احدث الاخبارالصراط المستقيم

خطبة الجمعة الموافق 3فبراير 2023….منهج القرآن في العمران هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا

إعداد الدكتور عبد المنعم ابراهيم عامر.

والدافع للحديث عن هذا الموضوع عدة أمور:

بيان كمال الشريعة وتمام النعمة

معرفة عظمة القرآن وشموليته

بيان حقيقة العبادة

بيان معلم من معالم محاسن الشريعة وهو العمران

بيان أن العمران يبدأ من الأفراد ثم الأسرة ثم المجتمع والدولة .

بيان أن العمران ليس نوع واحد فقط وهو البناء

القصور في فهم العمران يؤدس إلى خلل عظيم

التحذير من الفساد.

مقدمة:

أما بعد فهناك غاية معينة لوجود الجن والإنس. تتمثل في وظيفة من قام بها وأداها فقد حقق غاية وجوده ومن قصر فيها أو نكل عنها فقد أبطل غاية وجوده وأصبح بلا وظيفة، وباتت حياته فارغة من القصد، خاوية من معناها الأصيل، الذي تستمد منه قيمتها الأولى. وقد انفلت من الناموس الذي خرج به إلى الوجود، وانتهى إلى الضياع المطلق، الذي يصيب كل كائن ينفلت من ناموس الوجود، الذي يربطه ويحفظه ويكفل له البقاء.

هذه الوظيفة المعينة التي تربط الجن والإنس بناموس الوجود. هي العبادة لله. أو هي العبودية لله.. أن يكون هناك عبد ورب. عبد يعبد، ورب يعبد. وأن تستقيم حياة العبد كلها على أساس هذا الاعتبار.

العبادة: الشعائر و الخلافة (عمارة الأرض):

ومن ثم يبرز الجانب الآخر لتلك الحقيقة الضخمة، ويتبين أن مدلول العبادة لا بد أن يكون أوسع وأشمل من مجرد إقامة الشعائر. فالجن والإنس لا يقضون حياتهم في إقامة الشعائر والله لا يكلفهم هذا. وهو يكلفهم ألوانا أخرى من النشاط تستغرق معظم حياتهم. وقد لا نعرف نحن ألوان النشاط التي يكلفها الجن ولكننا نعرف حدود النشاط المطلوب من الإنسان. نعرفها من القرآن من قول الله تعالى:«﴿‌وَإِذْ ‌قَالَ ‌رَبُّكَ ‌لِلْمَلَائِكَةِ ‌إِنِّي ‌جَاعِلٌ ‌فِي ‌الْأَرْضِ ‌خَلِيفَةً… ﴾ [البقرة: من الآية30] » .. فهي الخلافة في الأرض إذن عمل هذا الكائن الإنساني. وهي تقتضي ألوانا من النشاط الحيوي في عمارة الأرض، والتعرف إلى قواها وطاقاتها، وذخائرها ومكنوناتها، وتحقق إرادة الله في استخدامها وتنميتها وترقية الحياة فيها. كما تقتضي الخلافة القيام على شريعة الله في الأرض لتحقيق المنهج الإلهي الذي يتناسق مع الناموس الكوني العام.

ومن ثم يتجلى أن معنى العبادة التي هي غاية الوجود الإنساني أو التي هي وظيفة الإنسان الأولى، أوسع وأشمل من مجرد الشعائر وأن وظيفة الخلافة داخلة في مدلول العبادة قطعا.

حقيقة العبادة:

وأن حقيقة العبادة تتمثل إذن في أمرين رئيسيين:

الأول: هو استقرار معنى العبودية لله في النفس. أي استقرار الشعور على أن هناك عبدا وربا. عبدا يعبد، وربّا يعبد. وأن ليس وراء ذلك شيء وأن ليس هناك إلا هذا الوضع وهذا الاعتبار. ليس في هذا الوجود إلا عابد ومعبود وإلا رب واحد والكل له عبيد.

والثاني: هو التوجه إلى الله بكل حركة في الضمير، وكل حركة في الجوارح، وكل حركة في الحياة.

التوجه بها إلى الله خالصة، والتجرد من كل شعور آخر ومن كل معنى غير معنى التعبد لله.

قلت: ويشهد له قوله تعالى {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } [الأنعام: 162، 163] بهذا وذلك يتحقق معنى العبادة ويصبح العمل كالشعائر، والشعائر كعمارة الأرض، وعمارة الأرض كالجهاد في سبيل الله، والجهاد في سبيل الله كالصبر على الشدائد والرضى بقدر الله.. كلها عبادة وكلها تحقيق للوظيفة الأولى التي خلق الله الجن والإنس لها وكلها خضوع للناموس العام الذي يتمثل في عبودية كل شيء لله دون سواه.

القرآن اِصْطِلاَحاً:

كلام الله تعالى القديم، المنزل على نبينا محمد ﷺ ، بواسطة سيدنا جبريل عليه السلام، وهو غير مخلوق؛ إذ أنه جزء من صفة الذات العلية، وهو معجزٌ ببيانه، متعبدٌ بتلاوته، منقولٌ إلينا بالتواتر، مقروءٌ في المصاحف، مبدوء بسورة الفاتحة ومنتهٍ بسورة الناس ().

