لماذا لم يظل ريان حيا؟
الحمد لله.. وبعد،
بين أمواج الحزن المتتابعة وحروفه المسطورة وعبقه المنبعث من غيابات الجب إثر موت الطفل المغربي ريان وجد كثير من الناس في صدورهم شيئًا؛ منهم من أظهر ذلك .. ومنهم من كتمه .. ومنهم من وقع في شيء من الحيرة والإياس..
سؤالات شتى تحتاج لإجابات ..
لماذا لم يستجب الله لدعاء ملايين المسلمين!
لماذا يُعذب صاحب السنوات الخمس دون جريرة!
لماذا لم يرده الله لأمه المسكينة والأمل يحدوها مع بشريات الخلاص!
أَبَعْد كل هذه المحاولات يخرج حيًا ثم يموت أو يخرج ميتًا؛ أليس الله بأرحم من ذلك!
لماذا لم تكن نهاية القصة سرمدية سعيدة؛ فيرى الناس شيئًا من آثار رحمة الله ينير تلك الظلمات الموحشة؛ فيبيت ملايين المسلمين ليلتهم في فرح وسعادة!
حسنًا ..
بعيدًا عن جانب التنظير العلمي؛ أستعين بالله وأسأله فك عقدة لساني وفتحًا لمداد قلمي وأقول:
إن من الأمور التي ينبغي عليك كمسلم معرفتها وفهمها جيدًا بل وإتقانها= مسألة خلق الشر.
وقد ذكرت هذه المسألة هنا غير مرة، لكن لعل هذا وقتها إن شاء الله.
وكما ذكرتُ، لن أخوض في الجانب العلمي لهذا المبحث العقدي على جهة التأصيل العلمي وطرائق أئمة الاعتقاد والسنة؛ فقط كل ما يعنيني اليوم أن تفهم ما يجعلك مستقرًا نفسيًا وإيمانيًا تجاه مثل تلك الحادثات.
من جملة اعتقاد أهل السنة: الإيمان بالقدر؛ ومنه أن الله خالق كل شيء؛ خلق الخير والشر؛ باعتبار ما يراه الناس شرًا، لا باعتبار حقيقة كونه شرًا..
يعني ما نراه نحن شرًا، قد لا يكون في حقيقته شرًا..
ومن الأخطاء التي نقع فيها قياس الخير والشر بعقولنا القاصرة بناء على المفهوم المادي للحياة الدنيا.
أما حقيقة الخير والشر عند الله؛ فالموازيين فيها مختلفة؛ هنالك ميزان الدنيا وما بعد الموت وغيبيات الآخرة، فافهم هذا.
أكثرنا في هذه القصة يشتهي الخير بطريقته هو .. وفق ما يعقله عقله ويرجوه فؤاده: أن يخرج ريان سالمًا ويعيش في هذه الدنيا؛ لأن عقولنا غالبًا لا تعلم ما وراء ذلك.
طيب ماذا لو عاش فكان من أهل النار؟
قطعًا هذا شر، لكنّا لا ندركه الآن؛ بل ندركه يوم القيامة.
لكن الله خالق الزمن عالم الغيب يعلم ما وراء المكان والزمان والحدود والعلوم؛ فالله لا تحده الأزمنة ولا تعجزه العلوم وقوانين المادة.
حسنًا.. أعود فأقول:
أهل السنة لا ينسبون الشر إلى الله عز وجل مراعاةً لمقام الأدب والتعظيم؛ فلا يقولون إن الله خلق الشرور تأدبًا..
ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم كما عند مسلم: والشر ليس إليك.
أي: لا يُنسب إليك، ولا يُتقرب به إليك.
ومنه قول الخضر عليه السلام في قصة السفينة: ” فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا ” فلم ينسب الشر الظاهر إلى الله.. والذي لا يعلم مآلات الأمور لا شك سيرى خرق السفينة شرًا؛ لكن حقيقة الأمر أن الخير كل الخير كان في خرقها.
وكذا مقتل الغلام في قصة موسى والخضر ..
