البحث العلمى

مفهوم الكون الكبير .. (19) خطة مقترحة لوضع نموذج خلق السماوات وخلق الكون

بقلم: د.سعد كامل

أهمية تحديد مفهوم الكون لمناقشة خلق الكون:

أشار الباحث في مقالات سابقة إلى محدودية الكون المدرك الذي يدرسه علماء الفلك والكونيات بأجهزة الرصد المتاحة من تليسكوبات ضوئية ورادرية وغيرها من طرق الدراسة، وهذا الكون المدرك يعتبر النصف السفلي من السماء الأولى (معلمي، 2011)، وذكرنا في المقالات السابقة أيضا أن الكون المدرك على ضخامته يمثل أقل من ثلاثة أجزاء من مليون جزء من الكون الكبير، أما خارج حدود ذلك الكون المدرك فهناك بقية السماوات السبع والأرضين السبع والكرسي والعرش كمكونات للكون الكبير، وهذه المكونات الكبرى تعتبر من أمور الغيب فيما عدا ما تصل إليه أجهزة الرصد الفلكي من مجرات الكون المدرك… وبناء على ذلك تأتي نظريات نشأة الكون في العلوم المادية لتتناول نشأة الكون المدرك فقط.

ويمكن تحديد نظريات نشأة الكون (المدرك) في العلوم المادية بين نظرية الكون الثابت (Hoyle, 1949) التي تقول أن الكون الحالي هو نفسه سابقا ومستقبلا، ونظرية الانفجار الكبير التي وضعها جورج لومتر 1927 (Wollack, 2010) وتقول أن الكون (المدرك) كان منضغطا في كتلة صغيرة الحجم وعالية الكثافة فانفجرت، وهذه النظرية تهيمن على المجال بل وتُعتبر حاليا من المسلمات بالرغم من الاعتراضات الكثيرة حولها. وأبرز الاعتراضات على نظرية الانفجار وعلى غيرها من النظريات التي يصيغها علماء الفلك والفيزياء الفلكية هو غياب تناول نشأة السماوات العلى.

وقد أشارت المقالات السابقة إلى تضارب أقوال البشر حول خلق الكون المدرك، ناهيك عن ضعفهم في خوض غمار مناقشة خلق الكون الكبير دون الرجوع للوحي الكريم، وعليه ينادي الباحث بضرورة التكامل بين جانبي العلوم المعاصرة (المادية والشرعية). وقد استعرض المقال السابق عددا من النصوص الشرعية حول خلق الكون تشير إلى أنه في بدء خلق الكون جاء خلق الماء والعرش واللوح المحفوظ، ثم بعد ذلك خلق الله السماوات السبع والأرضين السبع ((مع الحاجة إلى بحث ترتيب ذلك خاصة فيما يخص أيها كان أولا: الأرض أم السماوات؟ لكن هذا الترتيب يحتاج إلى تدقيق معنى الأرض المراد خلقها أولا)). كما أشارت هذه النصوص الشرعية إلى أوقات تقدير الأقوات، وأن الله عز وجل جعل في كل أرض ما لا يصلح في غيرها وفي كل سماء أمرها.

كما اقترح الباحث مفهوم الأرض الأولية (صورة غلاف المقال الحالي) حيث كانت هذه الأرض الأولية تضم هيكل السماوات والأرضين متلاصقات (مرحلة الرتق)، ومن ثم جاء الأمر الإلهي برفع سمك السماوات بغير عمد مرئية حيث رفعت عن الأرض بُعدا لا يُنال (مرحلة الفتق). وأشار المقال السابق إلى نموذج البناء العظيم كرؤية مقترحة لتناول خلق الكون الكبير.