العمارة لغة واصطلاحاً:

العمارة لغة:

يقول الراغب الأصفهاني: «العمارة نقيض الخراب، يقال: عمر أرضه يعمرها عمارةً، قال تعالى: {وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [التوبة:19]. ويقال: عمرته فعمر فهو معمورٌ. قال: {وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} [الروم:9].

{وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ } [الطور:4].

وأعمرته الأرض واستعمرته: إذا فوضت إليه العمارة، قال: {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود:61]»

 

خصائص القرآن:

– أنه تضمن خلاصة التعاليم الإلهية، وجمع ما كان متفرقًا فيما قبله من الكتب.

أنه الكتاب الوحيد الذي تعهد الله بحفظه، وهذا لأنه أرسل للناس كافة وإلى قيام الساعة. قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]

ثانيًا:واجبنا تجاه القرآن:

– التصديق به على الإجمال – ما فهمناه منه أو ما جهلنا- وعلى التفصيل.

الانقياد بما فيه على الجملة والتفصيل. قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 9] 3- تحكيمه في كل شيء، ولا نحكم أهواء البشر. قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ [المائدة: 48]

حفظه، وتلاوته، وتدبره، والعمل به. قال تعالى: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ﴾ [المزمل: 4]

نؤمن بالمحكم والمتشابه، ونرد المتشابه إلى المحكم. قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [آل عمران: 7]

نؤمن بأن القرآن العظيم هو آخر كتاب نزل من عند الله تعالى، وأن الله قد خصه بمزايا تميزه عن جميع ما تقدمه من الكتب المنزَّلة. قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ [المائدة: 48] .

الحض على عمارة الأرض من القرآن:

قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ } [البقرة: 30]

قال تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود: 61]

يريد عمارة الأرض لا التخلي ولا التبتل :

وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها: جعلكم عمّارها ، فيدل على أن الله يريد عمارة الأرض لا التخلي ولا التبتل.

قال تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32] .

ولما ذكر ذلك،- (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ) – علله بما ثمرته عمارة الأرض فقال: {ليتخذ} أي بغاية جهده {بعضهم بعضاً} ولما كان المراد هنا الاستخدام دون الهزء لأنه لا يليق التعليل به، أجمع القراء على ضم هذا الحرف هنا فقال: {سخرياً} أي أن يستعمله فيما ينوبه أو يتعسر أو يتعذر عليه مباشرته ويأخذ للآخر منه من المال ما هو مفتقر إليه، فهذا بماله، وهذا بأعماله، وقد يكون الفقير أكمل من الغني ليكمل بذلك نظام العالم لأنه لو تساوت المقادير لتعطلت المعايش

الحض على عمارة الأرض من السنة:

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ، إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ»

قال ابن بطال : وفيه الحض على عمارة الأرض لتعيش نفسه أو من يأتى بعده ممن يؤجر فيه، وذلك يدل على جواز اتخاذ الصناع، وأن الله – تعالى – أباح ذلك لعباده المؤمنين لأقواتهم وأقوات أهليهم طلبًا للغنى بها عن الناس، وفساد قول من أنكر ذلك.

عَنْ عُرْوَةَ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ : مَنْ أَعْمَرَ أَرْضًا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ فَهُوَ أَحَقُّ قَالَ عُرْوَةُ : قَضَى بِهِ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي خِلَافَتِهِ .

استدل الكسائيّ بقوله تعالى:{ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا } [هود: 61]

على أن عمارة الأرض واجبة لطلبها منهم وقسمها في “الكشاف” إلى واجب كالقناطر اللازمة والمسجد الجامع

ومندوب كالمساجد ومباح كالمنازل وحرام كما يبنى من مال حرام.

الإسلام هو دين التعمير والبناء والإصلاح في الأرض، وقد أوجب الله سبحانه وتعالى على المؤمنين أن يعمروا في الأرض، دل على ذلك قوله تعالى: (إِنَّما يَعمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَن آمَنَ بِاللَّهِ وَاليَومِ الآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَم يَخشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَن يَكونوا مِنَ المُهتَدينَ) [التوبة: 18].

اهمية إعمار الكون:

يعد ضرورة من ضرورات الحياة الإنسانية، فلا بد للإنسان من أن يكتشف ويخترع من أجل تذليل العقبات التي تعترض طريقه، وتحول بينه وبين تحقيق ما يطمح إليه من سبل العيش الآمن والحياة الكريمة. قال ابن عاشور عند تفسير قوله تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88].

قال: «وهذا استدعاءٌ لأهل العلم والحكمة لتتوجه أنظارهم إلى ما في الكون من دقائق الحكمة، وبديع الصنعة. وهذا من العلم الذي أودع في القرآن ليكون معجزةً من الجانب العلمي يدركها أهل العلم، كما كان معجزةً للبلغاء من جانبه النظمي». ()

عمارة الأرض وفق المنهج الرباني من وظائف الدولة الإسلامية:

وظائف الدولة الإسلامية:

إن الدولة ليست غاية في ذاتها، وإنما هي وسيلة لغاية. فهي تقوم بوظيفتين أساسيتين:

الأولى: إقامة الدين الإسلامي وتنفيذ أحكامه.

والثانية: القيام بسياسة أمور الدنيا التي رسمها الإسلام.

