الخصوصية في العصر الرقمي: بين الحق الإنساني والانتهاك التكنولوجي

بقلم / د. هناء خليفة
في زمنٍ أصبحت فيه البيانات هي الذهب الجديد، باتت الخصوصية واحدة من أكثر القضايا تعقيدًا وإثارة للقلق في العصر الرقمي. فكل ضغطة زر، وكل إعجاب، وكل عملية شراء عبر الإنترنت، تحوّلنا تدريجيًا إلى كائنات شفافة، مكشوفة أمام أنظمة الذكاء الاصطناعي، وخوارزميات تتبع السلوك.
الخصوصية: المفهوم والواقع المتغير
الخصوصية ليست مجرد حق قانوني، بل هي ضرورة نفسية واجتماعية. فهي التي تمنح الفرد شعورًا بالأمان والسيطرة على ذاته. ولكن في العصر الرقمي، تغيّر مفهوم الخصوصية. لم تعد مرتبطة فقط بالمكان أو المراسلات، بل أصبحت تشمل البيانات الشخصية، الموقع الجغرافي، الأنشطة الإلكترونية، وحتى نمط التفكير والسلوك.
أرقام تكشف الحقيقة
تشير إحصاءات شركة “Statista” لعام 2024 إلى أن:
-نحو 85% من مستخدمي الإنترنت يشعرون بالقلق حيال كيفية استخدام بياناتهم الشخصية.
-أكثر من 60% من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي لا يعلمون من يملك حق الوصول إلى بياناتهم.
أما في الاتحاد الأوروبي، فقد تلقت هيئة حماية البيانات أكثر من 160,000 شكوى خلال أول عامين من تطبيق اللائحة العامة لحماية البيانات (GDPR)، مما يعكس حجم القلق العام من انتهاك الخصوصية.
الذكاء الاصطناعي وخطر التنبؤ بالسلوك
تُظهر الأبحاث الحديثة أن أنظمة الذكاء الاصطناعي تستطيع تحليل أنماط استخدام الفرد والتنبؤ بتوجهاته وقراراته بشكل يفوق دقة أقرب المقربين له. ففي دراسة نُشرت بمجلة PNAS، تبيّن أن تحليل نقرات الإعجاب على فيسبوك يمكّن الخوارزميات من تحديد سمات الشخصية بدقة تصل إلى 90%، وهو أمر يحمل في طياته تهديدًا خطيرًا لاستقلالية الفرد الفكرية.
هل نحن الضحية أم الشريك؟
من اللافت أن كثيرًا من المستخدمين يوافقون على شروط استخدام التطبيقات دون قراءتها، مما يفتح الباب أمام شركات التكنولوجيا لجمع بيانات تفصيلية عن حياتهم. وهنا تُطرح إشكالية: هل نحن ضحايا للرقمنة أم شركاء في انتهاك خصوصيتنا بأنفسنا؟
الحلول الممكنة: وعي وتشريع وتقنية
١- الوعي الرقمي: يجب تعزيز الثقافة الرقمية لدى المستخدمين، خاصة الأطفال والشباب، ليكونوا على دراية بكيفية حماية خصوصيتهم.
٢- التشريعات: من الضروري وجود قوانين صارمة تنظم جمع البيانات واستخدامها، على غرار اللائحة الأوروبية.
٣- التقنيات البديلة: مثل متصفحات تحترم الخصوصية (مثل Brave)، ومحركات بحث غير تتبعية (مثل DuckDuckGo)، وتطبيقات تشفير البيانات.
إن الخصوصية في العصر الرقمي ليست ترفًا، بل هي معركة مستمرة للحفاظ على إنسانيتنا في مواجهة أنظمة تُصمم لتعرف عنا كل شيء. وبين الحاجة للتواصل والاستفادة من التكنولوجيا، تظل المعادلة الأصعب: كيف نكون رقميين دون أن نكون مكشوفين؟
دكتورة هناء خليفة
دكتوراة في الإعلام من كليه الاداب جامعه المنصورة
مهتمة بقضايا الفكر والوعي