ضرورة مراجعة المسلمات لوضع نموذجا مقبولا لنشأة الكون:

بناء على ما تقدم؛ يعتبر كاتب هذه السطور أننا أمام مفترق طرق يتطلب تعاون المجتمع العلمي (بشقيه الشرعي والطبيعي) في مراجعة المسلمات والمبادئ التي تقوم عليها النظريات العلمية، فمن آفات التفكير العلمي في العصر الحديث آفة إنكار وجود الخالق عز وجل التي يجب أن يتعاون العلماء المؤمنين بالخالق العظيم على مكافحتها (ففي كل شيء له..آية أنه الواحد) وذلك يتطلب إبراز قدرة الخالق عز وجل في خلق المخلوقات جميعا، ويتطلب الإشارة في الكتابات العلمية إلى الأبعاد الإيمانية للدقة والإحكام في الخلق. ومن المتوقع أن تواجه هذه المحاولات بالنقد الشديد من أنصار المادية المجحفة الذين يعترضون على الربط بين الأمور الغيبية والأمور المادية، لكننا في المرحلة الحالية نسأل الله أن يوفقنا إلى تخليص أساتذة العلوم المادية المؤمنين بالخالق العظيم من رواسب الإلحاد المتغلغلة بين السطور ضمن الصياغات المادية للعلوم الطبيعية.

ولا يقف كاتب هذه السطور عند التوصية بضرورة مراجعة المسلمات التي تكبل التفكير العلمي المعاصر عن الاستفادة بالعلوم الشرعية، بل قدم في هذه السلسلة من المقالات حول مفهوم الكون الكبير اقتراحا بقبول نموذج السمان حول بنية السماوات السبع والأرضين السبع (شكل 1)، كما قدم نموذجا مقترحا لتصور الكون الكبير (شكل 2)، ويقدم هنا نموذجا لتطبيق عملية الربط المأمولة بين العلوم الشرعية والعلوم المادية في قضية جدلية كبرى وهي قضية نظريات خلق الكون، كما يقدم في هذه السلسلة من المقالات {حول المفهوم المقترح للكون الكبير} الكثير من الأفكار المستقاة من نبع العلوم الشرعية راجيا أن يستفيد عموم البشر بهذه الأفكار التي تعتبر من التراث البشري بشكل عام. ويمكن بناء على ما تقدم ذكر الخطوط العامة اللازمة لوضع نموذجا مقبولا عن نشأة الكون وفق النقاط التالية:

معالم أساسية للتفكير حول خلق الكون:

1)  اعتبار الوحي السماوي مصدرا رئيسا للمعلومات حول نشأة وخلق الكون باعتبار أن الأدوات البحثية المتوفرة لدي البشر لا يمكنها أن تدرس إلا جزئين (وبضع أجزاء عشرية) من مليون جزء حجما من الكون الكبير (الكون المدرك).

2) وضع العلوم المادية وما ينتج عنها من معطيات في موضعها الدقيق للكشف عن قدرة الله في الخلق في حدود الكون المدرك، بالتالي يتم دراسة النظريات الناتجة عن هذه المعطيات وذلك للعمل على تنقية تلك النظريات من الشوائب الإلحادية التي تنكر وجود أي دليل على تدخل القدرة الإلهية في خلق الكون (مثل أقوال كراوس: Krauss, 2012).

3) اختيار نموذجا معروفا يوضح المنهج الإلهي في خلق الأشياء، وأبرز نموذج للخلق تتناوله العلوم الشرعية بالشرح التفصيلي هو خلق آدم عليه السلام، حيث بدأ ذلك الخلق بتشكيل هيكل الكائن البشري من الطين ثم نفخ الله تبارك وتعالى فيه من روحه فقام بشرا كاملا حيا بعد أن كان طينا جامدا.

4) تحديد مكونات الكون التي يتناولها نموذج الخلق بالوصف والتكوين، وذلك يتطلب تعريف كل من هذه المكونات تعريفا شاملا، مع التدقيق في المعنى المقصود لتلك المكونات ضمن النصوص الشرعية سواءا وفق المعنى اللغوي للكلمة أو وفقا للمعنى الاصطلاحي القرآني لها، ولا شك أن ذلك التدقيق يعتبر أحد مسارات الأبحاث الشرعية التي يتطلب الأمر القيام بها لخدمة ذلك المشروع الكبير، ويمكن اعتبار أن الكلمات التالية تصف مكونات الكون التي يمكن أن يكون لها المعاني التالية:

شكل (1): نموذج تخيلي لبنية السماوات السبع والأرضين السبع حسب السمان (2017).

