تقارير وتحقيقات

معارك المسلمين الخالدة ..(1) معركة ملاذكرد الفاصلة في تاريخ الاسلام والمسلمين

بقلم / الدكتور محمد النجار

  يحفل تاريخ الإسلام بمعارك فاصلة في تاريخ البشرية خاضها أبطال خرجوا جهاداً في سبيل الله ، ضحوا بأرواحهم وأموالهم في سبيل عقيدتهم،فأحاطتهم عناية الله ، وقاتلت  معهم جنود السماء .  وإذا كان التاريخ الإسلامي يتحدث عن غزوة  بدر  ومعركة القادسية وعين جالوت ، وحطين وفتح دمشق وفتح مصر، فإن التاريخ يذكر قائد وجنود أبطال  معركة ملاذكرد كواحدة من المعارك الفاصلة في تاريخ الإسلام والمسلمين،بل في تاريخ البشرية أجمع ،  فقد أدت معركة ملاذكرد الى زوال امبراطورية الروم البيزنطية بعاصمتها القسطنطينية التي كانت تشكل سيدة العالم في ع الإسلام والمسلمين .

طغرل عم القائد ألب أرسلان

ورد اسمه مختصراً في المراجع”طغرل بك” ، ويُعد من كبار رجال التاريخ ، فكان منذ طفولته ونعومة أظفاره، بل ورغم كثرة غزواته الكثيرة وجهاده، كان محافظا على دينه وعقيدته ، وكان “خيِّرَاً” ، و “مصلِّيًا” ، و”صواماً” ، وحليماً مع من أساء إليه. وهو مؤسس الدولة السلجوقية المسلمة “السُنِية” ، وأول سلاطينها (1037-1063)م  ، وقد عمل على توحيد دولة الخلافة العباسية وقد نفخ فيها الروح بعد أن أوشكت على الزوال ، وقاد حملات عسكرية ضد الامبراطورية البيزنطية والدولة الفاطمية وحكم ايران والعراق وأعلن تبعية دولة السلاجقة السُنية للخلافة العباسية في سعيه لتوحيد العالم الاسلامي.

ألب أرسلان ابن شقيق طغرل

إنها العائلة المباركة التي تقدم للبشرية والانسانية والاسلام رجالا ونساء مؤمنين ،

((ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)))34 آل عمران

القائد المسلم ألب أرسلان أبن شقيق طغرل ،وتأثر في تربيته بعمه طغرل بك.  كان حسن السيرة ، وكان كريما أكرم الفقراء والعلماء ، لم يأخذ بنظام جمع الضرائب وإرهاق شعبه بما لايطيق ، فاجتمعت كل فئات المجتمع حوله.

تولى ألب أرسلان حكم دولة السلاجقة وعمره ((41)) عام ، وذلك عام (455 هـ/ 1063م) بعد وفاة عمه طغرل الذي أسس الدولة السلجوقية، ومدَّ سلطانها تحت بصره حتى غدت أكبر قوة في العالم الإسلامي.

إرهاصات الحرب بين الامبراطورية البيزنطية والمسلمين

معركة ملاذكرد

كانت الدولة الرومية البيزنطية المسيحية تشكل خطرا على الاسلإم والمسلمين.  فقد  تولى قيصر الروم الإمبراطور البيزنطي رومانوس  السلطة عام 1068 ، وكانت فكرة غزو المسلمين والقضاء عليهم تمثل حلماً يطمح لتحقيقه.

اعلام جيوش الأعداء المشاركة في الحرب

تجهيزات الجيش البيزنطي 

جهّز  إمبراطور الروم “رومانوس ديوجينيس” جيشًا ضخمًا يتكون من ((200))مائتي ألف مقاتل من الروم والروس والأرمن والخزر والكرج والفرنسيين والبلغاريين واليونانيين وغيرهم .   كما كان الجيش البيزنطي يضم ((35)) ألف من البطارقة ، ومعه من الفرنج خمسة وثلاثون ألفاً، ومن الغزاة الذين يسكنون القسطنطينية خمسة عشر ألفاً ، ومعه مائة ألف نقّاب وخفار”  .  وكان ضمن جيش الامبراطور البيزنطي ( ألف روزجاري، ومعه أربعمائة عجلة تحمل النعال والمسامير، وألفا عجلة تحمل السلاح والسروج والغرادات والمناجيق .

تم تجميع تلك القوات الضخمة والأسلحة والمعدات في (((القسطنطينية))) عاصمة روما لتنطلق منها مباشرة لسحق المسلمين.

