العنصر البشري مشعل الحضارات وسر الخلود

بقلم / مدحت سالم
يُعتبر العنصر البشري مشعل الحضارات وسر الخلود كما يؤكد المفكر المصري العظيم جمال حمدان عندما يقول (( إذا كنتَ تملك المال فأنت تملك القليل وإذا كنتَ تملك الأراضي فأنت تملك أكثر لكن إذا كنتَ تملك العقول فأنت تملك كل شيء )) فهذا القول يضع حجر الأساس لفكرة أن الأمم لا تُبنى على الثروات المادية وحدها بل على قدرات عقول أبنائها
**أساس الأمم والنهضة
لا تقوم الأمم على صروح الذهب ولا ترتفع بأبراج الفضة ولا تُبنى أعلامها من حجارة الأرض ومعادنها بل يكمن سر عظمتها في الإنسان الذي يحمل العقل المفكر واليد المبدعة والروح الوثابة التي ترفض الخضوع والسكون فالتاريخ يشهد أن الأمم التي عظمت كانت تلك التي امتلكت الإنسان القادر على تحويل المستحيل إلى ممكن والعدم إلى وجود.
**دروس الحضارة المصرية القديمة
لم تكن مصر القديمة تملك نفطًا أو مناجم ذهبتقدر بتسع العالم ،ولم يكن اقتصادها معتمدًا على السياحة أو التجارة الدولية كما هو الحال اليوم، لكنها امتلكت شيئًا أعظم وأبقى إذ امتلكت الإنسان والفكر الذي أقام الأهرامات والعلم الذي أبدع الهندسة والرياضيات والإدارة التي نظمت أعقد نظام بيروقراطي عرفته العصور فصارت منارة للحضارة ومدرسة للبشرية استلهم منها الإغريق والرومان وارتقت حضارات أخرى على أكتاف علمائها.
**النموذج العالمي في التقدم
يبرهن التاريخ على أن العنصر البشري هو لبنة البناء وأساس النهضة فليس النفط هو من أنهى أنقاض الحرب العالمية الثانية في اليابان بل كان الإنسان الياباني الذي لم يعرف المستحيل هو الثروة الحقيقية التي صاغت معجزة التقدم كما أن التخطيط السليم والعقل المستنير والإنسان المتعلم هي الأسس التي حولت سنغافورة من جزيرة فقيرة إلى مركز مالي عالمي، وليس الفحم والحديد هما من أعادا ألمانيا كعملاق اقتصادي بعد الحروب بل كان الانضباط والعمل الدؤوب والابتكار هي مفاتيح النهضة.
**قيمة العقول على الثروات الطبيعية
كما يقول كيوان يو مؤسس سنغافورة الحديثة (( المال يفنى والأرض تُستنزف أما العقول فكلما زاد استثمارك فيها زادت إنتاجًا وتجددًا )) فلو كانت الثروات تصنع الحضارات لما كان حال الكثير من الدول المليئة بالنفط والمعادن كما نراه اليوم، ولما بقيت أمم تمتلك مساحات شاسعة من الأرض في فقر وتخلف بينما تقود أمم صغيرة المساحة قليلة الموارد العالم بفكرها وتقنياتها وإبداعها، فالثروات الطبيعية نعمة إذا استثمرها الإنسان بالشكل الصحيح، ونقمة إذا سُئ استخدامها دون تخطيط أو إنتاج.
**الحضارة الإغريقية وأصولها
لم تنشأ الحضارة الإغريقية –مهد الفلسفة والفكر الغربي– من فراغ أو من بيئة واحدة، بل كانت امتدادًا وتفاعلاً مع حضارات أقدم وأثقل في التاريخ إذ استفادت من مصر وفينيقيا وحضارات الشرق الأدنى واستلهمت منها علومها ومعارفها، كما أكد المؤرخ مارتن برنال في كتابه الشهير (( أثينا السوداء الجذور الأفروآسيوية للحضارة الكلاسيكية Black Athena: The Afroasiatic Roots of Classical Civilisationo ))الذي أثار جدلاً واسعًا حينما قدم أدلة على أن جذور الحضارة الإغريقية ليست أوروبية خالصة بل لها امتدادات أفريقية وآسيوية تم التعتيم عليها في العصر الحديث ضمن سياقات استعمارية وفكرية
**التفاعل الحضاري وأثر العقول
تؤكد هذه الحقائق أن الأمم لا تعيش في عزلة عن بعضها وأن التقدم ليس حكرًا على أحد، إذ تتفاعل الحضارات وتتمازج، وما يميز أمة عن أخرى ليس امتلاكها للموارد الطبيعية بل قدرتها على توظيف عقولها والاستفادة من معارفها وتطوير ذاتها عبر العصور؛ فالأمم التي تدرك هذا السر تبني نهضتها بإرادة أبنائها، بينما تظل الأمم التي تغفل عن ذلك أسرى الأوهام
**رؤية فلسفية خالدة
يقول أفلاطون: (( أعطني إنسانًا متعلمًا واعيًا حرًا وسوف أبني لك أمة حتى لو كان في صحراء قاحلة، ))فتلك الكلمات تعكس حقيقة أن النهوض لا يتحقق إلا بالاستثمار في العقول التي تبني الأمم وتجعلها تتقدم رغم التحديات
**ختاماً
ما سبق هو شهادة حية على أن العنصر البشري هو حجر الأساس في بناء الوطن، فهو القوة التي لا تُقهَر والسلاح الذي لا ينضب، فكما أن المصري القديم أنار العالم القديم فإن المصري الحديث قادر على أن يكون شعلة التقدم في هذا العصر، إذ تلهب كلماته الحماس وتذكي روح التحدي وتدفع للعزائم للبناء والعمل، مما يجعلنا ندرك أن سر النهوض يكمن في عقولنا وإرادتنا وإيماننا بأننا لسنا أقل من غيرنا، وبأن الرؤية والإرادة تفتحان آفاقًا لا تحدها العقبات، وفي الختام يبقى القول الخالد لنابليون بونابرت: (( إن أعظم ثروة لأي أمة ليست ما في خزائنها من ذهب، بل ما في عقول أبنائها من أفكار )).
مدحت سالم
كاتب وباحث