفوتني هذا الأجر العظيم. وحين يؤذّن المؤذّن أكون قد توضّأت، فيبدأ هو حديثه المعتاد بالتّذكيرِ عن سنة الفجر، الركعتين الخفيفتين اللتين قال عنهما النبي ﷺ: “ركعتا الفجر خيرٌ من الدنيا وما فيها”.
(تَخيّل يا ابنِي، خيرٌ من الدّنيا ومَا فيها!! يعني كُل الدّنيا دي اللي انت شايفها وشايف الناس وهم بيتخانقوا عليها، واللي يقتل دا بغير حق، واللي يظلم واللي يفتري، أهو الركعتين دول خير من الدنيا وكل الحاجات اللي بيتصارعوا عليها.. تخيل!!).
وأُضيف هُنا أمرًا وهو أنّه رَحمةُ اللهِ عليه كان يوقّر عقل كلّ من تعامل معه، صغيرًا كان أو كبيرًا، فيُخاطب كلّ امرئٍ بما يناسب فهمه، ويستنهض همّته بما يُلائم حاله.
فإذا رآني قد استيقظت مثقَل الجسد كليل النفس لا نشاط فيّ لم ينْهرنِي، بل يُذكّرني -بعظمة ما أيقظني من أجله- وبجلال المقام الذي أقف فيه بين يدي الله في هذا الوقت، فيُحيي في قلبي الخشوع حتى أُقبِل على صلاتي إقبال المُحبّ المشتاق، لا المُتثاقل المُتهاون.
فبعد أن صلّى سُنّة الفجر فِي البيتِ، خرجنا في طريقنا إلى المسجد وأنا سائـرٌ إلى جانبه، فالتَفتَ إلَيّ مرّةً قائلاً لي: “انت ساكت ليه يا هنّاد؟”
فأجيبه: “هل فِي حاجة مُعيّنة يا أبِي أقولها؟”
فيقُول: واحنا رايحين قُول “سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم.”
ثم يضيف: عارف يا هَنّاد ايه فايدتهم؟ قال رسُول الله ﷺ: “كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن.” يعني دول يا هَنّاد أحبّ الكلام إلى الله.
وَأُنوّهُ أن هذه كانت وصية شخصية منه إليّ، لا إلزامًا متكرّرًا في كل مرّة نمضي فيها إلى المسجد، وإنما كانت نصيحةً يقدّمها من قلبٍ امتلأ حبّه بذِكر الله.
وبعد أداء الصلاة في الصف الأول.
وفي أثنَاءِ عودتنا قائلا لي: (أهو كدا يا عم بقيت في حفظ الله ورعايته) قال النبي ﷺ “من صلّى الفجر في جماعةٍ، فهُو في ذِمة الله” أي: في حفظه ورعايته.
فيصمت قليلًا، ويقول: (هنبدأ بقى بأذكار الصّباح، وأولها):
(لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير).
ثم يلتفت إليّ ويقول: عارف يا هَنَّاد… دي بتديك خمس حاجات عظيمة:
١. تاخد مئة حسنة.
٢. تُحطّ عنك مئة سيئة.
٣. تكون حرزًا لك من الشيطان في يومك هذا.
٤. تعتق بها عشر رقاب من ولد إسماعيل.
٥. لم يأتي أحد يوم القِيامة أفضل منك، إلا رجل زاد عليك.”
*مفيش حد يابني يفوّت الأجر العظيم دا إلا مستهتر*.
وأخيرًا، قبل أن يدخل إلى البيت يقول “يلا بقى نصحّي البيت.” ثم يمسك هاتفه، ويتّصل بواحدٍ تلو الآخر، يوقظهم لصلاة الفجر، كأنما يرى في ذلك واجبًا لا يُؤخَّر، ورسالة لا تُؤجَّل. وكيف لا وهو يتأسّى بحبيبه صلى الله عليه وسلم، الذي قالَ: “أيقِظوا صواحب الحُجَر”. وأيضاً في روايةٍ أنّهُ ﷺ شَدّ مئزره، “وأيقَظَ أهلهُ”
فلم يكن ذلك مجرّد عادة عندهُ، بل كان عنده أمانة يرَى وجُوب فعلها.