معاني كلمات :

الروزجاري : عامل اليومية

الغرادات : أي المغنيات

هجوم خاطف

أدرك القائد ألب أرسلان صعوبة الموقف ، وعدم تكافئ قواته التي لم تتعد ((20))ألف جندي أمام جحافل الروم التي جاوزت قواتها ((200))ألف بمعدات ضخمة وعتاد كبير، ففكر في حيلة ذكية تتمثل في هجوم مباغت على مقدمة الجيش الرومي البيزنطي لتحقيق  ، نصر سريع يقوم بعده بالتفاوض مع  الامبراطور البيزنطي وبذلك يحافظ على جيشه الصغير من الإبادة أمام الجيش الرومي الضخم .

وبالفعل تم تنفيذ الهجوم المباغت السريع ، وتحقق له نصر خاطف يستطيع من خلاله التفاوض لتجنيب جيشه خسائر فادحة نتيجة عدم التكافئ في العدد والعتاد.

 غطرسة القوة

ثم أرسل مبعوثًا الى الامبراطور البيزنطي يعرض عليه الصلح والهدنة. إلا أن  الإمبراطور أساء الأدب في إستقبال مبعوث السلام ، ورفض الصلح والهدنة لدرجة أنه قال متغطرسا بقوته : أنه لن يتم الصلح مع المسلمين إلا  في مدينة “الري عاصمة السلاجقة”.  وكانت غطرسته استناداً لجحافل جيشه وقوة عدده ومعداته ، واثقاً من النصر الساحق الذي سيمحو به دولة السلاجقة المسلمين .

وتحركت القوات المسيحية الضخمة من “القسطنطينية ” تجاه  ملاذكرد حيث يعسكر الجيش السلجوقي.

 استشعار الحاكم المسئولية عن مصير جنده وشعبه

استشعر ألب أرسلان المسئولية عن جنده وشعبه ومصير وطنه أمام تلك الجحافل الجرارة لجيش الروم  ، فلا يريد ان يخاطر بهذا العدد القليل من جنده وعتاده  خشية الخسائر التي يمكن أن تحدث عن تلك المواجهة ..!!  فماذا عساه أن يفعل وقد اصبحت جيوش امبراطورية الروم فوق رؤوسهم؟؟

فهل يتراجع أمام تلك القوات المجرمة؟ والتي غالبا إن تمكنت  سوف تمزق أوصال المسلمين ، وتحتل أرضهم ؟

أدرك القائد السلجوقي ألب أرسلان حتمية المواجهة الحاسمة ، فوقف وسط جنوده يشعل حمية الجهاد،وحب الاستشهاد ، ودعا الله الثبات .. قائلا :

(((اللهم إني  احتسب نفسي عند الله .. فإن  سُعدت بالشهادة ففي حواصل الطيور الخضر من حواصل النسور الغبر رمسي .. وإن نُصرت فما أسعدني وأنا أُمْسي، ويومي خير من أمسي)))  . وخَطَبَ في جنودِهِ ، ولبس كَفَنَهُ وحثَ مقاتليِهِ على الشَهادةِ في سبيلِ الله، قائلاً : إنني أقاتلُ مُحتسباً صابراً. .فإن سَلِمْتْ فنعمةٌ من الله عزَ وجلَ.. وإنْ كانتْ الشَهادةُ فهذا كفني . ثم ربطَ  القائدُ المسلمُ ذيلَ فرسهِ بيدهِ ليوصلَ رسالةً بأنَّهُ   لن يفرَ حتى لو سقط َعن فرسه .

ألب أرسلان يُخّيِّرُ جنوده بين الجهاد  أو الانصراف

أمام تلك المواجهة بين الموت والحياة ، منح القائد ألب ارسلان حرية الإختيار لجنوده في الإنصراف عن القتال  أو المشاركة معه في تلك المعركة  قائلا لهم :

ما ها هنا سلطان يَأمُرُ وينهي ..إنه الخيار أما الحياة بشرف أو الاستشهاد في سبيل الالله.

فاختار كل الجنود الجهاد معه في مقاتلة الروم ، فاستعدوا  ولبسوا البياض.ولم ينصرفْ جنديٌ واحدٌ .

دور العَالِمِ الفقيه المسلم في مواجهة الأخطار والتهديدات

بينما استعد جيش المسلمين للمواجهة ، وقف بينهم   إمام الأمة وفقيهها ((أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري)) يشد عزم القائد المسلم  قائلاً:

(((إنك تقاتل عن دينٍ وعد الله بنصره وإظهاره على سائر الأديان، وأرجو أن يكون الله قد كتب باسمك هذا الفتح ))).

