الصراط المستقيم

فقه المرأة المسلمة بين القرآن والسنة

بقلم/دكتور محمود خليل

السؤال حرية، والعقل الحر هو العقل المتسائل. وقد امتاز العقل النسوى الأنصارى بفضيلة التساؤل، وقدرته الخاصة، بل جرأته على طرح الأسئلة. ولعلك تذكر الوصف الذى خلعته عائشة- رضى الله عنها- على نساء الأنصار: «نعم النساء نساء الأنصار» وقد قيل فى سياق مدحها لجرأتهن فى طرح الأسئلة من أجل التفقه فى الدين: «لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن فى الدين». وقد حكيت لك كيف سألت نسيبة بنت كعب، النبى، «صلى الله عليه وسلم» حول عدم ذكر النساء، فنزل بعدها قول الله تعالى: «إن المسلمين والمسلمات». لم يكن هذا التوجه فرديًا لدى «نسيبة»- رضى الله عنها- بل اتجاهًا عامًا لدى نساء الأنصار، تجد ذلك واضحًا فى المشهد الذى جمع بين رسول الله وأسماء بنت يزيد بن السكن.

أسماء بنت يزيد أنصارية تنتمى إلى بنى عبد الأشهل، وكانت توصف بذات العقل والدين، وقد جاءت إلى النبى ذات يوم فقالت: «إنى رسول مَن ورائى من جماعة نساء المسلمين، يقلن قولى، وعلى مثل رأيى. إن الله بعثك إلى الرجال والنساء، فآمنا بك واتبعناك، ونحن معشر النساء مقصورات (قائمات فى البيوت)، مخدرات (الستر الذى يضرب على البيت)، قواعد بيوت، وموضع شهوات وحاملات أولادكم، وإن الرجال فضلوا بالجماعات وشهود الجنائز، وإذا خرجوا للجهاد حفظنا لهم أموالهم، وربينا أولادهم. أفنشاركهم فى الأمر يا رسول الله؟ فالتفت رسول الله بوجهه إلى أصحابه وقال لهم: هل سمعتم مقالة امرأة أحسن سؤالًا عن دينها من هذه؟ فقالوا: لا يا رسول الله. فقال رسول الله: اذهبى يا أسماء وأعلمى من وراءك من النساء أن حسن تبعل إحداكن لزوجها وطلبها لمرضاته، واتباعها لموافقته، تعدل كل ما ذكرت للرجال».

لم تكن «أسماء» تعبر عن نفسها، بل عن توجه عام لدى نساء الأنصار، فقد كانت تبحث مع غيرها عن حق المرأة فى «الدور الاجتماعى»، مثلها فى ذلك مثل الرجل، وقد أقر النبى- صلى الله عليه وسلم- «أسماء» ومَن وراءها على ضرورة تحديد الدور الذى ارتبط بالسياق الزمنى حينذاك، والمتمثل فى حسن عشرة الزوج، بما لذلك من أثر جليل على الأوضاع الاجتماعية، ليس معنى ذلك بالطبع توقف دور المرأة عند حد رعاية الزوج والأولاد، بل من حقها المساهمة فى شئون المجتمع، ما دامت تملك القدرة والأدوات التى تمكنها من ذلك. فالرسول- صلى الله عليه وسلم- لم يمانع فى أن تنضم نسيبة بنت كعب إلى صفوف المقاتلين فى أُحد، ومن بعد فى صفوف الجيش الذى قاتل فى حروب الردة.

تكاد تكون المرأة الأنصارية نسيجًا وحدها، وهى تسأل وهى تبحث عن تحديد «دور اجتماعى» دقيق، تتساوى فيه مع الرجال فى العطاء للدنيا وحسن الثواب فى الآخرة. إنها تركيبة شخصية مختلفة فى أسلوب تفكيرها ومواقفها. يظهر ذلك فى العديد من السمات الأخرى التى ميزتها- غير التساؤل والبحث عن دور- فقد كانت «الأنصارية» مهما جار عليها الزمن حرة، ترفض الخضوع مهما كانت الأسباب. يظهر ذلك من مراجعة سيرة معاذة بنت عبدالله بن جبير، وكانت سبية لدى عبدالله بن أبى بن سلول، خلال فترة الصراع بين الأوس والخزرج. وكان «ابن سلول» يحاول إكراهها على البغاء، وهى تأبى، وفيها نزل قول الله تعالى: «ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنًا». إنها التركيبة الحرة التى مهما جار عليها الزمن لا تعرف الخضوع، وقد وجدت فى قيم الإسلام سندًا لموقفها.

وفى سياق الحديث عن رفض المرأة الأنصارية الإكراه حتى ولو كانت زوجة، تظهر شخصية جميلة بنت أبى بن سلول، وكانت زوجة لثابت بن قيس، لكنها لم تطق عشرته، وطلبت التفريق بينها وبينه، فأرسل إليها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وسألها: ما كرهت من ثابت؟ فقالت: والله ما كرهت منه شيئًا إلا دمامته، فقال لها: أتردين عليه حديقته؟ قالت نعم. ففرق بينهما. جميلة- أو كما قيل فى رواية أخرى «حبيبة»- بنت أبى بن سلول وزوجها قيس بن ثابت كانا بطلى العديد من السجالات والحوارات بعد أكثر من ١٤ قرنًا من الزمان، حين تم استدعاء هذه الواقعة وتأسس عليها قانون الخلع «القانون رقم ١ الصادر فى ٢٩ يناير ٢٠٠٠»، وأيًا ما كانت الروايات التى سيقت فى تفسير صدور هذا القانون، إلا أنها فى المجمل لا تنفى هذا الاستدعاء الشهير لموقف واحدة من نساء الأنصار خلعت زوجها- واشتهرت المختلعة- وأقر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حقها فى عدم العيش مع زوج لا ترضاه، شريطة أن ترد عليه ما دفعه لها من مهر.

يقول صاحب كتاب «الاستبصار فى نسب الصحابة من الأنصار»: «وروى أهل المدينة أن المختلعة من ثابت بن قيس حبيبة بنت سهل الأنصارى..، ويجوز أن تكونا جميعًا اختلعتا منه..» إلخ، وإن كان ذلك يدل على شىء فهو يؤشر إلى طبيعة المرأة الأنصارية وتركيبتها الحرة التى لا تصبر على إكراه وتسعى باستمرار فى اتجاه نيل حقها وحريتها، ما دام ذلك يتم فى إطار ما شرعه الله تعالى. وتلك هى المرأة الحقيقية التى تعرف كيف تحد الحدود ما بين حقها كإنسانة لها عقلها الذى تفكر به، ولها تفضيلاتها، ورؤيتها للحياة، والتزامها كامرأة مسلمة تعرف حق دينها عليها وترعاه، وتتفهم أيضًا حق زوجها وأولادها، بنفس الدرجة التى تستوعب بها حق مجتمعها عليها. كذلك كانت المرأة الأنصارية.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.