أراء وقراءات

محمد رمضان وظلال القدوة الزائفة: قراءة في انهيار الذوق وصعود التفاهة

بقلم / مدحت سالم 

في زمان طغت فيه الصورة على الجوهر واستحال فيه المظهر معيارًا للنجاح والسطوع برزت إلى السطح ظواهر اجتماعية وإعلامية تكاد تكون مرآة صادقة لحالة التردي القيمي والفكري الذي يعيشه الواقع العربي المعاصر ولعل من أبرز هذه الظواهر وأشدها ضجيجًا وفتنة ما بات يُعرف إعلاميًا بظاهرة محمد رمضان.

** شهرة بلا حدود واستفزاز بلا ضفاف

ذلك الفنان الذي خرج من رحم الحارة المصرية حاملًا في ملامحه قسمات الطموح الشعبي الحالم لكنه ما لبث أن اتخذ من الشهرة سلطة ومن الجدل زادًا ومن الاستفزاز سبيلاً للشهرة حتى صارت حياته الخاصة والعامة عرضًا مستمرًا على مسرح المنصات الرقمية تلفه هالة من العنف الرمزي والتمرد المجازي والرسائل المبطنة التي تتجاوز حدود الفن لتلامس بنية الوعي الجمعي وتعيد تشكيله في صورته الأكثر اضطرابًا.

** من فنان إلى رمز زائف

فمحمد رمضان لم يعد مجرد ممثل أو مغنٍ أو عارض أزياء بل تحول إلى أيقونة ثقافية زائفة تسكن خيال شريحة واسعة من الشباب العربي ممن فقدوا البوصلة الأخلاقية وضلوا في دهاليز المعاني الفارغة والبطولات المصطنعة وصار يُحتذى به لا في موهبته بل في جرأته وفي استعراضه المفرط وفي تمرده على الأطر الاجتماعية والدينية

محمد رمضان وظلال القدوة الزائفة: قراءة في انهيار الذوق وصعود التفاهة 2
هكذا ظهر هذا المعتوه في مهرجان بأمريكا

** التمرد باسم الفن أم الانحراف عن الجذور

إن سلوكيات محمد رمضان الأخيرة وعلى رأسها ظهوره في مهرجان كوتشيلا بزي غير لائق حاملاً العلم المصري بطريقة أثارت استهجان الوطنيين قبل المحافظين تمثل ذروة التمرد على منظومة القيم والتقاليد التي كانت يومًا ما تُشكل ملامح الشخصية المصرية وهي ليست فقط أفعالًا عفوية أو اجتهادات فردية بل هي تجليات لتيار فكري ومجتمعي أوسع يرفع راية الشهرة بأي ثمن ويحتفي بالتمرد على الثوابت باسم الحرية ويفكك العقد الاجتماعي باسم الإبداع ويستبدل القدوة بالنجومية والمعنى بالصورة

** إعادة تشكيل الذوق العام

وهنا تظهر خطورة هذه الظاهرة إذ أنها لا تقف عند حدود الشخصية التي تمثلها بل تمتد لتصوغ ذوقًا عامًا جديدًا وتؤسس لنموذج شبابي يحاكي العنف ويردد أغاني الاستعراض ويتبنى خطابًا هجوميًا صداميًا يفتقر إلى العمق والروح

** التحليل النفسي للتمرد البصري

وفي التحليل النفسي والاجتماعي فإن هذا النمط من الشخصيات غالبًا ما يكون نتاج بيئة شعرت بالتهميش طويلاً فتسعى إلى إثبات الذات من خلال المبالغة في الحضور البصري والتفوق الرمزي على الآخرين لا بالحجة أو الرؤية بل بالمظهر والاستفزاز وكأن الشهرة في هذا السياق تصبح معادلًا نفسيًا للانتقام الرمزي من مجتمع جائر أو حظ عاثر

** حرية بلا مضمون وهروب من المعني

قال المفكر والفيلسوف  الألماني إريك فروم ((إن الهروب من الحرية قد يكون أقسى من فقدانها )) إذ يختار بعض الناس أن يتحرروا من المعنى لا من القيود وهذا ما نراه في تلك الظواهر التي تتنكر للمضمون باسم الحرية وتسعى إلى خلق سردية جديدة تتجاهل جذور الأمة وذاكرتها الجمعية