تحديد المواجهة يوم الجمعة

(((فالقِهم يوم الجمعة بعد الزوال ، في الساعة التي يكون الخطباء على المنابر، فإنهم يدعون للمجاهدين بالنصر، والدعاء مقرون بالإجابة))).

 بكاء القائد ودعائه

وحانت  ساعة اللقاء في صيف شهر أغسطس (26أغسطس1071م الجمعة27 ذوالقعدة463هـ) وقف الإمام أبو نصر البخاري إماما للصلاة فبكى ، وبكى خلفه القائد المسلم ألب أرسلان ، فبكى الجنود الأبطال ، ودعا ودعوا معه، وتحنط القائد وقال: إن قتلت فهذا كفني.

ألب أرسلان يمرغ وجهه في التراب

في ساحة القتال ، نزل ألبْ أرسلانْ عن فرسِهِ وسَجَدَ للِه ، ودعا الله بالنصر بعد أن مرغَ وجهَهُ في الترابِ … وبدأت صيحة الله أكبر .. وانطلقت جنود الله كالأسود الضواري  يفتكون بجنود الأعداء في حماسة مُرعبة بصيحة الله أكبر ، فهزموا مقدمة الجيش ، وانطلقوا بسرعة مذهلة كأنهم نسور  نحو خيمة امبراطور (ملك)الروم ، وحاصروه ، فَصٌعق  ذلك الامبراطور المتغطرس من هول المفاجأة وسألهم كيف وصلتم الى هنا في قلب جيشي الجرار؟؟؟ وتم أسرُ الأمبراطور، وارتبكتْ صُفوف جيشه ، واستسلم الكثيرُ منهم ، وما هي إلا ساعة وانقشع غبار المعركة وانكشفت ساحة القتال التي امتلأت بآلاف القتلى والجرحي من جنود الروم  ، وتحقق النصر المبين للمسلمين.

قائد المسلمين يستجوب الأمبراطور الأسير

أمبراطور الروم المتغطرس الذي كان يريد إبادة المسلمين ، يقف بين يدي قائد جيش المسلمين ألب أرسلان ، فسأله :  لو كُنت أنا الأسير بين يديك ما كنت تفعل؟

قال الإمبراطور الأسير: أَفْعَلُ كل قبيح ؟

فقال ألب أرسلان : فما ظنك بي؟

فقال الإمبراطور الأسير : إما أن تقتلني ، أو تشهرني في بلادك ، وإما أن تعفوَ وتأخذ الفداء وتُعيدني الى وطني.

قال ألب أرسلان : ما عزمت على غير العفو والفداء.

إنها مروءة الإسلام وسماحة المسلمين حتى مع أشد الأعداء عداوة وشراسة ، فقد عفا القائد المسلم ألب أرسلان عن الإمبراطور الأسير الذي افتدى منه بمليون دينار وخمسمائة ألف دينار .

إطلاق سراح الإمبراطور الأسير

أطلق ألب أرسلان سراح إمبراطور الروم ، وأعطاه عشرة ألاف دينار ليتجهز بها، وأطلق معه سراح مجموعة من البطارقة ، كما أرسل  معه  جنوداً لحراسته حتى وصل الى بلاده ، وكان معهم راية مكتوب عليها لا إله إلا الله محمد رسول الله”.

بشاعة القادة المسيحيين مع الإمبراطور المهزوم

لم تكد أخبار الهزيمة تصل إلى القسطنطينية حتى أزال رعاياه “اسم الامبراطور  من سجلات المُلْك”،أي  أقالوه من منصبه وحذفوا اسمه من  سجلات الملوك، وقالوا: إنه سقط من عداد الملوك، وعُيِّن  بدلا منه “ميخائيل السابع” إمبراطورًا. وتم إلقاء القبض  على الامبراطور رومانوس الرابع الإمبراطور السابق ، وسمل عينيه ” .

معنى سمل عينيه: فقأها بمسمار أو حديدةٍ مُحماة.

أثار معركة ملاذ كرد

يقف التاريخ أمام معركة ملاذ كرد يؤدي التحية للقائد والسلطان المسلم وجنوده ، فقد غيرت تلك المعركة وجه  التاريخ الاسلامي السياسي والجغرافي  والايديلوجي ، فقد أدى النصر الذي تحقق للمسلمين السلاجقة الى تغيير جوهري عاجل ومستقبلي على الأرض  ، و نوجز أهم نتائج وآثار تلك المعركة فيما يلي :

1. أدى انتصار دولة السلاجقة المسلمين الى القضاء على سيطرة دولة الروم على أكثر مناطق آسيا الصغرى ، وأضعف قوتها، ولم تعد دولة الروم تمثل تلك الشوكة التي كانت تغص حلق المسلمين ، بل سقطت دولة الروم في النهاية على يد السلطان العثماني محمد الفاتح.

