القوة الناعمة لمصر بين أصالة الماضي وإبداع المستقبل

بقلم /مدحت سالم
القوة الناعمة ليست مجرد أداة استراتيجية في يد الدول بل هي انعكاس حقيقي للهوية الوطنية ومرآة للقيم والثقافة والحضارة التي تشكل روح الأمة فهي القوة التي تمتلك القدرة على تجاوز الحواجز وتخطي الحدود دون أن تثير الصراعات أو النزاعات هي قوة تنساب كالنهر العذب إلى القلوب والعقول لتبني جسور التواصل والسلام في عالم تتقاذفه الأزمات.
مفهوم القوة الناعمة
القوة الناعمة (بالإنجليزية: Soft power), هو مفهوم صاغه جوزيف ناي من جامعة هارفارد لوصف القدرة على الجذب والضم دون الإكراه أو استخدام القوة كوسيلة للإقناع. في الآونة الأخيرة تم استخدام المصطلح للتأثير على الرأي الاجتماعي والعام وتغييره من خلال قنوات أقل شفافية نسبياً والضغط من خلال المنظمات السياسية وغير السياسية.
صاغ جوزيف ناي -(( مساعد وزير الدفاع الأمريكي لشؤون الأمن الدولي سابقًا)) – هذا المصطلح في كتابه الصادر عام 1990 بعنوان «مُقدرة للقيادة:الطبيعة المتغيرة للقوة الأميركية». كما قام بتطوير المفهوم في كتابه الصادر عام 2004 بعنوان «القوة الناعمة: وسائل النجاح في السياسة الدولية»، يستخدم المصطلح حالياً على نطاق واسع في الشؤون الدولية من قبل المحللين والسياسيين.
يقول الداهيةالعسكري نابليون بونابرت :(( قوة الفكرة أعظم من قوة السلاح لأن الأفكار تصمد أكثر من الجيوش.)).
وقد سبقهم علامة ومؤسس علم الاجتماع ابن خلدون بعدة قرون جوزيف ناي في صياغة القوة الناعمة بقولة :(( التأثير الحقيقي في الأمم لا يتحقق بالقهر، بل بالعمران والثقافة والفكر الحضارة هي أداة التأثير الكبرى التي تجعل الأمم تُحترم وتتبع دون حاجة للسيف.)).
ثروة متجذرة ومتجددة
ومن هنا وحين نتحدث عن القوة الناعمة في سياق مصر فإننا نتحدث عن ثروة لا تقدر بثمن ثروة متجذرة في أعماق التاريخ ومتجددة عبر الأجيال. مصر ليست دولة عابرة في ذاكرة الإنسانية بل هي منبع الحضارات ومهد الثقافات هي التي أهدت العالم أول أبجدية وأول معمار وأول فكر فلسفي وديني .مصر التي أنجبت المصريين القدماء الذي بنو الأهرامات ،وكتبت صفحات مضيئة في تاريخ العلم والأدب والفن هي اليوم تمتلك من مقومات القوة الناعمة ما يجعلها قادرة على استعادة دورها الريادي في ظل عالم مضطرب يعاني من ضبابية الرؤية وتشابك المصالح
القوة الناعمة في مصر ليست وليدة اللحظة بل هي امتداد لتاريخ طويل من التأثير الحضاري والثقافي الذي ترسخ في وعي الشعوب على مر العصور تتجلى هذه القوة في عناصر متعددة تشمل الثقافة والحضارة والفنون والتعليم والإعلام والدبلوماسية
يمكن لمصر أن تستثمر قوتها الناعمة بعدة طرق أبرزها :-