على أننا نستطيع أن نكتفي بالقول بأن وظيفة الدولة هي إقامة الإسلام؛ لأن الإسلام دين ودولة، فإقامة الإسلام هي إقامة للدين، وقيام بشئون الدولة في الحدود التي رسمها الإسلام. وقد تنوعت هذه الغاية أنواعًا، وظهرت بصور مختلفة باختلاف العصور والأمكنة والحاجة، واختلفت تبعًا لذلك ضيقًا وسعة.

وقد جاءت الآيات القرآنية الكريمة تبين أن وظيفة الدولة الإسلامية هي: إقامة المآثر والمكارم التي يجب أن تتحلى بها الحياة البشرية، وتبث الخير، وتبذل جهد المستطاع في رقيها وتعميم ميراثها، وأن تستأصل وتنفي عن الأرض كل ما يبغضه الله من الفواحش والمنكرات، وتطهرها من شوائبها وأدناسها، وأن تقيم الصلاة وتأخذ الزكاة، وأن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وأن تسوس أمور الناس في حدود ما أنزل الله تعالى؛ ليقوم الناس بالحق والعدل والقسط 51. كما في قوله تعالى: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) [الحج: 41].

فمن أهم الوظائف التي تقوم بها الدولة:

أولًا: تحقيق العبودية لله تعالى:

ثانيًا: الدعوة إلى الله ونشر الإسلام:

ثالثًا: رفع الظلم وحماية المستضعفين:

رابعًا: عمارة الأرض وفق المنهج الرباني:

فالله سبحانه وتعالى خلق البشر وجعلهم خلفاء في الأرض؛ ليقوموا بعبادته وتوحيده، وليقيموا فيها الحضارة والعمران، وليستثمروا خيراتها التي سخرها لهم؛ ولذلك هيأ الله تعالى للإنسان كل ما يساعده على الانتفاع بهذا الكون -بما وهبه من العقل والحواس والملكات التي يستخدمها للتعرف على هذا الكون بكل موجوداته-، وليستطيع تسخيره بكل ما يحقق الغاية من وجوده.

وفي هذا يقول الله تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ? قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ? قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة: 30].

وفي الحديث عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ ، قَالَ: «إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ،..»

المفهوم الأول لمنهج القرآن في العمران :

ربط العمران بالمساجد:

من أهم معالم المنهج لقرآني للعمران ربط العمران بالمسجد فهذا اول بيت وضع للناس بمكة ان اول بيت وضع للناس للذي ببكة، فلم يكن مصادفة ان يكون هذا الببيت هو مفتاح عمران مكة وما حولها حينما اراد الله اعمارها بابراهيم واسماعيل وذرياتهما اسكنهم بواد غير ذي زرع وغير ذي عمران لكنن عند بيته المحرم وهكذا الى يومنا هذا اذا اراد الناس اعمار مكان بنوا فيه مسجدا وكانت هذه سنة النبي ﷺ في غزواته

المفهوم الثانى لمنهج القرآن في العمران :

أن يكون العمران للأمن وهو في نفسه آمن ليحقق لساكنه السكن قال تعالى:{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا } [البقرة: 125].أي يرجعون إليه مرة بعد أخرى، {وَأَمْناً} لأهله في الجاهلية().وكذلك البيوت بالنسبة لأهلها؛ لذا امتن الله علينا بنعمة السكن في البيوت بقوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل: 80] {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} في الدور والقصور ونحوها تكنُّكم من الحر والبرد وتستركم أنتم وأولادكم وأمتعتكم، وتتخذون فيها الغرف والبيوت التي هي لأنواع منافعكم ومصالحكم وفيها حفظ لأموالكم وحرمكم وغير ذلك من الفوائد المشاهدة، [ص:446] {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأنْعَامِ} إما من الجلد نفسه أو مما نبت عليه، من صوف وشعر ووبر.

{بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا} أي: خفيفة الحمل تكون لكم في السفر والمنازل التي لا قصد لكم في استيطانها، فتقيكم من الحر والبرد والمطر، وتقي متاعكم من المطر ().

كما امتن على أَصْحَابِ الْحِجْرِ بقوله تعالى: { وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ} [الحجر: 82] {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} [الشعراء: 146 – 149]{فَارِهِينَ} شرهين أو معجبين، أو آمنين، أو فرحين، أو بطرين اشرين(). أي بلغت بكم الفراهة والحذق إلى أن اتخذتم بيوتا من الجبال الصم الصلاب().

المفهوم الثالث لمنهج القرآن في العمران :

اختلاف اسلوب العمران بحسب بيئة الإنسان:

كما امتن {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ } [الأعراف: 74]

القرآن علم الإنسان بناء البيت ذى الطوابق المتعددة:

{ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ } [الزمر: 20].

بنيان مرصوص

{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4]

كأنهم بنيان مرصوص، كأنهم في اصطفافهم حيطان مبنية / قَدْ رُصَّ بناؤها وأحكم في استوائه.

وقيل: {مَّرْصُوصٌ}: بني بالرصاص.

قال قتادة: لا يحب صاحب البنيان أن يختلف بناؤه، كذلك تعالى ذكره لا يختلف أمره.