تأمل معي: هذا نبي من أنبياء الله .. اكتملت له آلة العلم والتقوى ومع ذلك ظن مقتله شرًا .. ثم أبان الله حقيقة الأمر فعقلنا منه حكمة الله ورحمته وحقيقة الخير والشر في هذه القصة.
بل حتى الجنّ تأدبوا مع الله فقالوا: ” وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ”
فما قالوا أراد بهم ربهم شرًا.
وإبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام قال: ” الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ”
فنسب الهداية والإطعام إلى الله، ونسب المرض إلى نفسه، رغم أن المرض لا يصيب أحدًا إلا بإذن الله.
وجماع ذلك وبيانه أن ليس في أفعال الله شر محض؛ فاحفظ هذا وأودعه قلبك وعش به ما حييت؛ ليس في أفعال الله شر محض من كل جانب.
ولما كانت لله عز شأنه صفات الكمال والحكمة البالغة في الأفعال= امتنع في حقه خلق الشر المطلق من كل وجه .. بل كل ما خلق فمآله إلى الخير..
وهذا الخير اختص به أهل الإيمان؛ فنزلت بهم صنوف البلاء التي حوت شرًا ظاهرًا فارتفعت بهم درجاتهم وأنزلهم الله بها المنازل العلية..
فالحادثة الواحدة قد تحوي خيرًا وشرًا، باعتبار حقيقة المآلات لا النظر الدنيوي القاصر..
فيكون مآلها خيرًا على المؤمنين مهما بدت أليمة محزنة، وشرًا على الكافرين والمعاندين مهما بدت غير ذلك بمقاييس الدنيا.
لذلك مهما بلغ البلاء شدةً والأحداث عسرةً؛ فاعلم يقينًا أن مآلها في حق المؤمنين إلى خير..
وتأمل معي كم من أم لغير ريان باتت ليلتها باكية يتقطع قلبها فرضيت بالله وأذعنت لأمره، فرفع الله لها بذلك درجات؛ فكيف بأم ريان إن صبرت وهي كذلك إن شاء الله.
ثم انظر حولك كم من ثمرات أدركناها في هذه القصة الحزينة .. نعقل فيها معنى قوله صلى الله عليه وسلم: المؤمن للمؤمن كالبنيان.
نستشعر معنى كوننا أمة واحدة؛ لا تحدنا الحدود ولا الأوطان ولا الأعراق ولا الجنسيات؛ بل يجمعنا إخاء المعتقد وكليات الديانة.
ولعل من ثمراتها أن نشعر بأطفال المسلمين المشردين والمقتولين ظلمًا في هذا العالم البائس الباغي؛ فكم من ريان لا بواكي له ولا نائحة عليه! فنشارك إخواننا همومهم وأحزانهم وتمس قلوبنا حقيقة أخوة الدين التي حرمتنا منها قوانين الجنسيات والحدود والأسوار الشاهقات.
ثم من وراء ذلك وحيث الأزمنة الأولى تنعقد كلمة فقهاء المسلمين على أن أمثال ريان من أطفال المسلمين الذين تتغشاهم المنية= ينعمون في الجنة .. إجماع لا نزاع فيه .. فكثر خير الله وطاب!
فقل لي بربك أليس في هاته المعاني المتكاثرة رحمات تتراءى لقلبك المنهك مهما أسدلت الأحزان سدولها وعقدت ضفائرها على القلوب المكلومة..
من علم ذلك وعقله رضي والله بالله وفرح به واطمئن بقضائه وأحسن الظن بربه.
بل وإني لأشتهي أن أناديك في نهاية مقالتي هذه بأعلى صوتي قائلًا: فانظر إلى آثار رحمة الله!
هذا شيء مما أردت بيانه وقد انعقد لساني بعجمة الحزن وعصيان الحروف وقلة البضاعة وقسوة القلب؛ عسى الله الكريم أن ينفع به كاتبه ومن قرأه أو نقله على ما فيه من قصور.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت .. أستغفرك وأتوب إليك.
منقول من حساب احمد سيف على فيس بوك.