** بين البطل والبهلوان

كما قال أحد المفكرين الغربيين (( إن الحضارات لا تنهار حين تُهزم في المعارك بل حين تفقد قدرتها على التمييز بين البطل والزائف وبين العميق والسخيف وبين الرموز والبهلوانات ))

** ضعف المنظومة التربوية والثقافية

ولا بد هنا من الإشارة إلى أن تفشي هذه الظاهرة وغيرها من الظواهر المشابهة هو نتيجة فراغ قيمي وتضاؤل دور المدرسة وضمور الخطاب الديني الجاذب وتفكك الأسرة وتحول الإعلام إلى سلعة تُدار وفق منطق السوق لا منطق الوعي

** التشريع بوصفه صمام أمان ثقافي

أما التشريعات فقد بات من الضروري أن تعيد النظر في مفهوم الفن والإبداع فلا ينبغي أن تكون الحرية الفنية غطاء لانتهاك الخصوصية الثقافية ولا أن يكون المبدع محصنًا من المساءلة حين يمس الرموز الوطنية أو يروج لأنماط سلوكية خطرة تستدرج المراهقين إلى نماذج التمرد الفارغ والتفوق الزائف

** إحياء القدوة من عمق الجذور

دور المجتمع يبدأ من إعادة الاعتبار للفكر والثقافة وتعزيز النماذج الإيجابية التي تنطلق من الجذور لا من الغرائز وتُبنى على العمق لا على الإثارة

** قدوة تربي لا تشتّت

إن القدوة هي من أشد المؤثرات على وعي الناشئة وواقع الأمة ومستقبلها ومن هنا وجب علينا أن نفرّق في خطابنا التربوي والإعلامي بين الشهرة وبين القيمة بين التأثير وبين التفاهة بين النجاح الحقيقي القائم على البناء وبين الشهرة الفارغة القائمة على الصخب

وقد قال سقراط (( إن النفس لا تُربى بالمعلومة وحدها بل بالقدوة الصالحة والمثل الأعلى ))

وفي الكتاب المقدس ورد (( أن الثمرة لا تُعرف إلا من شجرتها )) فهل نأمل الخير من شجرة تنبت على تربة الشهرة الرخيصة وسُقْيت من مياه الجدل العكر

** البديل الراقي أفضل المواجهة الغاضبة

إن مواجهة هذه الظاهرة لا تكون بالعنف اللفظي أو التجريم المجرد بل بالبدائل الراقية بالنماذج المُلهمة بالإعلام الرشيد والتعليم التربوي والتشريع الواعي والدعم الحقيقي للفن الذي يرتقي بالذوق لا يهدمه

وفي الختام لعل الفيلسوف الإيطالي الشهير أنطونيو جرامشي كان محقًا حين (( قال إن المعركة الحقيقية في الأمم ليست معركة السلاح بل معركة الهيمنة الثقافية لأن من يملك الوعي يملك المستقبل ومن يربح معركة الذوق يربح معركة البقاء ))

** تشكيل هندسة الوعي الجمعي

ومن أشد ما يثير الفزع في هذه الظواهر أن بعضها لا يقتصر على التأثير في حدود الذوق الشخصي أو الخيار الفردي بل يمتد ليعيد تشكيل هندسة الوعي الجمعي في زمن هش فيه الحصن التربوي وتآكلت فيه المؤسسات الحامية للفكر من غزو السطحية فصار الفن سوقًا للفرجة لا مصنعًا للوعي وصار الفنان بائعًا للضجيج لا حاملًا للرسالة وصار المشاهد متلقيًا فاغرًا لا ناقدًا فاحصًا وتراجعت القيم في معركة الصورة أمام سطوة التأثير اللحظي والانتشار الفيروسي وانحدر مفهوم القدوة إلى درك سفلي حين غابت المرجعيات وسكتت العقول وتقدمت الصدمة على الحكمة