 

 

{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [النحل: 68]

 

فضل العمارة بوجه عام وعمارة المساجد بوجه خاص:

1- تعلق الغاية من الخلق بها ( الخلافة):

﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ ‌خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 30]

2- أنها مواضع العبادة في جميع صورها:

﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣٥) ‌فِي ‌بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ﴾ [النور: 35-36]

المعمر للمساجد رجل وجزاؤه عظيم:

إن من صفات الرجولة التي ذكرها الله تعالى في كتابه العزيز: عمارة المساجد.

قال تعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (٣٧) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [النور: 36 – 38].

كما يشير إلى عمارة المساجد قوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108].

بها يكون السكن والأمن والأمان:

﴿‌وَاللَّهُ ‌جَعَلَ ‌لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (٨٠) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ﴾ [النحل: 80-81

حث القرآن الكريم على عمارة المساجد حسيًا ومعنويًا

حث القرآن الكريم على عمارة المساجد حسيًا ومعنويًا، وحذر من تخريبها وهدمها حسيًا ومعنويًا، وهو ما أتناوله على النحو الآتي:

أولًا: عمارة المساجد:

نص القرآن الكريم على عمارة المساجد، وبين صفة عمارها بأنهم أهل الإيمان وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فقال جل شأنه: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ ? فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) [التوبة: 18].

وفي هذه المساجد الواردة في الآية قولان:

أحدهما: أنها مواضع السجود من المصلى.

والثاني: أنها بيوت الله تعالى المتخذة للعبادة، وفي كل احتمالات ووجوه.

فعلى القول بأن المقصود بها مواضع السجود من المصلي تكون عمارتها إما بالمحافظة على إقامة الصلاة، أو بترك الرياء، أو بالخشوع والإعراض عما ينهى.

وعلى القول بأنها بيوت الله تعالى فتكون عمارتها محتملة لثلاثة أوجه:

أحدها: إنما يعمرها بالإيمان من آمن بالله تعالى.

والثاني: إنما يعمرها بالزيارة لها والصلاة فيها من آمن بالله تعالى.

والثالث: إنما يرغب في عمارة بنائها من آمن بالله تعالى وبعمارة المسجد الحرام.

أنواع عمارة المساجد:

والعمارة هنا نوعان:

الأول: معنوية بالصلاة والاعتكاف والذكر في هذه المساجد.

الثاني: مادية بالبناء والتشييد والتوسيع بهذه المساجد ()

وتحصل عمارة المسجد بأحد أمرين:

الأول: بناؤها لقصد وجه الله عز وجل، وقد ذكر الله تعالى في هذه الآيات رجالًا متصفين بصفات الرجولية، أهل الإيمان والتقوى الصادقين المخلصين الموحدين، هؤلاء الرجال من صفتهم عمارة المساجد وبناؤها ووضع أسسها، إخلاصًا وصدقًا لله عز وجل.

قال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة: 18].

وقوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى}، إنه مسجد قباء الذي أسسه رسول الله ﷺ ومعه أصحابه رضي الله عنهم، وصلى فيه أيام مقامه بقباء من الاثنين إلى الجمعة، وقصد ببنائه منذ وضع أساسه في أول يوم تقوى الله بإخلاص العبادة له، وجمع المؤمنين فيه على ما يرضيه من التعارف والتعاون على البر والتقوى، وقوله تعالى: {أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى}، استعارة مكنية، حيث شبهت التقوى والرضوان بأرض صلبة يقوم عليها البناء، ثم حذف المشبه به وأشير إلى شيء من لوازمه وهو التأسيس، والتأسيس إحكام أسس البناء وهو أصله، وتأسيس البنيان بمعنى إحكام أمور دينه، أو تمثيل لحال من أخلص لله وعمل الأعمال الصالحة، وفيه إشعار بأن زكاء نفس الباني، وصدق نيته، مؤثر في البناء، وأن تبرّك المكان، وكونه مبنيّا على الخير، يقتضي أن يكون فيه أهل الخير والصلاح، ممن يناسب حاله حال بانيه ().

وهذه المساجد المؤسسة على التقوى والإخلاص وابتغاء وجه الله تعالى، وجمع المؤمنين على محبة رسول الله ﷺ ، والعمل على وحدة الإسلام، أولى وأحق من غيرها بالصلاة فيها، وهي مؤسسة بإذن الله تعالى، قال تعالى: {مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ}.

ثم ذكر القرآن الكريم صورة أخرى من عمارة المساجد، وهي: صورة الكفر والنفاق والضرار، ومسجد بني رياءً وسمعةً وصدًا عن منهج الله، على قاعدة أضعف القواعد وهو الباطل والنفاق، الذي مثله مثل شفا جرف هار، في قلة الثبات والاستمساك، ووضع شفا الجرف في مقابلة التقوى لأنه جعل مجازًا عما ينافي التقوى، يعني: أن بناء هذا المسجد الذي بني ضرارًا كبناء على حرف جهنم يتهور بأهله فيها، وهو قوله: {فَانْهَارَ بِهِ} أي: بالباني {فِي نَارِ جَهَنَّمَ} [التوبة: 109].

