الاسرة والطفل

المرأة العربية.. الخنساء نموذجا

الخنساء صاحبة القول المأثور: نحن نساء لرجالنا ورجال لغيرهم

بقلم/ إيمان أبو الليل

على مر العصور والمرأة العربية تتميز عن غيرها بالكبرياء وعزة النفس والثقة، كما تتميز بالرقة وعاطفة الأمومة وحب الأسرة، لهذا سنتعلم كثيرا من شخصية الخنساء.

اسمها تماضر بنت عمرو بن الحرث من بني سليم، لقبت بالخنساء لتشابه قصر أنفها بالظبي، ويعتبر هذا الوصف من الجمال والرقة للمرأة، ونشأت في بيئة الجزيرة العربية، تلك البيئة الصلبة القوية، والتي تميزت بشعرائها ووصفهم للبيئة المحيطة بهم، وتمتعهم باللغة العربية الرصينة، فلا عجب أن تتغنى الخنساء بالشعر فينجذب إليها الجميع.

الخنساء وهي ابنة سادة قومها، وكانت ترتشف الحكمة من الندوات التي كانت تنعقد في بيت أبيها، فتربت على قوة الشخصية وكانت صاحبة رأي لا يستهان بها.

زواج الخنساء 

هذا بالإضافة إلى جمالها وجاذبيتها وذكائها، الخنساء تلك المرأة التي جعلت كبار القوم يتقدمون لخطبتها، لما عرفوا عنها من حياء وذكاء وقوة وجمال، ولكنها كانت ترفض الزواج، حتى عاتبها أخويها، وعنفوها على هذا، لذلك قبلت فكرة الزواج، فتزوجت من ابن عم لها.

بعد زواج الخنساء من ابن عمها، مرت الأيام على غير رضا منها على حال زوجها، حيث اكتشفت بأن زوجها رجل مقامر، ويضع أمواله في غير موضعها، ولا يتحمل مسؤولية الخنساء كزوجة، ولا يهتم بأمور البيت.

حتى جاءها ذات يوم ليعلن عن إفلاسه، وأنه أصبح بلا مال ويحتاج الأموال لإكمال الحياة، ووعدها بأنه سيحسن التصرف فيما هو ٱت، وصدقت الخنساء زوجها، فلجأت إلى أخيها صخر وكان  صخر سيد قومه بعد أبيه، وكان الأخ المحبب والمقرب لأخته الخنساء.

حب صخر على شقيقته 

كما كان صخر يتصف بالنخوة والرجولة وقوة الشخصية، وكان يحنو على أخته ويحبها، فهو لا يتحمل عليها أي ضرر، لهذا عندما أخبرته أخته الخنساء بحالها وحال زوجها، غضب كثيرا لكنه احتواها برفق ولين.

وعرض صخر على أخته الخنساء كل حلاله وقسمه إلى نصفين، وطلب منها أن تختار النصف الذي يروق لها، فكان أمام الخنساء المال والأرض والأغنام وكل ما يملك صخر، فتأثرت الخنساء كثيرا من رقة معاملة أخيها، واحتضنته وشعرت بدفء قلبه عليها، وبعدما قدم لها نصف ما يملك حتى ترضى، أخذت ما شاء لها الله أن تأخذه ورجعت إلى بيت زوجها محملة بالأموال، وعاد زوجها لحياته اليومية، ومرت الأيام والشهور، ولكن لا حياة لمن تنادي مع هذا الزوج.

الزوج المقامر 

لقد عاد المقامرة مرة أخرى، و تكرر  ذاك الموقف  ثلاث مرات، كان الزوج في كل مرة يعلن خسارته بسبب لعبه القمار، وتذهب الخنساء لأخيها ليساعدها، وتعود من بيت أخيها بالأموال، وهي تتمنى أن يعود زوجها إلى رشده.

حتى شعرت باليأس من إصلاح حاله،  وقررت الإنفصال وترك هذا الزوج المقامر، بعد صبر وتحمل ومحاولات كثيرة منها في إصلاح حال زوجها، ولكن دون فائدة، وذهبت الخنساء إلى بيت أخيها وطلبت منه  أن يساعدها في الإنفصال عنه وأن هذا هو الحل الأخير لديها.