•••
[ثم نأتي إلى صلاة الظهر].
تلك الصّلاة التي خاضها بعزيمة وإصرار، وكأنها نزالٌ يسعى فيه إلى نصرٍ.
كنت أرى منه فيها عزمًا لا يُوصف والله، تخيّل أن تكون الشمس في أوْجِها، والحرارة قد بلغَت الـ 48 درجة، وهو لا يأبه، بل يبدأ بالاستعداد قبل الأذان بنصف ساعة، يتوضأ ويبدّل ضمادات جروحه.
وفي هذا السياق، أود أن أذكر شيئاً.
فقد كان في قدمه جرحٌ بليغ، حذّره الأطباء من جريان الماء عليه لما في ذلك من خطرٍ على صحته، ولكنه واللهِ في كل مرة يتوضأ فيها، كان يخلع الضمادات ويغسل قدمه كاملة بالمياه غير مبالٍ، ويقول لنا: “دا مش عذر.. دا مش عذر”، وكان لهذَا بعد ذلك آثار سلبية على أصابع قدمه.
ثم إذا أذّن المؤذن انطلق بكرسيه المتحرّك إلى المسجد، وكأنك ترى شابًا في عُنفوان شبابه.
كان رُضوانُ الله عليهِ حريصًا أن يكون أوّل من يدخل المسجد.
بل في كثير من الأيام يذهب قبل الأذان، ويطرق باب المسجد انتظاراً من العامل أن يفتحَ لهُ الباب، حتى تعوّد الرّجل على قدومه المبكّر واعتاد انتظَاره وفتح الباب له.
يبدأ بتحية المسجد، ثم يصلّي أربع ركعات قبل الظهر، وأربعًا بعدها والتِي ما رأيتهُ يوماً تركها، فسألته يومًا: لماذا هذا الإصرار على السّنّة القبلية والبعدية؟
فأجابني قائلا: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “من صلّى أربعًا قبل الظهر وأربعًا بعدها، حرّمه الله على النار.”
(وهل يوجد عاقل يا بُنيّ يفرط بها؟!!
أوَ أمِنَ أحدٌ أن يُنجيه الله من النار؟!)
•••
[ثُمّ نأتِي إلى صلاةِ العصر].
كان شديد الحرص على أن يأتي المسجد قبل الأذان بوقتٍ كافٍ ليتهيّأ للصلاة بقلبٍ حاضر.
فما إن يدخل حتى يبتدئ بتحيّة المسجد، ومن ثم يتبعها بأربع ركعات قبل الصّلاة، مستنًّا بحديث النبي ﷺ: “رحم الله امرأً صلى أربعًا قبل العصر.”
وفي رجُوعنا مرّةً قال لي: كدا احنَا صلّينا الفجر ودلوقتي العصر صح؟
(الملائكة يا هَنَّاد بتغيّر الورديّات في الصلاتين دول)
قَال النبي ﷺ: “يَتَعَاقَبُونَ فِيكم مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ، وملائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيجْتَمِعُونَ في صَلاةِ الصُّبْحِ وصلاةِ العصْرِ، ثُمَّ يعْرُجُ الَّذِينَ باتُوا فِيكم، فيسْأَلُهُمُ اللَّه وهُو أَعْلمُ بهِمْ: كَيفَ تَرَكتمْ عِبادِي؟ فَيقُولُونَ: تَركنَاهُمْ وهُمْ يُصَلُّونَ، وأَتيناهُمْ وهُمْ يُصلُّون”
وقبل دخُولنا البيت مرّةً قال لِي: قال رسُول الله ﷺ: “من صلّى البردينِ دخَلَ الجنّة”
(اللي هَمّ يا هَنَّاد -الفجر والعصر-)
•••
[ثَمّ نأتي بعد انتهائه من صلاتي المغرب والعشاء بسننهم الرّواتب في الجماعة].
