الفن والثقافة

الحادث و الميراث.. قصة قصيرة

 

صرخت بأعلي صوتها .. تنادي على جارتها .. اتصلي بأولادي .. أنا في المستشفي الدولي .. حسني عمل حادثه .. كلمات قليلة و تاكسي تصادف مروره نقلها لإستقبال الطوارئ و بلهفة وحب وعشرة السنوات سألت عليه .. أخبروها أنه في العمليات وحالته خطيرة .. جلست تنتظره و بين الحين و الأخر تستقبل أحد أبنائها تقول لهم بكلمات تخرج من الفؤاد .. أبوكم في العمليات حالته خطيره يارب نجيه .. جلسوا جمعيا وكأن على رؤسهم الطير .. عيون زائغة و قلوب تنبض و الوقت يمر .. والهواجس تزداد .. كلما طال الوقت  دخل في قلوب البعض الإطمئنان .. هو قوي بما يكفي و سيخرج سالما .. و قلق البعض فطول العمليه يعني خطورتها ..

هي جالسة لا تفكر إلا بحضنه الدافئ و كلماته الودوده  .. لم تحبه يوما قدر ما أحبته اليوم .. عند إحساس الفقد تبرز قمة المشاعر .. خطوته ومرحه وكرمه .. عمقه و قوة فكره .. حدته وغضبه لما يؤمن به .. شكوته من تفاهة أبنائه و سطحية أقربائهم .. قلمه و أسلوبه البسيط البليغ كان يصل لقلبها فيدق كما دق لأول رسالة أرسلها لها بعد خطبتها .. مرت في لحظات أوقات الشدة و الرخاء و منحنيات كثيرة وعرة .. وغطاء ثقيل تحملا ضغطه ليمنعا عن أولادهما ضغوط الحياة .. آه .. حسني .. لا تتركني الآن .. ربي أعني .. لا أتحمل فقده

هزتها يد إبنتها الكبري .. الدكتور خرج من العمليات .. وقفت أمامه … لاتدري .. أتفرح لنجاته أم تحزن لما أصابه .. ولكن يكفي أنه سيتنفس بين يدي .. سأعيش أخدمه .. يكفي أن أتنفس رائحته في بيتنا … سأطعمه بيدي و أبدل له ثيابه .. وخلال النهار و الليل سنسمع و نقرأ ما يحب …

الطبيب يقول فقد قدرته على الحركة و الكلام .. كيف يقولها أنا أعضائه ؟

وزعت الأوقات بينها وبين أبنائها خلال الأسبوع الأول من قدومه لمنزلهم .. كل منهم سيتفرغ له ساعات محددة من النهار ويتركوه لها معظم اليوم حتي حضور ممرضة متمرسة طلبتها من الفلبين لتكون بجواره لتدريبات العلاج الطبيعي.

جلست إحدي بناته بجواره .. تتأمل حركة عينيه و إيماءاته .. وضعت يدها لترتب له خصلات نافرة من شعره و لتعطيه إحساس أنها بجواره تراقبه و تخدمه … لم تستطع أن تجبر نفسها على الإبتسام  .. لاتدري أتحبه أم تكرهه .. المقارنه بينه و بين آباء صديقاتها ظالمة لهم .. حتي بينه و بين زوجها .. ولكنه كان قوي بما يكفي ليفرض قوانينه على البيت كله و يحرمها من ممارسة الكثير مما كانت تصبو أن تفعله في طفولتها و شبابها .. إنها مازالت تلك الطفلة التي تتطلع للعب في ثياب الإستحمام على الشاطئ أو تتباهي بقصر ملابسها بين بنات الجيران .. صورتها بالعباءة تؤلمها … تصيبها بحالة من الهيجان والجوع في نفس الوقت .. أرادني ملاكا و لم يكن يدري أن شيطانا صغيرا يعيش داخلي يحب العبث و تمنعني القيم التي بثها داخلي من مجاراته .. هل أحكم على مشاعري تجاهه لسنوات قليلة فقدت الحرية فيها .. أعطاني حرية الحركة خلال سنوات حياتي كلها ولكنه كان مراقبا دائما لملابسي .. وكأنها الحصن المنيع ضد التبذل و الإنهيار .. هل ظلمته أم ظلمني ؟ لم يبخل علي يوما في مصروف أو جودة لباس أو مناقشة حتي تحرري و لكني فقدت طفولتي وجزء من شبابي.. هل هو مجرد عذر أقوله أمامه لأبرر تحرري و رغبتي في كسر القيود..  لم يبق من حيائي سوي حجاب ليس بحجاب . هل فرحت لإنكساره أخيرا وعدم كلامه وحركته ؟ إنها فرصة للقفز لماضي مستعاد بلا رقابة

دخلت أمها وأمسكت بيده ونظرت إليها و كأنها تؤنبها .. فبدلا من اللوم المستدام .. تذكري كيف وفر لنا ميزاناً للقيم وأحاط معصمنا بسوار لمعني الحساب

جلست الإبنة الأخري في ورديتها ممسكة بيده و تبكي .. حرمت منك صغيرة لكثرة أسفارك و لكنك كنت قلبي الذي ينبض وعيني التي أنظر بها .. عندما تجلس بيننا نلعب أو تحاول شدنا لفكرة لا نفهمها كنت أتابع نظرتك بفخر لي و أنا أجيبك على تساؤلاتك .. لم أكن أدري أنك كنت تنتقي من المعلومات أبسطها حتي أزهو بالإجابة عليها … عندما أتيت بأول أبنائي وجدت حبك قد أحاطه .. غلفه .. أطلقت في داخله الطاقات .. حبيبي .. لا تتركنا .. لم نشبع بعد منك .. دخلت أمها وإحتضنتها وكأنها كشفت مابداخلها فكلاهما كان يمثل لهما الجزء المفقود بداخلهم .. تبادلا الأحاسيس و إنصرفت.

كنت تمثل لي مورد للمال و لتلبية رغباتي .. لم أشعر تجاهك بعاطفة جياشة فتقييمي للأمور هو ما تحققه لي من أحلام .. كنت دوما تسقط في إمتحاناتي التي أعقدها لك .. المقارنة بينك و بين آباء أصدقائي ظالمة لك .. لم أكن أدري أنك عندما تمنع عني رغبة فذلك بمثابة عطاء … كم كنت قاسيا عليك ؟ بل كم كنت غبيا .. لم أكن أصدق حديثك الجانبي لي عن أزمة تمر بها وتطلب مني الصبر أو المشاركة في الحل .. ظننت دوما أنك تخفي ما لا نعلمه .. عشت بعيدا عنك أحمي نفسي بأسوار زائفة طالما حذرتني منها .. وعندما أفقت أخيرا .. تنام أمامي بلا بحراك .. ماذا أفعل لك لتسامحني ؟ ولبكائه الشديد دخلت الأم لتضع يده في يد أبيه و كأنها تقول هذا ما كان يحلم به أبوك دوما فلا تحرمه منه ….

سأقرا لك اليوم بعضا من كلماتك .. وكنت دوما الذي تقرأ لي .. لم أشك لحظة في حبك و لذا تحملت شططك .. داخلك كان دوما مشروع فنان .. إمتلكت أحاسيسه و لكنك ضيعت مهاراته .. و رغم ذلك فالقليل الذي تركته يكفيني

أغلقت الكتاب وشعرت بدفء يسري في  أطرافه قبلت يديه و إستغرقت في نوم عميق

من ابداع المفكر /عصام زايد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.