حفرة الموية.. الخرطوم تعود مائة عام إلى الوراء
كتبت : د.هيام الإبس
يطلق مدنيون عالقون بين نيران الحرب فى أحياء الديوم الشرقية والغربية وسط العاصمة الخرطوم، على موقع يوفر مياه الشرب بشكل يومى “حفرة الموية”.
وتقع “حفرة الموية” تحت أسفل بناية، والسبب فى ذلك يعود إلى أن المواطنين الذين يعيشون بين نيران المعارك والمناطق الساخنة، خاصة الخرطوم، يحصلون بشق الأنفس على المياه، وقادتهم الصدفة إلى اكتشاف المكان الذى يوفر الحل للمئات من سكان الحى.
انقطعت المياه والكهرباء عن الخرطوم منذ عام ونصف، ويعيش المدنيون الحياة بشق الأنفس، ولحقت بهما شبكة الاتصالات فى فبراير 2024، لذلك يضطر المواطنون إلى تدبير شؤونهم بالاعتماد على القليل المتاح من هذه الخدمات، وسط مناطق تنتشر فيها قوات الدعم السريع الشهيرة بالبطش.
وتروى سوزان التى بقيت فى منزلها فى الخرطوم لعام ونصف، مع استمرار الحرب، قصة “حفرة الموية” فى أحياء الديوم، بحيث اعتادت على تدبير شؤون عائلتها بجلب المياه فى الصباح الباكر من هذا الموقع، أو الشراء من العربات التقليدية “الكارو”.
وتقع “حفرة الموية” أسفل عمارة فى حى الديم، اكتشفها المواطنون عن طريق الصدفة، حيث شاهدوا المياه ترتفع من أسفل إلى أعلى من خطوط أنابيب قديمة للشبكة التى تقدم الخدمة، وفق سوزان.
لا أحد يعرف مصدر المياه، لكنهم من يستفيدون من الخدمة المجانية، يقولون إنها تنساب عبر الشبكة القديمة التى تقع فى العمق، الأمر الذى يساعد على انحدار المياه من منطقة إلى أخرى، حتى تصل إلى موقع “حفرة الموية”.
تحول تقاطع باشدار فى أحياء الديوم، والذى اشتهر بتوافد الشبان والفتيات لبداية حركة المواكب الاحتجاجية نحو القصر الرئاسى فى قلب الخرطوم، قبيل اندلاع الحرب منتصف أبريل 2023، إلى سوق يرتاده المدنيون لشراء الخضروات والخبز، وتبادل المحافظ الإلكترونية مقابل النقود، بخصم يصل إلى 30%. أى بيع مائة ألف جنيه مودعة فى المحفظة الإلكترونية بقيمة 70 ألف جنيه. ويضطر المواطنون لذلك، لأن هناك أزمة سيولة نقدية فى الخرطوم، وأصبح السوق الموازى ينمو بقوة، مستغلاً غياب البنوك وقلة حركة الأموال المتداولة.
أما فى محل تقديم خدمات الإنترنت عبر “ستارلينك”، فيقف المواطنون فى بعض الأحيان فى الطابور لتصفح الإنترنت مقابل ثلاثة آلاف جنيه للساعة الواحدة، ويتواصلون خلالها مع العائلة أو الأقارب أو الأصدقاء، أو مجرد معرفة أخبار المعارك، وعما إذا كانت الحرب قد اقتربت على النهاية.
حيث يتجنب مرتادو محلات الإنترنت الفضائى الخوض فى أخبار المعارك العسكرية أو أخبار قوات الدعم السريع، لأن جنود حميدتى ينتشرون قرب المحال التجارية، وأغلبهم يعمل فى هذا السوق بشكل أو بآخر، حتى بيع السيولة النقدية يتم تحت إشرافهم وتغذية الأسواق العاملة بالأوراق النقدية.
وتعود أزمة السيولة النقدية إلى توقف البنوك فى الخرطوم منذ عام ونصف، وعدم وجود حركة مصرفية منظمة لضخها فى الأسواق، إلى جانب عدم وجود معايير بشأن الاقتصاد فى مناطق سيطرة الدعم السريع، التى تعثرت فى إنشاء سلطة سياسية واقتصادية.
من شوارع كانت تضج بحركة السيارات والمواطنين، إلى منطقة بالكاد يصل إليها المئات خلال اليوم لشراء الضروريات والاحتياجات، هكذا بدت مناطق الديوم والصحافة بعد 18 شهراً من الحرب، وسيطرة قوات الدعم السريع على غالبية مساحة مدينة الخرطوم.
ويمتد الشارع الرئيسى من منطقة الصحافة قرب الميناء حتى عتبة القصر الرئاسى، وتسيطر قوات الدعم السريع على هذه المسافة بالكامل، بحيث تنتشر فيها مع تقدم طفيف للجيش من ناحية القيادة العامة.
المحلات المزدهرة والمخابز والشركات والعيادات العلاجية، توقفت عن العمل منذ الأسبوع الأول للقتال منتصف أبريل 2023، ولا توجد آمال فى عودتها قريباً مع انتشار قوات حميدتى ، حيث يشك المدنيون فى نواياها طيلة الوقت، ولا يمكن الحصول على ضمانات بعدم تعرضها للمواطنين. تقول سوزان، وهي تعبر عن حزنها لتوقف الحياة فى الخرطوم، المدينة التى ترعرعت فيها منذ طفولتها.
المرة الأولى التى شاهد فيها سكان هذه الأحياء توقف حركة الشارع كانت صباح الثالث من يونيو 2019، حينما انتشرت قوات الدعم السريع بالتزامن مع فض اعتصام القيادة العامة، الذى أدى إلى مقتل مئات المتظاهرين السلميين، وشكل حميدتى تحالفاً مع قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة الانتقالى الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان فى ذلك، قبل أن يتحولا إلى خصمين لدودين منذ عام ونصف.
تقول سوزان: “فى ذلك اليوم شعرنا بالرعب مع انتشار قوات الدعم السريع وعناصرها المدججة بالسلاح تضرب المواطنين بالسياط، وتطلق الرصاص على المارة فى الشارع فى وقت مبكر من الصباح، لم نكن نعتقد أن ما حدث كان مقدمة للحرب التى أفرغت العاصمة من الحياة”.
تعكس روايات سوزان تحول حياتها فى مدينة كان السخط الشعبى يتصاعد فيها عند انقطاع الكهرباء، واليوم تذهب إلى سوق صغير لشراء بضعة شموع للحصول على الإنارة فى الظلام مع انعدام الكهرباء، والمطالبة بها نوع من الترف فى هذا الوقت.
تضيف هذه الفتاة، “نحن عندما نحصل على مياه الشرب لا نتمنى أكثر من ذلك”.