١- الثقافة والحضارة المصرية تعد حجر الزاوية في بناء القوة الناعمة المصرية فهي ثقافة تنطق بالعمق والتنوع والغنى ثقافة تحمل في طياتها عبق الماضي وألق الحاضر فمن الآثار الفرعونية الشامخة إلى الفنون الإسلامية المتألقة ومن التراث القبطي العريق إلى الأدب العربي الحديث تظل مصر نبراسًا ثقافيًا يشع على العالم أجمع
٢- أما الفنون فهي لغة القوة الناعمة التي تفهمها الشعوب جميعًا بغير ترجمان السينما المصرية التي تعد رائدة في العالم العربي والموسيقى والغناء اللذان يعبران عن الروح المصرية ببساطتها وعمقها يشكلان أدوات رئيسية لنشر القيم المصرية والتأثير في الوجدان العربي والأفريقي
٣- التعليم أيضًا يمثل أحد أبرز مقومات القوة الناعمة في مصر فالجامعات المصرية كانت ولا تزال قبلة للطلاب العرب والأفارقة الذين ينهلون من معين العلم والمعرفة في ربوعها وعلى رأسها جامعة القاهرة وجامعة الأزهر الشريف
٤- الإعلام المصري بدوره يشكل نافذة واسعة للتأثير والتواصل مع العالم فهو الإعلام الذي لطالما كان صوتًا للحق ومنبرًا للتنوير في المنطقة العربية ويظل قادرًا على مواكبة العصر إذا ما أُعيدت صياغة رسالته ليكون أكثر انسجامًا مع تطلعات الشعوب
٥- في ظل الأوضاع العالمية الراهنة التي يشوبها الكثير من الضبابية والاضطراب تبرز الحاجة الملحة إلى توظيف القوة الناعمة المصرية بشكل استراتيجي ومبتكر العالم اليوم يعيش في خضم صراعات سياسية واقتصادية وثقافية متشابكة حيث تتراجع أدوات القوة الصلبة أمام الحاجة إلى بناء علاقات قائمة على التفاهم والإقناع هنا يأتي دور مصر بما تمتلكه من إرث ثقافي وحضاري وما تحمله من رسالة إنسانية سامية
٦- إعادة هيكلة الصناعات الثقافية والإبداعية بحيث تصبح قادرة على المنافسة عالميًا سواء في مجال السينما أو المسرح أو الأدب أو الفنون التشكيلية مع دعم الفنانين والمثقفين وتشجيعهم على تقديم أعمال تعكس الروح المصرية الأصيلة
٧- أما على الصعيد الدبلوماسي فإن تفعيل القوة الناعمة يتطلب إعادة إحياء فكرة الدبلوماسية الثقافية والفنية من خلال تنظيم فعاليات ومؤتمرات دولية تهدف إلى تعزيز الحوار بين الشعوب وبناء جسور جديدة من التعاون الثقافي والعلمي
٨- على الصعيد الإقليمي يمكن لمصر أن تعزز من مكانتها الريادية في العالم العربي عبر دعم المشاريع الثقافية والفنية المشتركة وإقامة معارض فنية ومهرجانات في الدول العربية لتعزيز الترابط الثقافي وتوحيد الهوية العربية
٩-أما على المستوى المحلي فإن تفعيل القوة الناعمة يتطلب إعادة النظر في منظومة التعليم وتطويرها بما يواكب العصر وتشجيع الصناعات الإبداعية ودعم الفنانين والمثقفين وإعادة تأهيل المؤسسات الثقافية والتعليمية لتكون قادرة على المنافسة
إن توظيف القوة الناعمة في مصر لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال استراتيجية شاملة تضع في اعتبارها التحديات الداخلية والخارجية وتعمل على تعزيز مقومات الهوية الوطنية وترسيخ قيم التسامح والانفتاح والإبداع.