وتم تطليق الخنساء من زوجها وابن عمها، ومرت الأيام، وبدأ الخطاب يدقون باب الخنساء من جديد، وتحت ضغط من الأخوين وأنها لا يجب أن تمكث هكذا دون زواج، وافقت وقبلت أن تتزوج مرة أخرى، لكن قلبها كان حزينا يتألم وتخشى من تكرار التجربة.

الزوج الطيب 

ثم تزوجت الخنساء برجل كريم ودود وحنون وكأن الله أراد أن يعوضها عما عاشته مع زوجها الأول، ومضت الأيام وأخيرا شعرت الخنساء براحة البال والسعادة مع زوجها، ذاك الرجل الطيب.

ولكن لأن الرياح تأتي بما لا تشتهيه السفن، سرق القدر منها فرحتها ومات الزوج الكريم الحنون.

تأثرت الخنساء بموت زوجها وعاتبت الزمن على معاندته إياها، فهي امرأة تعشق الحياة والحب والاستقرار، وكانت تتمنى أن تعيش حياة الأسرة مع زوج طيب، لكن القدر كان له كلمة أخرى.

الخنساء وأخيها معاوية 

وتمر الأيام والخنساء غير راضية على شقيقها الأصغر معاوية، لقد كان معاوية شخصا متسرعا يحب أن يمتلك كل وأي شئ، حتى البشر يريد أن يمتلكهم.

ففي يوم كان معاوية يزور إحدى القرى ورأى امرأة جميلة، سعى ليعرف من تكون وابنة من هي، ظل هكذا كالمجنون يبحث عنها، حتى علم أنها متزوجة، فقام معاوية بتجهيز قوة ليحارب قبيلة المرأة الجميلة، وقرر قتل زوجها ليفوز بها لنفسه.

ودارت الحرب بينه وبين قبيلة المرأة الجميلة، وكانت المواجهة بينه وبين زوج المرأة، وانتهت الحرب بمقتل معاوية، وكان هذا بالنسبة الخنساء أبشع حدث ممكن أن يحدث.

مات معاوية الأخ الأصغر للخنساء وكتبت فيه رثاء وحزنت عليه كثيرا، وكانت صدمة موت معاوية جرح جديد بجوار جرح قلبها لموت زوجها.

ثم مرت الأيام والأحداث والخنساء تعيش الألم بعده ألم، وجاءت الطامة الكبرى التي هزت وجدان الخنساء واسودت الدنيا في عينيها، وأغلقت الحياة أبوابها وأصبحت كالقبر المظلم.

وفاة صخر 

لقد مات صخر الأخ السند لها، والقلب اللين والكريم الأخلاق، فشعرت وكأن الحياة توقفت وصارت تكتب الشعر لرثاء صخر، وكأن الحبر والقلم سيعيدان صخر للحياة من جديد، وسخرت حياتها لحزنها عليه حتى أنها كانت تعلق نعلي صخر في عنقها، كانت تراه في كل شئ حولها وتشتم رائحته في كل مكان، موت صخر كان موتا أخر الخنساء وكسر لقلبها.

رثاء الخنساء لأخيها

انتشر رثاء الخنساء لأخيها صخر في كل الأرض، وبدأ الأدباء يستمعون لها ولرثائها لأخويها، وتعجبوا من المفارقة بين رثاء معاوية ورثاء صخر، حتى

قال بعض الأدباء بأن رثاء الخنساء  لمعاوية كان أضعف من رثاء صخر، وأرجعوا هذا ربما لصغر سنها أو لحداثتها في الشعر أو لخجلها.

ولكن كل هذا باطل ولا يصح مع شخصية قوية مثل شخصية الخنساء، والتي قالت (نحن نساء لرجالنا ورجال لغيرهم) .

