صمت الأصابع.. حين يفقد الإعلام الرقمي روحه

بقلم / المهندس منصور أمان
في هذا العصر الرقمي المتسارع، حيث تتدفق المعلومات كشلال لا يتوقف، وتتنافس الشاشات على جذب انتباهنا بثوانٍ معدودة، بتنا نعيش في عالم يبدو ظاهريًا أكثر اتصالًا من أي وقت مضى. نقضي ساعات نتصفح، نعلق، نشارك، نتفاعل، لكن في خضم هذا الزخم الهائل، هل توقفنا يومًا لنفكر في الثمن الذي ندفعه؟ هل لاحظنا كيف بدأت تذبل بعض الزهور في حديقة الإعلام الرقمي الغناء؟.
سباق الحصول على “اللايكات
أحد أكثر الجوانب إثارة للقلق هو تراجع العمق والروح في المحتوى. في سباق الحصول على “اللايكات” و”المشاركات”، غالبًا ما يتم اختزال القضايا المعقدة في عناوين براقة ومقاطع فيديو قصيرة لا تتجاوز الدقيقة. يطغى السطحي على الجوهري، ويصبح الإبهار البصري أهم من الفكرة ذاتها. نفقد بذلك متعة الغوص في التحليل المتعمق، ونكتفي بجرعات سريعة ومشبعة بالسطحية.
الأمر لا يتوقف عند هذا الحد. تآكل الحوار البناء يمثل تحديًا آخر. تحولت العديد من المنصات إلى ساحات للجدال العقيم وتبادل الاتهامات، حيث يرتفع صوت المتعصبين ويخفت صوت العقلانية. فقاعات المرشحات (Filter Bubbles) تعزز هذا الانقسام، إذ تقدم لنا فقط وجهات النظر التي تتفق مع آرائنا، مما يعزز التحيزات ويصعب علينا فهم الآخر المختلف.
فقدان الأصالة والخصوصية
فقدان الأصالة والخصوصية هو جرح آخر ينزف بصمت. في سعينا لتقديم نسخة “مثالية” من حياتنا على وسائل التواصل الاجتماعي، غالبًا ما نتخلى عن عفويتنا وفرادتنا. نصبح نسخًا باهتة من صور نمطية، ونقضي وقتًا أطول في تجميل الواقع بدلًا من عيشه بصدق. كما أن التتبع المستمر لبياناتنا يثير تساؤلات مقلقة حول حدود الخصوصية وحقوقنا الرقمية.
تأثير الإعلام الرقمي على الصحة النفسية لا يمكن تجاهله. المقارنات المستمرة مع “حياة” الآخرين المثالية، والخوف من فقدان التريند (FOMO)، والتعرض المستمر للتنمر الإلكتروني، كلها عوامل تساهم في زيادة مستويات القلق والاكتئاب، خاصة بين الشباب.
ضرورة استعادة الوعي والمسؤولية
لكن، هل يعني هذا أن الإعلام الرقمي لعنة لا فكاك منها؟ بالطبع لا. يظل هذا العالم الرقمي يحمل في طياته إمكانات هائلة للتعلم والتواصل والتعبير والإبداع. المفتاح يكمن في استعادة الوعي والمسؤولية.
نحن بحاجة إلى أن نكون مستهلكين واعين للمحتوى، نسأل، نتحقق، نبحث عن العمق والجودة. نحن بحاجة إلى أن نخلق مساحات للحوار المحترم والمثمر، تتجاوز الانقسامات وتسعى للفهم المشترك. نحن بحاجة إلى أن نحمي أصالتنا وخصوصيتنا، وأن نتذكر أن قيمة حياتنا لا تقاس بعدد “الإعجابات”.
إن صمت الأصابع عن الكتابة السطحية والردود المتعصبة، وصمت العيون عن التحديق اللاواعي في الشاشات لساعات طويلة، قد يكون هو الخطوة الأولى نحو استعادة روح الإعلام الرقمي. دعونا نستخدم هذه الأدوات القوية بحكمة وتعقل، لنبني بها جسورًا من الفهم والتواصل الحقيقي، لا جدرانًا من العزلة والسطحية.
منصور أمان
مهندس اتصالات مهتم بقضايا الفكر والإعلام