على مدى التاريخ .. الإرادة المصرية الصلبة لا تتأثر برياح الضغوط

بقلم / مدحت سالم
منذ فجر التاريخ ومصر تقف على مفترق الطرق بين قوى متصارعة ومصالح متباينة تحاول جرّها إلى مسارات لم تخترها بإرادتها غير أن ما يميز هذه الأرض المباركة هو صلابتها أمام الأعاصير ومقدرتها الفريدة على امتصاص الصدمات والتكيف مع المتغيرات دون أن تفقد هويتها أو تتنازل عن ثوابتها
لقد أثبتت مصر عبر العصور أنها ليست مجرد دولة تمر في مسارات السياسة والتاريخ مرور الكرام بل هي حجر الزاوية الذي تتكئ عليه موازين القوى وهي اللاعب الإقليمي الذي تتوقف على مواقفه معادلات الاستقرار أو الفوضى في المنطقة ولطالما كانت مواقفها مصاغة من معدن الإرادة الوطنية الصلبة لا تتأثر برياح الضغوط ولا تنحني تحت وطأة الإملاءات
فهل يُمكن لوطن بهذا العمق الحضاري والوزن الاستراتيجي أن يُفرض عليه ما لا يقبله؟ وهل يمكن أن تُصاغ له معادلات لا تتسق مع إرثه السياسي وعقيدته الاستراتيجية؟
** استقلال القرار بين الأمس واليوم
السياسة لم تكن يوماً ساحة مثالية تقوم على النوايا الحسنة بل هي ساحة صراع لا مكان فيها للضعفاء ولا مجال لمن يترددون في اتخاذ قراراتهم ومصر التي امتلكت على مرّ التاريخ إرادة سياسية مستقلة دفعت ثمناً باهظاً للحفاظ على هذه الاستقلالية فمنذ عهد الفراعنة وحتى العصر الحديث لم تقبل هذه الدولة العريقة أن تكون تابعاً أو أن ترهن إرادتها لقوى خارجية
لقد عبّر الزعيم الراحل جمال عبد الناصر عن هذه الفلسفة السياسية حين قال (( إن الاستقلال السياسي لا يُمنح ولكنه يُنتزع بالنضال والدماء )) فمصر التي خاضت حروبها دفاعاً عن سيادتها والتي واجهت أطماع المحتلين والاستعماريين عبر التاريخ لا يمكنها أن تخضع اليوم لهيمنة القوى الكبرى أو لإملاءات القوى الإقليمية
وفي عالم اليوم حيث تُمارس الضغوط بوسائل أكثر تعقيداً عبر المشروطيات السياسية والتدخلات الناعمة تبدو مصر صامدة أمام كل محاولات فرض واقع سياسي لا يتناسب مع مصالحها الوطنية تدرك تماماً أن السياسة ليست مجرد تحالفات عابرة ولا مساومات ظرفية بل هي التزام بالمبادئ وصون للكرامة الوطنية
** الإقتصاد بين الحاجة إلى الإصلاح والتمسك بالسيادة
إن الاقتصاد كما السياسة ساحة للصراع فلا توجد دولة كبرى إلا وتمارس نفوذها عبر الاقتصاد مستخدمة أدوات مثل المساعدات والقروض والاتفاقيات التجارية كوسائل للضغط السياسي لكن مصر التي تواجه أعباء اقتصادية ثقيلة من تضخم وديون وأزمات عالمية لم تسمح يوماً بأن يكون اقتصادها سلاحاً يُشهر في وجه إرادتها السياسية
إنها تدرك أن تحقيق التنمية الاقتصادية لا يعني التبعية بل يتطلب مزيجاً من الانفتاح المدروس والإصلاح العميق مع الحفاظ على القرار السيادي فقد قال الفيلسوف الصيني كونفوشيوس (( إن من يملك قوته بيده يملك قراره بيده )) لذلك فإن مصر تسعى جاهدة لتحقيق التوازن بين حاجتها للاستثمار والنمو وبين حمايتها لسيادتها الاقتصادية حتى لا تقع في فخ الارتهان لقرارات خارجية لا تخدم مصلحة شعبها
** التحديات الأمنية: بين مكافحة الإرهاب وحماية الاستقرار
الأمن القومي المصري ليس مسألة تخضع للنقاش أو التفاوض فمصر ليست مجرد دولة تحمي حدودها بل هي ركيزة الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط وعلى مدى العقود الماضية واجهت مصر موجات إرهابية مدعومة بأجندات خارجية حاولت زعزعة استقرارها غير أن الدولة المصرية تعاملت مع هذه التهديدات بحزم لا يعرف المساومة
وكما قال ونستون تشرشل (( الأمن ليس مسألة عدد الجنود بل هو مسألة إرادة أمة في الدفاع عن نفسها )) فإن مصر لم تكتفِ بمكافحة الإرهاب على أرضها فحسب بل لعبت دوراً محورياً في التصدي للفوضى الإقليمية وحماية أمنها القومي من التدخلات الأجنبية التي تسعى إلى إعادة رسم خريطة المنطقة وفق مصالحها
لن تُفرض المعادلات على مصر؟
إن السؤال الذي يفرض نفسه بقوة في خضم هذه الضغوط والتحديات هو هل يمكن أن تُفرض على مصر معادلات لا تقبلها؟ هل يمكن أن تُجبر على السير في طرق لا تتناسب مع رؤيتها ومصالحها الوطنية؟
الإجابة واضحة لكل من يعرف هذا الوطن الذي لم يخضع يوماً ولم يقبل أن يكون ورقة في يد أحد فكما قال الشاعر محمود درويش (( على هذه الأرض ما يستحق الحياة )) فإن في مصر ما يستحق الصمود والمقاومة والتضحية لأجله
لقد علّمتنا دروس التاريخ أن مصر حين تواجه المحن فإنها لا تستسلم بل تخرج منها أقوى مما كانت عليه وكما قال الله تعالى (( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ )) الآية ١١ سورة الرعد فإن إرادة الشعوب هي التي تصنع المستقبل وتحدد مصير الأوطان.
ختاما ًمصر كما كانت وكما ستظل
إن مصر لم تكن يوماً ضعيفة ولم تكن يوماً تابعة ولم تكن يوماً قابلة للانكسار فهي كما قال عنها المؤرخ الإغريقي هيرودوت (( أمّ الحضارات وأمّ العجائب )) وطن قادر على امتصاص الصدمات وصناعة المعجزات والتعامل مع أعتى التحديات بصلابة الجبال.
ومهما اشتدت الضغوط ومهما حاولت القوى الكبرى فرض سيناريوهاتها الخاصة فإن مصر ستظل كما كانت وكما ستبقى صاحبة القرار الأول والأخير في مصيرها قادرة على تحديد مساراتها وفق ثوابتها وإرادة شعبها الذي لم يعرف يوماً الاستسلام.
مدحت سالم
كاتب وباحث