المفكر عصام زايد يكتب: مقدمة البركان

تعودت البشرية دائما أن يقودها قلة تعلم ما تريد وكثرة تعمل في المسارات المحددة لها مسبقا .. تختلف تلك الجموع البشرية بعضها عن بعض في قدرتها على إختيار المسارات أو التنقل بينها أو تطويرها .. ما تريده القلة هو الهدف النهائي لكل تلك المسارات ..

وتتخذ التجمعات الإنسانية أشكال و مسميات عدة تختلف طبقاً للأهداف المرسومة لها .. فمنها الديمقراطي الحر و الديمقراطي الإشتراكي و الديمقراطي المتدين و الإشتراكي و اليساري و اليميني المعتدل و المتطرف و الديكتاوري العادل و الآخر الدموي وغيرها من المسميات و التي تعتنقها القلة و تقود بها للجموع في حركتها عبر التاريخ و الحضارات

خلال التنقل و التطور الحضاري تحدث فجوات يسود خلالها فوضي الإستيعاب سرعان ما يتم التحكم فيها من القلة.. حدث هذا عندما إنتقلت البشرية من حضارة الصيد و الرعي  إلي المجتمعات المستقرة الزراعية ثم إليالحضارة الصناعية .. خلال تلك الفجوات الزمنية كان من السهل التحكم في السلوك الإنساني و تشكيله نظرا للعزلة الجغرافية و المعلوماتية التي كانت موجودة وحتي وقت قريب . كان يمكن عزل مجتمع عن غيره من المجتمعات بل و تشكيل سلوكه و إتجاهه العام و قناعاته الداخلية وتصور سيناريوهات  ردود أفعاله تجاه الأحداث المختلفة و بالتالي توجيهها .

السيطرة العالمية تواجدت  بيد من لديه الرؤية الأوسع و القدرة على التجسس و نقل المعلومات عبر الوسائل التقليدية بصورة أسرع … وبقدر ما لديك من أجهزة تجميع  بقدر مالديك من قدرة على توجيه الدفة في إتجاه أهدافك .

إذا نظرنا للديمقراطيات العريقة في الغرب من خلال التأمل نجد أنه وعبر عصور تكوينها كانت هناك دوما مناطق محددة لممارسة الحريات بسقوف عالية مثل الفنون بأشكالها و ألوانها و طعومها .. العلوم بمجالاتها المختلفة .. الإنسانيات و مايدور حولها.. يوجد قدر من المساحاتتسمح بالتنفس العميق و ممارسة الحركة بآمان كبير و يتوفر لتلك المجتمعات قدر من الآمان المعيشي لا يسمح بالنزول عنه حتي يظل الإحساس بالتميز الترفي متواجد في النفوس إذا ما قورنت بغيرها من المجتمعات وهذا جزء من أساليب التحكم في المسار .. كل ذلك مرتبط بالحركة الحرة بعيدا عن التحكم في الغايات ..

وفي المقابل مجتمعات تعيش تحت سقوف منخفضة و طموحات تدور حول العيش الآمن .. تلتف حول الأحجار إن صادفتها  في الطريق بلا رغبة حقيقية في تحريكها .. تعودت أن تعيش معها و بها … مناطق رؤيتها جزء كبير منه مظلم لاتراه النفوس ووعيها هو ما يعيه من حولها .. تعيش بلا منطق معقول أو مفهوم .. حدسها عند أطراف أصابعها .. تلفظ التغيير و تعتبره نوع من بطر نعمة الإستقرار .

عاشت الإنسانية فترة الحضارة الصناعية وهي تظن أن تطورها ذاتي الحركة و تضخمها من داخلها و كانت لا تدري أن التطور الطبيعي لتلك الكرة هو إنفجارها و تحولها لحضارة جديدة يتم تحديد معالمها حقبة فاصلة من الفوضي تستمر حتي تجد قلة جديدة تتحكم في مسارتها وتحدد أهدافها و غايتها.

الإنفجار

إرهاصات الحضارة الجديدة بدأت تتشكل معالمها مع بداية تغير الطبيعة الإنسانية في نهايات القرن الماضي.. كيف تغيرت تلك الطبيعة التي جبلت على التشكيل بإرادات مباشرة وغير مباشرة .. لتصبح طبيعة أخري تختلف عن ما شهدته البشرية من قبل … البشرية لم تعهد من قبل أن البدائل و الإختيارات يمكن أن تتواجد في يد جموع كبيرة من البشر .. حركة التاريخ تقول أن البدائل بيد القلة و الكثرة مجال حركتها هو التنقل بين تلك البدائل … أما أن تتواجد بدائل جديدة تتجه من الكثرة بإتجاه القلة فهذا إنقلاب سيولد تفجيرا في الوعي .. لأننا الآن غير مستعدين لإستيعاب ذلك .. غير مؤهلين له ..

فنحن ننتقل الآن فيما وراء الرأسمالية و الصناعة بمفهومهم التقليدي الذي تحتكره القلة إلي مجتمع وحضارة المعرفة المتاحة والفكر المنفتح … و الفردية في  التكوين الثقافي .. والتحكم من خلال أدوات بسيطة و تكلفة قليلة … إنقلب المخروط فبدلا من قاعدته الدائرية وقمته في الأعلي … أصبحت دائرة التفكير متعددة بتعدد الأفراد في الأعلي ودائرة التحكم تتلقي فيالأسفل و يذكرني ذلك بلعبة النحلة المخروطية التي كنا نلهو بها صغارا ..

يقول المفكر العظيم الدكتور بيتر دراكر

” بعد عدة مئات من السنين ، عندما يكتب تاريخنا من خلال النظر إليه على إمتداد فترة طويلة من الزمن، فمن المرجح أن الحدث الأعظم أهمية الذي سيراه المؤرخون لن يكون التقنية أو الإنترنت أو التجارة الإلكترونية. إنه التغير الغير مسبوق في الطبيعة الإنسانية . لأول مرة ودون أي مبالغة يمتلك الخيارات عدد كبير من الناس وهذا العدد يتزايد بسرعة هائلة .. لأول مرة يجب على الناس أن يديروا أنفسهم بأنفسهم .. و المجتمع غير مهيأ البتة لهذا الأمر ”

القرار الفردي أصبح نتيجة الثورة المعرفية لا يمكن التنبؤ به … والمجتمعات الإنسانية ستصبح كتل من الأفراد المتماسكين لهم كينونة وولاءات تختلف  حركتها عن حركة مجتمعات نشؤها الأصلية

أفراد من اليونان و كندا وصعيد مصر وجنوب أفريقيا .. سيصبح لهم فكر ووعي متماسك يديرون به أعمال مشتركة في البحر الكاريبي و هم جلوس في أوطانهم … تم تكوين الفكر في الفضاء و التنفيذ العملي في مكان ما داخل الرأس المخروطي على الأرض …

هذا الأمر بدأنا نلاحظه الآن وخير مثال عليه التجارة المعرفية الإلكترونية … هذا النمط سينتشر في الفضاء ليشكل وعي جديد يصعب السيطرة عليه و توجيهه .. فهو خارج السيطرة المادية المحسوسة …

إنه بركان سيفجر كل حركة لا تقبل التعايش  خلاله .. فهل نستشعره حتي يمكن أن نكونه و نتعايش معه؟

المفكر عصام زايد يكتب: مقدمة البركان 1
عصام زايد
Exit mobile version