كما قال جوزيف ناي (( إن النجاح في استخدام القوة الناعمة يعتمد على جعل الآخرين يريدون ما تريد بدلاً من إرغامهم عليه )) وهو ما يتطلب من مصر تقديم نفسها كنموذج ملهم للقيم الإنسانية والحضارة المتجددة
القوة الناعمة لمصر ضرورة حتمية
**وفي ظل الظروف الراهنة فإن مصر لا تمتلك رفاهية إهمال قوتها الناعمة بل عليها أن تضعها في صميم استراتيجياتها الوطنية والإقليمية والدولية مصر التي أبهرت العالم بحضارتها في الماضي تستطيع اليوم أن تبهره بقيمها وثقافتها ورؤيتها المستقبلية
القوة الناعمة ليست خيارًا إضافيًا لمصر بل هي ضرورة حتمية وواجب وطني وإن كانت مصر قد علمت العالم الحضارة يومًا فإنها اليوم قادرة على أن تعلمه معنى التعايش والسلام من خلال قوتها الناعمة
بناء مستقبل أفضل للشعوب
إن القوة الناعمة لمصر لا تقتصر فقط على تقديم نموذج حضاري أو ثقافي يلهم الآخرين بل تتجاوز ذلك لتصبح وسيلة لبناء مستقبل أفضل للشعوب في محيطها الإقليمي والعالمي فالتأثير الناعم الذي يمكن لمصر أن تمارسه في محيطها العربي والأفريقي يعزز من قوتها الاستراتيجية ويجعلها حجر الزاوية في تحقيق الاستقرار والتنمية في المنطقة
*ومن أهم مظاهر هذا الدور هو تصدير نموذج التسامح والتعايش المشترك الذي تميزت به مصر على مر العصور فقد كانت ولا تزال موطنًا للتنوع الثقافي والديني والعرقي الذي أثبت قدرة المصريين على العيش في إطار من الوحدة الوطنية والانسجام الاجتماعي وإذا ما تمكنت مصر من تقديم هذا النموذج على الساحة الدولية فإنه سيكون بمثابة رسالة سلام تعزز مكانتها كدولة قائدة ورائدة
إن العالم اليوم في أمسّ الحاجة إلى نماذج تنشر الأمل في ظل ما يشهده من أزمات متزايدة وحروب متجددة وانقسامات مجتمعية تتفاقم وهنا يأتي دور مصر بقوتها الناعمة لترسيخ قيم التفاهم والحوار والتعاون بدلاً من الصراعات والتنافس السلبي
يمكن لمصر أن تركز جهودها في تطوير قوتها الناعمة على عدة مسارات استراتيجية
*أولها تعزيز الاستثمار في القوى البشرية من خلال التعليم والتدريب والابتكار إذ إن بناء أجيال تمتلك القدرة على الإبداع في مجالات الثقافة والفن والإعلام يعزز من قدرة مصر على التأثير في الآخرين
*ثانيها ضرورة تطوير الإعلام المصري ليكون أكثر شمولية ومواكبة للعصر مع التركيز على إنتاج محتوى يعكس الصورة الحقيقية لمصر كوطن للتعددية الثقافية والإنسانية والتاريخية وإعادة تصدير تلك القيم إلى العالم بأسلوب مبتكر وجذاب
ثالثها إعادة هيكلة الصناعات الثقافية والإبداعية بحيث تصبح قادرة على المنافسة عالميًا سواء في مجال السينما أو المسرح أو الأدب أو الفنون التشكيلية مع دعم الفنانين والمثقفين وتشجيعهم على تقديم أعمال تعكس الروح المصرية الأصيلة
إن نجاح مصر في استثمار قوتها الناعمة يتطلب رؤية استراتيجية متكاملة تأخذ بعين الاعتبار التغيرات السريعة التي يشهدها العالم اليوم وتعتمد على تكاتف الجهود بين الحكومة والمؤسسات الثقافية والإعلامية والفنية والتعليمية في سبيل تحقيق أهداف وطنية شاملة
وكما قال الدكتور مصطفى الفقي السياسي المعروف (( إن القوة الناعمة المصرية هي الكنز الذي يمكن لمصر أن تستند إليه في مواجهة التحديات الراهنة إذا أحسن استغلالها )) وهذا الكنز لا يقتصر على الماضي وإنما يمتد ليشمل الحاضر والمستقبل.
رسالة حضارية
ختامًا يمكن القول إن القوة الناعمة لمصر ليست مجرد وسيلة للتأثير في الآخرين بل هي رسالة حضارية تتجاوز حدود الجغرافيا والسياسة لتصل إلى القلوب والعقول فإذا كانت مصر هي أم الدنيا فإن قوتها الناعمة هي لسان حالها الذي يخاطب العالم بلغة الثقافة والقيم والسلام ومهما تبدلت الظروف فإن مصر بقوتها الناعمة قادرة على أن تكون نقطة الضوء في عتمة الأزمات ونبراس الأمل في عالم تتقاذفه رياح التغيير.
وأختتم مقالي بما قاله الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما في هذا الشأن (( القوة الناعمة ليست مجرد أداة سياسية بل هي انعكاس للهوية الوطنية وقدرتها على تقديم نموذج إيجابي للعالم فالدبلوماسية والثقافة هما وجه القوة التي تبني جسور التعاون بين الأمم.))
مدحت سالم
كاتب وباحث