لكن لمن يفهم شخصية الخنساء القوية الرحيمة العادلة صاحبة الرأي، سيعلم أن رثائها لمعاوية كان مجرد رثاء أخت تحن لأخيها الذي قتل بسبب امرأة أراد هو قتل زوجها ليفوز بها.

فبالنسبة الخنساء يعتبر موت معاوية، هو موت غير مشرف لا تستطيع أن تذكر معه مناقبه، لقد قتل معاوية بيد زوج أراد معاوية أن يقتله ليسرق منه زوجته، لهذا كان رثاء الخنساء لمعاوية يتسم بالضعف بعكس رثائها لأخيها صخر.

وأما رثاء الخنساء لأخيها صخر كان رثاء عزة وفخر بمناقب صخر الأخ الرجل السند القوي.

ومما قالته في رثاء صخر :

ما بال عينك منها دمعها سرب
                  أراعها حَزَن أم عادها طرب
أم ذكر صخر بعيد النوم هيجها
              فالدمع منها عليه الدهر ينسكب
يا لهف نفسي على صخر إذا ركبت
                خيل لخيل تنادي ثم تضطرب
قد كان حصناً شديد الركن ممتنعاً
               ليثاً إذا نزل الفتيان أو ركبوا
أغر أزهر مثل البدر صورته
           صاف عتيق فما في وجهه ندب
يا فارس الخيل إذ شدت رحائلها
           ومطعم الجوع الهلكى إذا سغبوا

دخول الخنساء في الإسلام 

عاصرت الخنساء  الجاهلية  كما عاصرت الاسلام، ودخلت الخنساء في الإسلام .قال ابن عبد البر: قَدِمَتْ على النبي صلى الله عليه وسلم مع قومها من بني سليم فأسلمت معهم .. وأجمع أهل العلم بالشعر أنه لم تكن امرأة قبلها ولا بعدها أشعر منها.

الخنساء وإستشهاد أبنائها الأربعة

قامت الخنساء بتربيتة أبنائها الأربعة ليكونوا فرسان أرواحهم فداء للإسلام، وكانت تحث أبناءها  على الجهاد في القادسية. وتنقل الروايات الموثقة أنها وقبل بدء القتال أوصتهم فقالت: “يا بني لقد أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، ووالله الذي لا إله إلا هو إنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم”، إلى أن قالت: “فإذا أصبحتم غداً إن شاء الله سالمين، فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها، وجعلت ناراً على أوراقها، فتيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها عند احتدام خميسها، تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والقيامة” .

ولما علمت بموتهم جميعا حمدت الله كثيرا، فقد كانت امرأة مؤمنة محتسبة.  وقالت كلماتها المأثورة التي عاشت على جبين الزمان على مدار الأيام والأعوام: “الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم جميعاً في سبيل الله ونصرة دينه وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته” .

ورغم أنها حزنت وصبرت على استشهاد ابنائها الا أن قلبها أشد حزنا على اخيها صخر لأنه مات قبل أن يدرك الإسلام، وظلت ترثوه ولم تيأس أبدا.

ومرت الأيام وشكى الناس لعمر بن الخطاب حال الخنساء،  وقالوا بأنها على جاهلية وتنتعل نعلي صخر، وتقول فيه الشعر، فأرسل عمر بن الخطاب إليها ، وسألها عن سبب ما تفعل.

فقالت: كنت أقول الشعر في الجاهلية حزنا على صخر أخي السند الكريم، واليوم أقوله حزنا على صخر أخي الكريم لأنه مات على غير الإسلام وأنه سيكون من أهل النار.. فرق قلب عمر لها وأمر الناس أن يتركوا الخنساء  لحالها، فهي المرأة والزوجة والأخت والأم التي فقدت أحبائها.

الخنساء تلك المرأة القوية العادلة صاحبة الأصل، والتي كانت أشعر شعراء وقتها لم ينكر عليها النبي الشعر، بل استمع لها.

تلك هي المرأة العربية كما يجب أن تكون وتلك هي الخنساء نموذج المرأة العربية الأصيلة 

إيمان أبو الليل
كاتبة صحفية
عضو إتحاد كتاب مصر

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.