** رمضان نموذج لا استثناء

وفي قلب هذا المشهد يظهر النموذج الرمضاني لا باعتباره استثناءً شاذًا بل كتمثيل صارخ لما آل إليه حال الفن حين يُنزَع من جذوره الأخلاقية ويُطلق له العنان في مساحات الفوضى الثقافية فقد تحوّلت أغانيه إلى مانيفستو للتمرد العدمي واحتوت ألفاظه على رموز القوة الكاذبة والثراء الفاحش والنجاح المزيف وتماهت شخصيته الدرامية مع شخصيته الحقيقية في خلط خطير بين الخيال والواقع وبين التمثيل والسلوك وبين الفن والسوق

** الإعجاب غير الواعي وقود الانحدار

ولعل أعظم الكوارث تكمن في ذلك الإعجاب الشعبي الذي يحاصر هذه الظاهرة ويُغلفها بهالة من الحصانة الاجتماعية إذ لا تعيش هذه الظواهر إلا في بيئة تقبلها وتحتضنها وتبجلها وتدافع عنها بدعوى الحرية والنجاح والجرأة والمفارقة أن هذا الإعجاب لا يصدر غالبًا عن وعي بل عن حاجة داخلية لرمز يعبّر عن القهر المتراكم في النفس الجمعية فيتم إسقاط البطولة على كل من يصرخ ويتحدى ويكسر القواعد حتى ولو كان يعبث في الخراب

قال الفيلسوف الألماني نيتشه (( إن من لا يجد في نفسه قوة للإبداع يبحث عن بطل يعبده ويصرخ باسمه كلما شعر بالهزيمة )) وحين تسقط الأمم في فخ القدوة الزائفة تبدأ عملية الانهيار من داخل الروح لا من حدود الجغرافيا

وإذا تأملنا في سير الحضارات وجدنا أن النماذج المدمرة التي استُقبلت يومًا كأبطال كانت سببًا في تقويض الضمير الجمعي وفتح الأبواب للسطحية والتفاهة لتصعد على عرش الذوق كما قال المفكر اللبناني علي حرب حين وصف بعض رموز الثقافة المعاصرة بأنهم أباطرة الفراغ الناطقون بألسنة الجماهير الهاربة من ثقل المعنى

** إعادة ضبط البوصلة المجتمعية

ولا يمكن لمجتمع يسعى للنهوض أن يظل رهينة لمثل هذه النماذج دون أن يتحرك باتجاه مضاد يعيد ضبط البوصلة ويؤسس لثقافة نقدية تستعيد للوعي هيبته وللذوق احترامه وللقيم مرجعيتها فالمعركة اليوم لم تعد فقط مع رموز الهبوط بل مع أدواته ومع جمهوره ومع المنظومة التي ترعاه وتسوقه وتربحه المال والانتشار على حساب العقل والأخلاق.

وهنا تتجلى أهمية المؤسسة التعليمية التي يجب أن تعيد تعريف البطولة في أذهان النشء وأن تغرس فيهم أن النجاح ليس صراخًا ولا استعراضًا ولا مالًا بل بناء ومسؤولية وعلم وقيمة.

ويتعاظم دور التشريع حين يفرض ضوابط لا تقمع الفن بل تضبط مساره وتمنع تحويل المنصات إلى منابر لترويج العنف الرمزي والتفاهة الفكرية والتطاول على الرموز الوطنية والدينية بحجة الجرأة والابتكار.

كما أن على الإعلام أن يخلع رداء الحياد الزائف ويأخذ موقفًا صريحًا في معركة القيم لأن الإعلام ليس مرآة فقط بل مطرقة ومِعول وصانع للأذواق ومن يزعم الحياد في معركة الأخلاق شريك في الهزيمة

** الفن مسؤولية لا ضجيج

وقد قال الأديب والروائي الروسي العظيم تولستوي (( إن الفن الذي لا يُربّي لا يستحق أن يُعرض والذي لا يهذب لا يستحق أن يُحتفى به ))

