في قاعة مكتظة بجامعة ستانفورد، وقف إريك شميدت، الرئيس التنفيذي السابق لشركة جوجل، ليلقي محاضرة مغلقة ستهز أركان عالم التكنولوجيا.
كان اللقاء مثيراً للجدل لعدة أسباب. أولاً، اللقاء لم يكن معلناً بشكل رسمي، وتمت إزالته بعد فترة قصيرة من نشره على الإنترنت، مما زاد من الفضول حول محتواه،
بصوت هادئ ونظرة ثاقبة، بدأ شميدت حديثه قائلاً: “في العام المقبل، سترون نوافذ سياقية واسعة، وعملاء أذكياء، وتحويل النص إلى إجراء. عندما يتم تطبيق هذه التقنيات على نطاق واسع، سيكون لها تأثير على العالم بحجم لم يفهمه أحد بعد.”
لنتوقف لحظة ونفكك هذه الجملة المثقلة بالمعاني. ما الذي يعنيه شميدت بهذه المصطلحات الغريبة، وكيف ستغير حياتنا؟
أولاً، النوافذ السياقية الواسعة. تخيل أن جهازك الذكي لم يعد مجرد آلة لتنفيذ الأوامر، بل أصبح شريكاً ذكياً يفهم سياق حياتك بأكملها. على سبيل المثال: عندما تسأل عن “أفضل مطعم”، سيقترح مكاناً يناسب ذوقك وميزانيتك وحالتك الصحية، استناداً إلى فهمه العميق لتفضيلاتك وعاداتك.
الفرق هنا عن الوضع الحالي هو العمق والشمولية. بدلاً من الاعتماد على بضعة معايير بسيطة، ستتمكن هذه الأنظمة من فهم شخصيتك وظروفك بشكل شبه كامل، مما يجعل تفاعلاتك معها أقرب إلى التواصل البشري الحقيقي.
ثانياً، العملاء الأذكياء. هؤلاء ليسوا موظفين بشريين، بل برمجيات متطورة قادرة على التعلم والابتكار بشكل مستقل. لنأخذ مثالاً من مجال الطب: تخيل برنامجاً يمكنه قراءة كل الأبحاث الطبية المنشورة في العالم، ثم يقوم بتحليلها واقتراح علاجات جديدة لم يفكر بها البشر من قبل. هذا البرنامج لن يكتفي بتجميع المعلومات، بل سيقوم بإجراء “تجارب افتراضية” لاختبار نظرياته قبل اقتراحها على الأطباء البشريين.
الفرق هنا عن الأنظمة الحالية هو القدرة على الإبداع والابتكار. بدلاً من مجرد تحليل البيانات الموجودة، ستتمكن هذه العملاء من توليد أفكار جديدة تماماً، مما قد يؤدي إلى اختراقات علمية وتكنولوجية غير مسبوقة.
أخيراً، تحويل النص إلى إجراء. هذه التقنية ستمكن أي شخص من تحويل أفكاره إلى واقع ملموس بمجرد وصفها لفظياً. تخيل أنك قلت: “أريد تطبيقاً يساعد كبار السن على تذكر أدويتهم ومواعيدهم الطبية”. في غضون دقائق، سيقوم النظام بتصميم وبرمجة وإطلاق هذا التطبيق، مع مراعاة أفضل الممارسات في تصميم واجهة المستخدم وأمان البيانات.
بالواقع ضرب شميدت مثالًا بإنشاء برنامج متطور ومعقد وهو أن تطلب عمل برنامج مشابه لتيك توك!
مقصده ببساطة: أن الفرق هنا عن الوضع الحالي هو إزالة الحاجز بين الفكرة والتنفيذ. بدلاً من الاعتماد على مبرمجين ومصممين لتحويل الأفكار إلى واقع، سيتمكن أي شخص من إنشاء منتجات وحلول معقدة بمجرد وصفها بالكلمات.
لكن هذه التطورات المذهلة تأتي بتحديات هائلة. يحذر شميدت من أن تطوير هذه التقنيات سيتطلب استثمارات ضخمة تصل إلى مئات المليارات من الدولارات. والأكثر إثارة للدهشة، قد تصبح الطاقة المورد الأكثر ندرة في هذا السباق التكنولوجي.
“نحتاج إلى أن نصبح أفضل أصدقاء كندا،” يقول شميدت بابتسامة خفيفة تخفي جدية كلامه. “لأن كندا لديها أشخاص لطيفون، وساعدت في اختراع الذكاء الاصطناعي، ولديها الكثير من الطاقة الكهرومائية. لأننا كدولة لا نملك طاقة كافية للقيام بهذا.”
هذا التصريح يكشف عن تحول جذري في مفهوم القوة العالمية. في المستقبل القريب، قد تصبح مصادر الطاقة النظيفة أهم من الترسانات النووية أو احتياطيات النفط.