قال ابن عباس: «يريد: صيرهم النفاق إلى النار»، وفي قوله تعالى: {فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ}، تصوير للعاقبة التي ينتهي إليها هذا المسجد -مسجد الضرار- بأهله الذين بنوه، وأنه إذ بنوه على ضلال ونفاق وزيف، فهو بناء على خواء، على شفا جرف هار، وأنه إذ ينهار فسينهار بهم في نار جهنم، فهم بهذا قد ظلموا أنفسهم: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ().

قال تعالى: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } [التوبة: 108].للفرق بين مقاصد أهل مسجد التقوى وهم الرسول ﷺ وأنصاره، ومقاصد أهل مسجد الضرار الذي زادوا به رجسًا إلى رجسهم.

الثاني: عمارتها بالتسبيح والتحميد والتهليل والصلاة.

ذكر الله تعالى النوع الثاني من عمارة المساجد، وهي عمارتها بالصلاة والتسبيح والذكر، ويتلى فيها كتابه آناء الليل وأطراف النهار، كما يشير إلى عمارة المساجد قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور: 36 – 37].

فقوله تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا}، أي فيه رجال يعمرونه بإقامة الصلاة وذكر الله وتسبيحه فيه بالغدو والآصال، ويحبون أن يتطهروا بذلك مما يعلق بأنفسهم من أوضار الذنوب والآثام، رجال معلقة قلوبهم بالمساجد، متصلة قلوبهم بربهم، وأنهم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن الاتصال بالله().

وهؤلاء الرجال مرتبطون بالمساجد بالغدو والآصال، فعلاقتهم علاقة متينة مع الله تعالى، لهذا لا يسبح له فيها بالغدو والآصال إلا: {رِجَالٌ} التي جاءت نكرة، ليكون في الوصف بعد ذلك اشتياق، فغموض النكرة يجعل المتلقي يسأل: ومن الرجال؟ وما صفاتهم؟ كما أن في تأخير النكرة اعتناءً بالمؤخرة، وفي وصفه نوع طول فيخل تقديمه بحسن الانتظام.

والتسبيح في قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا}، المقصود به الصلاة، وأطلق التسبيح على الصلاة لأنه جزء منها، ويطلق الجزء على الكل أحيانًا، وهؤلاء الكرام يديمون هذا التسبيح {بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}، أوائل النهار وأواخره، وكذلك الليل.

قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62].

وهؤلاء المديمون ذكره صباح مساء ابتغاء خيره هم (رجال) عظام، وأي رجال كبار فخام، ولذلك وصفهم بأنهم: {لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ}، ولا عن {وَإِقَامِ الصَّلَاةِ} بوقتها، فإنهم لا يؤخرون شيئًا عن وقته، كما أمروا به، عدا ما هم عليه من الأعمال الصالحة المذكورة، لعلمهم بشدة هول يوم القيامة، وتوغل معرفتهم بالله، وخالص يقينهم بأنهم مهما عبدوه لم يؤدوه حقه ولا بعض حقه، وأن أعمالهم كلها لا تؤهلهم دخول الجنة، إذا لم يشملهم برحمته، ولعلمهم أنه تعالى لا يتقيد بشيء ولا يسأل عما يفعل، وقد وفقوا للخوف والخشية منه بفضله.

وقد وردت أحاديث عديدة في فضل بناء المساجد وآدابها منها:

1- ما رواه عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِلَّهِ بَنَى اللهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ مِثْلَهُ) وفي رواية : «بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» ().

2- ما روته عائشة رضي الله عنها قالت: (أمر رسول الله ﷺ ببناء المساجد في الدور وأن تنظّف وتطيّب) ().

فضل تطهير المساجد وتنظيفها:

فضل تطهير المساجد وتنظيفها كبير وثوابه عظيم عند الله تعالى، ويستحق صاحبه التكريم، كما في الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَجُلًا أَسْوَدَ أَوِ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَ يَقُمُّ المَسْجِدَ فَمَاتَ، فَسَأَلَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْهُ، فَقَالُوا: مَاتَ، قَالَ: «أَفَلاَ كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي بِهِ دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ – أَوْ قَالَ قَبْرِهَا – فَأَتَى قَبْرَهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا» () فما خصها ﷺ بشرف الصلاة عليها إلا لعظيم أجر عملها في تنظيف المسجد.

الأسباب المعينة على العمران من الله ومن الناس

أما الأسباب التي من الله:

تسخير الله:

آثار التسخير في عمارة الأرض

لقد ظهر أثر هذا التسخير في الكون في كل مناحي الحياة، في المعدن والنبات، وفي البر والبحر والهواء، فظهرت آثار مادية ومعنوية، وبيان ذلك من خلال النقاط الآتية:

أولًا: الآثار الحسية:

لقد ذكر القرآن الكريم آثار التسخير المادية في عمارة الأرض.

قال تعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38)} [ص: 36 – 38].

وقال سبحانه: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)} [سبأ: 12 – 13].

بينت الآيات الآثار الحسية، والتي منها: التجارة، والاقتصاد، والصناعة.

فأخبر تعالى أنه سخر لسليمان عليه السلام الريح، ومعنى تسخيره الريح: خلق ريح تلائم سير سفنه للغزو أو التجارة، فجعل الله لمراسيه في شواطئ فلسطين رياحًا موسمية تهب شهرًا مشرقة لتذهب في ذلك الموسم سفنه، وتهب شهرًا مغربة لترجع سفنه إلى شواطئ فلسطين.