فليست المشكلة في محمد رمضان وحده بل في من يصفق له ويستضيفه ويستثمر فيه ويعلي من شأنه ويُهدي أبناءه أغانيه ويقلده في مشيته وهيئته ومواقفه حتى يُختزل النجاح في سلسلة ذهبية أو سيارة فارهة أو عراك على المسرح أو شتيمة مُغناة أو تمرد بلا قضية

إن أخطر ما تفعله هذه الظواهر أنها تقتل في الناس الحياء من الحياء وتفقدهم القدرة على الاستغراب وتحول القبح إلى عادة فتطبع النفوس على الرداءة وتُلبس السخف رداء الفخر

** إلي أين يسير القطار ؟!

وفي النهاية يبقى السؤال معلقًا بين ضمير الأمة وحناجر العابرين ما الذي نريده من الفن ومن القدوة ومن المجتمع ومن الإنسان وهل نحن نسير إلى النور أم نلهث خلف السراب

قال  الشاعر العظيم جبران خليل جبران (( لا تخشَ أشباح الليل بل خَشَ مَن اعتاد الظلام حتى لم يعد يراه ))

إن لم نُطفئ ضجيج الظواهر الفارغة بنور الوعي سنستيقظ ذات يوم فلا نجد في مرآة الواقع إلا انعكاس أشباه لا ظل لها ولا عمق ولا جذور

وها نحن نصل إلى مرافئ الختام كما يصل الظمآن إلى قطرة ماء بعد طول تيه في صحراء الوهم وأمام هذه الظواهر التي تتسلق جدران الوعي بخفة خادعة لا نجد عزاء إلا في يقظة القلوب النقية التي لم تنطفئ فيها جذوة المعنى بعد ولا تزال تبحث عن قدوة تُضيء لا تُبهر وتسمو لا تُشتّت وتُربّي لا تُربِك

يقول المفكر اللبناني والفيلسوف المعروف علي حرب (( إن أخطر رموز الثقافة المعاصرة هم أباطرة الفراغ الناطقون بألسنة الجماهير الهاربة من ثقل المعنى فهل نعيش اليوم عهد الرموز التي تُبهر لا تُضيء وتُقلّد لا تُله ))

فيا أيها القارئ إن أردت أن تقيس رجاحة وعي أمة فلا تنظر إلى قلاعها بل إلى قدوتها ولا تسأل عن عدد مشاهيرها بل عن نوعهم فإن كانوا من حملة المعنى ورعاة القيم فاعلم أن الأرض لا تزال تنبت خيرًا وإن كانوا من غزاة السطحية فاعلم أن البنيان على شفا جرف هار

فاختر قدوتك كما تختار مصيرك واصنع من وعيك حصنك ومن بصيرتك نجاتك فإن السفينة لا يغرقها البحر من حولها بل الماء الذي يتسرب إليها في غفلة من ربانها

ولتكن كلمتنا الأخيرة نبضًا حيًا لا يهدأ حتى نعيد للقدوة هيبتها وللفن رسالته وللضمير سلطته وللذوق معنى لا يُشترى ولا يُباع

** ومضة الختام ونداء القلب

ختاماً تدكروا معي جيداً:-

#محمد رمضان ليس ظاهرة فنية بل مرآة ثقافية معطوبة

#القدوة الزائفة أخطر من العدو الظاهر لأنها تنخر في جدار الوعي بصمت

#الشهرة حين تُنتزع من الجذور تتحول إلى صراخ أجوف لا يسمن ولا يغني من وعي

#التمرد لا يكون على القيم بل على القبح والرداءة لا على الأصل والهوية

#الخط الفاصل بين النجومية والتفاهة لم يعد واضحًا في زمن الصورة المسلّعة

#حين يفقد الفن بوصلته يتحول إلى أداة هدم لا معول بناء

#الإعجاب بلا وعي هو الوقود السري لانهيار الأمم من الداخل

#ليس الخطر في من يصرخ على المسرح بل في من يصفق له في البيوت

#الرموز لا تُولد من الأضواء بل من المعاناة النبيلة والرسائل الصادقة.

محمد رمضان وظلال القدوة الزائفة: قراءة في انهيار الذوق وصعود التفاهة 3

مدحت سالم 

كاتب وباحث

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.