لكن التحديات لا تقتصر على الموارد والطاقة. يحذر شميدت من خطر المعلومات المضللة المدعومة بالذكاء الاصطناعي. في عالم يمكن فيه إنتاج محتوى مزيف يبدو حقيقياً تماماً، كيف سنميز الحقيقة من الوهم؟ كيف ستحمي الدول ديموقراطياتها من التلاعب الرقمي؟
وماذا عن مستقبل العمل والتعليم؟ حسنًا كان هذا موضوع مقالي السابق وفيه تفصيل لكلامه. لكن لنستعرض رؤية سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة OpenAI. يتوقع ألتمان اختفاء العديد من الوظائف التقليدية، لكنه يرى في هذا فرصة لتحرير البشر من الأعمال الروتينية للتفرغ للإبداع والابتكار.
الحل الذي يقترحه ألتمان هو الدخل الأساسي الشامل، حيث تقوم الشركات الكبرى المستفيدة من الأتمتة بتمويل دخل أساسي لكل مواطن. هذه الفكرة، التي قد تبدو راديكالية اليوم، قد تصبح ضرورة في عالم تسيطر عليه الآلات الذكية.
في خضم هذه التحولات الهائلة، تبرز أسئلة عميقة تخترق جوهر وجودنا كبشر. كيف سنحافظ على قيمنا وإنسانيتنا في عالم تتعاظم فيه قوة الآلات بشكل مذهل؟ وكيف سنجد معنى لحياتنا عندما تصبح العديد من مهامنا التقليدية، التي طالما عرّفت هويتنا وأعطت لحياتنا قيمة، زائدة عن الحاجة؟
وسط هذا الضباب المعرفي الكثيف، يلقي شميدت بشعاع ضوء يخترق الظلام. يختتم محاضرته بنصيحة قد تبدو للوهلة الأولى بسيطة، لكنها في الحقيقة ثورية: “عندما تسألون سؤالاً، اقرؤوا 20 كتاباً أولاً.”
إنها لمفارقة مدهشة حقاً! في عصر نشهد فيه انحسار الكتاب لصالح الوسائط الرقمية السريعة، وفي زمن أصبحت فيه المعلومة “كبسولة” تُبتلع دون مضغ، يعود الكتاب ليؤكد نفسه كسلاح البشرية الأمضى في مواجهة ذكاء الآلة.
فكروا في الأمر. في عالم يمكن فيه للذكاء الاصطناعي الوصول إلى كميات هائلة من المعلومات في ثوانٍ معدودة، ما الذي سيميزنا نحن البشر؟ الإجابة تكمن في العمق، في القدرة على ربط الأفكار بطرق إبداعية، في فهم السياقات والظلال الدقيقة للمعنى. وهذا بالضبط ما يمنحنا إياه الغوص في عوالم الكتب.
الكتاب ليس مجرد وعاء للمعلومات، بل هو رحلة فكرية، تجربة إنسانية متكاملة. عندما نقرأ كتاباً، نحن لا نستوعب معلومات فحسب، بل نعيش تجربة كاتب، نستكشف عالماً بأكمله، نتحدى أفكارنا ونوسع آفاقنا. هذه العملية المعقدة، هذا التفاعل العميق مع الأفكار، هو ما سيظل – على الأقل في المستقبل المنظور – حكراً على العقل البشري.
وهكذا، في مواجهة الذكاء الاصطناعي الذي يمكنه معالجة كميات هائلة من البيانات، يصبح التعمق والتفكير النقدي الذي تمنحه لنا القراءة المكثفة هو سلاحنا الأقوى. إنها قدرتنا على فهم التعقيدات، على رؤية الصورة الأكبر، على استيعاب وجهات النظر المتعددة، التي ستميزنا عن الآلات.
نحن نقف اليوم على عتبة عصر جديد، عصر قد يعيد تعريف كل ما نعرفه عن العمل والتعليم والحياة نفسها. التحدي الذي نواجهه الآن ليس مجرد كيفية مواكبة التكنولوجيا، بل كيفية الحفاظ على ما يجعلنا بشراً في خضم هذه الثورة التكنولوجية. وهنا يأتي دور الكتاب، كحصن أخير للإنسانية، كمصدر لا ينضب للحكمة والإبداع والفهم العميق.
كما يقول شميدت، “المستقبل ليس قدراً محتوماً، بل هو ما نصنعه بأيدينا اليوم.” وفي هذا السياق، تصبح القراءة العميقة والتفكير النقدي أدواتنا الأساسية في صناعة هذا المستقبل. فهل نحن مستعدون لهذا التحدي؟ هل لدينا الحكمة والبصيرة لاستخدام هذه الأدوات في توجيه التكنولوجيا نحو الخير العام؟
الإجابة على هذه الأسئلة ستشكل ملامح القرن الحادي والعشرين. وكما يؤكد كل من شميدت وألتمان، فإن المشاركة الفعالة في صياغة هذا المستقبل هي مسؤوليتنا جميعاً. فلنستعد إذاً لمستقبل مليء بالتحديات والفرص، مستقبل سنكون نحن صانعيه ومبدعيه، مسلحين بالمعرفة العميقة والفهم الشامل الذي تمنحه لنا الكتب. فربما، في نهاية المطاف، سيكون الكتاب هو سفينة نوح التي ستحمل إنسانيتنا عبر طوفان الذكاء الاصطناعي القادم.
المقالة مختارة من حسابات على منصة إكس.