قال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81)} [الأنبياء: 81].

فأطلق الغدو على الانصراف والانطلاق من المكان تشبيهًا بخروج الماشية للرعي في الصباح، وهو وقت خروجها، أو تشبيهًا بغدو الناس في الصباح 61. ()

وقوله تعالى: {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ}، والإسالة: جعل الشيء سائلًا في الأرض كمسيل الوادي، وعين القطر ليست عينًا حقيقة، ولكنها مستعارة لمصب ما يصهر في مصانعه من النحاس، حتى يكون النحاس المذاب سائلًا خارجًا من مساقي، ونحوها من الأنابيب، كما يخرج الماء من العين لشدة إصهار النحاس وتوالي إصهاره، فلا يزال يسيل ليصنع له آنية وأسلحة ودرقًا، وما ذلك إلا بإذابة وإصهار خارقين للمعتاد بقوة إلهية.

شبه الإصهار بالكهرباء أو بالألسنة النارية الزرقاء، وذلك ما لم يؤته ملك من ملوك زمانه، ويجوز أن يكون السيلان مستعارًا لكثرة القطر كثرة تشبه كثرة ماء العيون والأنهار 62. ()

وقوله تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ} قصور حصينة ومساكن شريفة، سميت بها؛ لأنها يذب عنها ويحارب عليها، والمحاريب: جمع محراب، وهو الحصن الذي يحارب منه العدو والمهاجم للمدينة، أو لأنه يرمى من شرفاته بالحراب، ثم أطلق على القصر الحصين، وقد سموا قصور غمدان في اليمن: محاريب غمدان، وهذا المعنى هو المراد في هذه الآية، ثم أطلق المحراب على المكان الذي يختلى فيه للعبادة، فهو بمنزلة المسجد الخاص 63. ()

والتماثيل: هي الصورة الممثلة، أي: المجسمة، فكان النحاتون يعملون لسليمان تماثيل للملائكة والأنبياء على ما اعتادوا من العبادات ليراها الناس فيعبدوا نحو عبادتهم 64. ()

والجفان: جمع جفنة، وهي القصعة العظيمة التي يجفن فيها الماء، وشبهت الجفان في عظمتها وسعتها بالجوابي، وهي جمع جابية، وهي: الحوض العظيم الواسع العميق، الذي يجمع فيه الماء لسقي الأشجار والزروع 65. ()

وقوله تعالى: {وَغَوَّاصٍ}، من يغوصون له من الشياطين، أي: يغوصون له في البحار فيستخرجون له منها الجواهر النفيسة، كاللؤلؤ والمرجان، والغوص: النزول تحت الماء، والغواص: الذي يغوص البحر ليستخرج منه اللؤلؤ ونحوه، أن الشياطين المسخرين له يعملون له عملًا دون ذلك، أي: سوى ذلك الغوص المذكور، أي: كبناء المدائن، والقصور، وعمل المحاريب، والتماثيل، والجفان، والقدور الراسيات، وغير ذلك من اختراع الصنائع العجيبة 66. ()

وظهر أثر هذا التسخير في الكون في كل مناحي الحياة، في المعدن والنبات، وفي البر والبحر والهواء، فشيدت ناطحات السحاب، وأقيمت السدود العملاقة لإنتاج الطاقة، وحولت الصحاري إلى مناطق زراعية خصبة، وعمرت المدن الكبيرة.

ومن هذه الأثار الحسية: ما نشاهد من مصانع تشاد لصناعة وسائل النقل بمختلف أنواعها، السفن البحرية، الشراعية والنارية، والطائرات والسيارات والقطارات، {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} [الزخرف: 12].

ومن آثار التسخير الحسية التي ذكرها القرآن الكريم: صناعة الدروع والأسلحة من الحديد.

قال تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80)} [الأنبياء: 80].

وقال سبحانه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)} [سبأ: 10 – 11] 67. ()

ومن آثار التسخير الحسية التي ذكرها القرآن الكريم: صناعة السدود، فيصور القرآن ما صنعه ذو القرنين ليوقف زحف يأجوج ومأجوج على الآخرين.

فقال تعالى: {قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)} [الكهف: 94 – 97].

كذلك عرف الإنسان كيف يقيم مراوح تحركها الرياح، وكيف يحول تلك الحركة إلى إدارة الطواحين، وساهم هذا الاختراع في توليد الطاقة الكهربائية، التي تستخدم في جميع المجالات والاحتياجات الإنسانية، ومن الرياح ما يحمل النفع للناس، ففيها تحريك السفن التي تنقل الناس والتجارة، ومن الرياح ما يحمل السحاب ويسوق المطر.