2. إعلان التبعية السياسية لدولة الروم البيزنطية الى دولة السلاجقة المسلمين “لأول مرة في التاريخ” ، وهذا ما اعتبره البيزنطيون في القسطنطينية”عاصمة الروم” وقتئذ خيانة من الامبراطور رومانوس ، أوجبت قتله بُعيد ذلك.

3. دخول سكان المناطق التي كانت في حوزة الدولة البيزنطية في الإسلام ، وأصبحوا مسلمين يشاركون في الدفاع عن الإسلام مع إخوانهم الفاتحين.

4. اعتراف دولة  الروم بسيطرة السلاجقة على المناطق التي فتحوها ، والتي كانت تتبع سيطرة الروم، وتعهد  الروم بعدم الإعتداء على ممتلكات السلاجقة.

5. إزدياد صلابة وقوة دولة السلاجقة المسلمين ، وعجز دولة الروم عن الوقوف في مواجهة دولة السلاجقة الفتية.

6. بداية عدم اعتماد الغرب الأوربي على الدولة البيزنطية في حراسة الباب الشرقي لأوربا ضد هجمات المسلمين ، وبدأ الغرب يفكر في الغزو بنفسه ، ونتج عن ذلك الحملة الصليبية الأولى.

7. عقد معاهدة صلح مدتها ((50)) عاما ، يلتزم الروم خلالها بدفع الجزية السنوية للدولة السلجوقية المسلمة، وفي هذا تأمين لحدود الدولة الفتية ، وأيضا تأمين مورد مالي يدعم اقتصادها لرخاء شعبها .

8. كان من ثمار الإنتصار في معركة ملاذكرد مواصلة الأتراك السلاجقة غزوهم لمناطق أخرى حيث توغلوا في قلب آسيا الصغرى، وفتحوا قونية وآق، ووصلوا إلى كوتاهية، وأسسوا فرعًا لدولة السلاجقة في هذه المنطقة عُرف باسم سلاجقة الروم ، استمرت ((200)) سنة حتى أصبحت هذه المنطقة جزءًا من بلاد المسلمين إلى يومنا هذا.

9. لم تنقطع غزوات السلاجقة والعثمانيين بعد ملاذكرد بل استمرات تلك الغزوات ((300)) سنة إنتهت إلى القضاء على دولة الروم ، والإستيلاء على عاصمتها (((القسطنطينية ))) على يد السلطان المسلم محمد الفاتح ، واتخاذ (((القسطنطينية))) عاصمة للدولة العثمانية ، وتغيير اسمها الى مدينة السلام ((((إسلامبول)))) أو (((استانبول))) .

وفي الختام نقول : إن الأمم لا تتقدم سوى  بإيمان حكامها  وشعوبها  بأن المحافظة على الوطن ومقدراته ومقدساته ودينه  عسكريا وسياسيا  واقتصادياً واجتماعياً “عقيدة ومسئولية أمام الله” ، وأن تمتلك الأمة دستورا قويا ينص على أن الحاكم  مدني يختاره الشعب من أبناءه بحرية كاملة ، وأنه (((موظف عند شعبه وليس ديكتاتورا يتحكم فيه)))،  فلا يحق للحاكم إتخاذ قرار منفرد دون مشاورة  شعبه ، كما لايجوز للحاكم تعديل أو إلغاء الدستور أو إلغاء مجلس الأمة الذي يمثل الشعب ، وضرورة الفصل بين السلطات مع ضمان استقلال القضاء  ، وأن الشعوب يحق لها  تقييم آداء الحاكم ومحاسبته وعزله ومحاكمته مدنيا عند تقصيره  دون اعتراضه مدنيا أو عسكريا  .

إن عدالة الحاكم المسلم البطل “ألب أرسلان” مع شعبه ، وشعورهم بأنه واحد منهم ، يعمل لصالحهم أدت الى  التصاق الشعب والجنود بالقائد العظيم ألب أرسلان ، ولم يهرب الجنود عند المواجهة للموت ، فاختاروا الموت أو الحياة مع قائدهم المسلم رغم إعطاءهم الحرية في الانصراف عن الحرب أو الاستشهاد في سبيل الله ، فبكى الحاكم ، وبكى معه الجنود ، ودعا  الحاكم الله بالنصر ، ودعا معه الجنود ،، فتحقق النصر لهم بفضل الله رغم عدم التكافئ في تلك المعركة ((معركة ملاذكرد)).

د.محمد النجار

الإثنين 2 صفر 1444هـ

الموافق 29 أغسطس 2022

:

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.