وفي نهاية يومٍ قال لي أثناءَ عودتِنَا: (تعرف إيه هي أثقل صلاة على المنافقين؟؟ -صلاة الفجر وصلاة العشاء-
اللي احنا صليناهم.
وفي أحد الأيام، بعدما انقضى اليوم، التفت إليّ قائلاً:
(بِصلاتنا للعشاء دلوقتي، كدا احنا قمنا نصف الليل، وبصلاتنا للفجر القادم كأنّنا قُمنا الليل كُلّهُ)
(وُهُوّ يا ابنِي فِي حد عنده العزيمة والإصرار (إلا ما وفّقه الله) إنّه يقوم يصلّي الليل كله، كل يوم؟! إنما شوف كرم ربنا! تصلي العشاء والفجر في جماعة، يكتبلك أجر قيام الليل كله).
وَيُضيف: (دِينُنا هذا يا بُنيّ دينُ يُسرٍ لا دينُ عُسرٍ).
ثم أضاف: (فالذي ينشد النجاة، ويبتغي الجنّة لا يفرّط في مثل هذه الأعمال، بل يتمسّك بها كما يتمسّك الغريق بطوق النجاة.)
ومع ختام اليوم بالصلوات الخمس في المسجد، وقد أُتْبِعَت بسُنَنها الرواتب، يقُول لي: قال رسول الله ﷺ:
“من صلّى في اليوم اثنتي عشرة ركعة، بنى اللهُ له بيتاً في الجنة.”
-والمقصود بهذه الركعات: السُّنن الرواتب-.
وختامًا أقول: مما لاحظته من قربي منه، أن أبي رُضوانُ الله عليه إذا وجد سبيلاً لإقناعي بالدليل، لم يتأخر لحظةً في طمأنتي، حتى أُقبل على الطاعة بقلبٍ محبٍّ لا مُكره.
لم يكن من طباعه أن يُرغم أو يُجبر، بل كان يقدّمُ الكلمة الطّيبة ويستدلّ بالآيات والأحاديث حتى يغرس في نفسي محبّة الطاعات، ويشرح لي المعاني العظيمة التي تجعلني أشعر بعظمة ما أنا مُقدم عليه.
وهنا نصيحة للآباء: أن استعينوا بالدليل، وازرعوا المعنى أولاً كما كان يفعل أبي رضوان الله عليه مُتأسياً بنبيّه الكريم ﷺ، فإن النفوس إذا أُقنعت بِحُبّ، استجابت بإخلاص.
وأُضيف إلى ذلك أن أبي رحمةُ الله عليه كان يفعل ذلك معنا جميعًا بدءًا من أخي الأكبر وصولًا إليّ، فلم يُقصّر يومًا في بذل جهدٍ أو تقديم نصيحة، بل سعى بوقته وجهده ليعلّمنا تعاليم ديننا، ويغرس فينا حبّ الطاعة، والحرص على الاستقامة.
وأسأل الله تعالى أن يكون قد بلّغ، وأن يكون قد علّمنا حقًا، وأن يجعلنا ممن يعملون بما علّمنا به، فنكون له حُجّةً يوم القيامة، لا عليه.
اللَّهُمَّ اغفِرْ لأبي، وارْحَمهُ رَحْمةً واسعةً، وجازِهِ عنَّا خيرَ الجزاءِ على ما خلَّفَ من أَثَرٍ طَيِّبٍ وسِيرةٍ عَطِرةٍ نقتفي بها أَثَرَه، واجعلْنا من اللاحقينَ بهِ في جَنَّاتِ النَّعيمِ، في مَقْعَدِ صِدقٍ عندَ مَلِيكٍ مُقْتَدِر.
هذا الجانب من حياة الشيخ يرد على من يقول إن المشتغلين بالحديث ليس عندهم فقه بالحديث فهم مجرد ناقلين فقط وعندهم قسوة في القلب.
وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.