قال تعالى: {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164] 68. ()

ومن آثار التسخير المادية: صناعة الأسورة وأدوات الزينة من الذهب، واستخراج الأحجار الكريمة في خدمة البشر. فمن المياه كان يستخرج اللؤلؤ والمرجان، واللؤلؤ: إفراز كلسي تحتضنه قواقع معينة ذات ضلفتين (صدفتين)، ويكون اللؤلؤ في حبيبات مستديرة أو قريبة من الاستدارة في حجم حبة الحمص، وقد تكون أصغر أو أكبر، بيضاء اللون عادة، وقد يشوبها لون آخر، واشتهرت المياه الدافئة بوجود أصداف اللؤلؤ، ويمارس غواصو اللؤلؤ صناعة الحصول على اللؤلؤ من أصدافه، أما المرجان فيكون في أعواد متشعبة ذات لون برتقالي أو أحمر، ولها مظهر أعواد النبات، إلا أنها حيوان بحري من عائلة المرجانيات، وهو حيوان رخوي يحتمي داخل أعواد كلسية مجوفة، هي أعواد المرجان، ويمكن الحصول على اللؤلؤ وعلى المرجان من المياه المالحة أساسًا، ومن المياه العذبة في ظروف خاصة.

قال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [فاطر: 12].

وقال سبحانه: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22)} [الرحمن: 22] 69. ()

الآثار المعنوية للتسخير:

لقد ذكر القرآن الكريم الأثار المعنوية للتسخير، قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)} [سبأ: 10 – 11].

بينت هذه الآية الصورة الكريمة والثناء الجميل للإنسان الذي يحقق معنى التسخير، وفي هذا التسخير للجبال والطير مع كونه معجزة لداود عليه السلام وكرامة وعناية من الله به إذ آنسه بتلك الأصوات في وحدته في الجبال وبعده عن أهله وبلده، على التمام والكمال، وإذا كان داود وسليمان قد خلع الله سبحانه وتعالى عليهما هذه الخلع العظيمة من نعمه، فإن هذه النعم قد وضعها الله تعالى للبشرية جميعًا، وتسخير هذا الكون بما فيه من الطاقات الهائلة التي تغطي احتياجات البشرية هو الذي يحقق للأمة كرامتها وعزها ومجدها.

قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)} [الإسراء: 70].

وقد جمعت الآية خمس منن: التكريم، وتسخير المراكب في البر، وتسخير المراكب في البحر، والرزق من الطيبات، والتفضيل على كثير من المخلوقات. والتكريم: جعله كريمًا، أي: نفيسًا غير مبذول ولا ذليل في صورته ولا في حركة مشيه وفي بشرته، والتكريم بما جعل الله فيه من المعارف والصنائع، وقبول التطور في أساليب حياته وحضارته، وهذا من كرمه عليهم وإحسانه الذي لا يقادر قدره، حيث كرم بني آدم بجميع وجوه الإكرام، فكرمهم بالعلم والعقل، وإرسال الرسل وإنزال الكتب، وجعل منهم الأولياء والأصفياء، وأنعم عليهم بالنعم الظاهرة والباطنة، {وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ}، على الركاب من الإبل والبغال والحمير والمراكب البرية، {وَالْبَحْرِ}، في السفن والمراكب، {وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ}، من المآكل والمشارب والملابس والمناكح، فما من طيب تتعلق به حوائجهم إلا وقد أكرمهم الله به ويسره لهم غاية التيسير، ومن التكريم: أن يكون الإنسان قيمًا على نفسه، محتملًا تبعة اتجاهه وعمله، فهذه هي الصفة الأولى التي بها كان الإنسان إنسانًا، حرية الاتجاه وفردية التبعة، وبها استخلف في دار العمل، فمن العدل أن يلقى جزاء اتجاهه وثمرة عمله في دار الحساب 70. ()

وإن آيات التسخير في القرآن الكريم فيها دلالة عظيمة ودعوة للمؤمنين إلى أن هذا التسخير يجب أن يستفيدوا منه في الحصول على كل الطاقات المسخرة في هذا الكون بما يغطي جميع الاحتياجات، ويدفع المسلمين إلى النهضة، ويلفتهم إلى جلال القرآن، ويحركهم إلى الانتفاع بقوى هذا الكون العظيم الذي سخره الله لنا، انتفاعًا يعيد لأمة الإسلام نهضتها ومجدها وكرامتها، قال تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)} [يونس: 101] وقال سبحانه: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)} [الجاثية: 13].

فلا يليق بالمسلمين وهم المخاطبون بهذا أن يفروا من وجه هذه المنافع العامة، ولا أن يزهدوا في علوم الكون، ولا أن يحرموا أنفسهم فوائد التمتع بثمرات هذه القوى العظيمة التي أودعها الله لخلقه في خزائن سماواته وأرضه، ولهذا نص علماؤنا على أن تعلم تلك العلوم الكونية وحذق هذه الصناعات الفنية فرض من فروض الكفايات؛ ما داموا في حاجة إليها لمصلحة الفرد أو المجموع، وذلك لأن البقاء في هذه الحياة للأصلح، والحياة في هذا الوجود إنما تقوم على التمهر في العلوم، وعلى السبق في حلبة الصناعات والفنون.

ومما يشير إلى هذه المعاني كلها قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } [الملك: 15]؛ لترتبه على ما قبله بالفاء، أي: بسبب تذليلها بتيسير المشي في أرجائها، وطلب الرزق في أنحائها بالتسبب فيها من زراعة وصناعة وتجارة إلخ، والأمر في قوله تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ}، للإباحة، ولكن التقديم لهذا الأمر بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا}، فيه امتنان من الله تعالى على خلقه مما يشعر أن في هذا الأمر مع الإباحة توجيهًا وحثًا للأمة على السعي والعمل والجد، والمشي في مناكب الأرض من كل جانب؛ لتسخيرها وتذليلها، مما يجعل الأمة أحق بها من غيرها.

وعليه، فقد وضع القرآن الأمة الإسلامية في أعز مواضع الغنى، والاستغناء والاستثمار والإنتاج، فما نقص عليها من أمور دنياها إلا بقدر ما قصرت هي في القيام بهذا العمل، وأضاعت من حقها في هذا الوجود، وإن على الأمة الإسلامية أن تعمل على استثمار وإنتاج كل حاجياتها حتى الإبرة؛ لتستغني عن غيرها، وإلا احتاجت إلى الغير بقدر ما قصرت في الإنتاج، وهذا هو واقع العالم اليوم، إذ القدرة الإنتاجية هي المتحكمة وذات السيادة الدولية، وقد أعطى الله العالم الإسلامي الأولوية في هذا كله، فعليهم أن يحتلوا مكانهم، ويحافظوا على مكانتهم، ويشيدوا كيانهم بالدين والدنيا معا 71. ()

قال عبد الكريم الخطيب: «ولكن هذه الخلقة المهيأة لأن تكون بمقام الخلافة لله تعالى على الأرض، لا يتحقق لها هذا، حتى تحقق هي ذاتيتها، وتخرج القوى الكامنة فيها، وتفجر الطاقات المندسة في كيانها، كالنواة التي تضم في كيانها عناصر شجرة عظيمة، أو نخلة باسقة، تظل هكذا شيئًا ضئيلًا ميتًا، حتى تندس في صدر الثرى، ثم تتفاعل معه، وتخرج خبأها بعد جهد وصراع، أما الإنسان الذي لا يعمل على الانتفاع بما أودع الله فيه من قوى، فسيظل كتلة باردة من لحم ودم، لا يرتفع كثيرًا عن مستوى أدنى الحيوانات وأحطها منزلة، والله سبحانه وتعالى يقول: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)} [التين: 4 – 6].

هذا هو مقام الإنسان في العالم الأرضي، إنه سيد المخلوقات كلها في هذا العالم، مادام محتفظًا بإنسانيته، عاملًا على الارتقاء بوجوده، أما المخلوقات التي في غير هذا العالم الأرضي، فلا شأن للإنسان بها، كما أنها لا شأن لها بالإنسان، ومن ثم فالمفاضلة بينه وبينها شيء غير وارد، وغير منظور إليه، إذ لا تعامل بين الإنسان وبين تلك المخلوقات!» 72. ()

ومن الآثار المعنوية للتسخير في قوله تعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38)} [ص: 36 – 38]. ففي هذه الآية دليل على عظمة وقوة ملك سليمان عليه السلام وعزة سلطانه، وذلك أن الريح قوة عاتية وجبارة وقد سخرها الله تعالى في خدمة سليمان عليه السلام ومملكته العظيمة، وكذلك الجن طائفة عاتية وقبيلة طاغية ماردة تسخر هذه الطاقة في خدمة مملكة سليمان عليه السلام.

وقال تعالى يصف معجزة سليمان في تسخير الرياح: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81)} [الأنبياء: 81].

وقال سبحانه: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ: 12].

وقال جل وعلا: {وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [فاطر: 12].

وهكذا صور القرآن الكريم الحرف الصناعية تصويرًا معجزًا ليرسي الخلق الإسلامي، خلق القرآن الكريم؛ فيتحقق ما يأتي: التشريع والتقرير لهذه الصناعات، وأنها مشروعة من قبل الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك: 15].

وغرس القيم وتنمية الفضائل من خلال التشريع لهذه الصناعات المتنوعة، لتحقق الغاية من الإسلام وهي الأخلاق، كما جاء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) 73()، كما حث الإسلام على العمل والصمود فيه، فخير الكسب ما كان من عمل اليد.

عن المقدام رضي الله عنه، عن رسول الله ﷺ ، قال: (ما أكل أحد طعامًا قط، خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام، كان يأكل من عمل يده) ()74،75. ().

 

وأما الأسباب التي من الناس:

1- السعي في الأرض وعمارتها:

﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ‌ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ [الملك: 15]

﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الجمعة: 10]

2- الإصلاح وعدم الإفساد:

﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ ‌وَلَا ‌تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [الأعراف: 85]

﴿‌وَلَا ‌تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الأعراف: 56]

﴿وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ ‌سَبِيلَ ‌الْمُفْسِدِينَ ﴾ [الأعراف: 142]

3- اقامة العدل وأعظمه التوحيد:

﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ‌لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 55]

﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ ‌لَهُمُ ‌الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الأنعام: 82]

4- محاربة الظلم وأعظمه الشرك:

﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً ‌كَانَتْ ‌آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾ [النحل: 112]

﴿‌سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ﴾ [آل عمران: 151]

﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ‌إِنَّ ‌الشِّرْكَ ‌لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13]

5- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :

﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ ‌وَأَمَرُوا ‌بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ [الحج: 41]

عن النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ، عَنِ ﷺ قَالَ : مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا ، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا ، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ ، فَقَالُوا : لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا ، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا ، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا ، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.