((لو كان الشكل غير ظاهر، نرجو الضغط على الفراغ أعلى هذا الكلام))

 

شكل رقم (2) مخطط تخيلي مقترح للكون بمعناه الواسع في العلوم الشرعية، مع وصف موجز لمكوناته.

((لو كان الشكل غير ظاهر، نرجو الضغط على الفراغ أعلى هذا الكلام))

– الأرض: ويمكن أن تعني الكرة الأرضية، أو السطح العلوي لكل سماء من السماوات السبع علويا أو سفليا (وفق نموذج السمان، 2017، شكل 1)، أو الأرضين السبع اصطلاحا (شكل 2) والذي يشير إلى السماوات السبع السفلى (أو النار) بعيدا عن العرش. كما قد تأتي كلمة الأرض في النصوص الشرعية للإشارة إلى التربة أو إلى موقع من المواقع على سطح الكرة الأرضية.

-السماء: ويمكن أن تشير إلى الغلاف الجوي للكرة الأرضية، أوتشير إلى السماء الدنيا (الكون المدرك و/أو السماء الأولى)، أو تشير إلى السماوات السبع حول الكون المدرك (شكل 1)، أو تشير إلى السماوات السبع العليا اصطلاحا (شكل 2) وهي السماوات السبع (أو الجنة) باتجاه العرش، أو تشير إلى العرش المجيد.

-العرش: وهو أعظم المخلوقات وأجملها ويعتبر سقف المخلوقات.

-الكرسي والماء: من مكونات الكون التي لم تتناولها نصوص خلق الكون، لكن وردت بعض الأحاديث والآثار التي تشير إلى ترتيب الخلق يمكن أن تتيح تكوين فكرة عن ترتيب خلق هذه المخلوقات العظيمة (العرش والكرسي والماء واللوح المحفوظ).

وعليه يمكن صياغة النموذج المقبول لنشأة الكون الذي يضم كل تلك المكونات، مع تقديم النصوص الشرعية المتفق عليها كإطار شامل لذلك النموذج، ولا يقوم بالتعديل على ذلك النموذج إلا أساتذة العلوم الشرعية وفق قواعد البحث العلمي لديهم، ومن ثم تضاف التفاصيل المتفق عليها من معطيات العلوم المادية التي بالتالي لا يمكن التعديل فيها إلا من جهة أهل الاختصاص من أساتذة العلوم المادية وفق آلياتهم في البحث العلمي (صورة 1).

صورة (1): صيغة مقترحة للتكامل بين العلوم الشرعية والعلوم المادية فيما يخص خلق الكون.

((لو كانت الصورة غير ظاهرة، نرجو الضغط على الفراغ أعلى هذا الكلام))

الأكوان الموازية أو الأكوان المتعددة:

أما مفهوم الأكوان المتعددة الذي تشير إليه الحلول الرياضية للنظريات العلمية حول نشأة الكون (المدرك)، فلا يرى الباحث الحالي أن ذلك له أية ارتباط بمفهوم السماوات السبع الذي تتناوله النصوص الشرعية، فهذه الأمور الغيبية لا بد لها من دليل شرعي يدعمها، فهل الذي خلق السماوات والأرض والكرسي والعرش سبحانه وتعالى قد خلق كونا واحدا أم أكوانا غير هذا الكون الكبير؟ يعتقد الباحث أن هذه المخلوقات العظيمة مثل الأكوان لا يمكن أن يتجاهلها القرآن الكريم.

ولقد رأى رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم من آيات ربه الكبرى في رحلة الإسراء والمعراج، فلو كان هناك أكوان أخرى لرآها ولأخبرنا عن وجودها… فالأساس كما يقول علماء السلف عن الاعتقاد بوجود أي خلق في عالم الغيب هو ورود ذلك بالخبر الصادق عنه صلى الله عليه وسلم في القرآن أو السنة، ويضاف إلى ذلك صعوبة أو استحالة توصل البشر إلى دليل علمي مادي -غير الحلول الرياضية المشكوك في إمكانية ضبطها- عن مكونات الكون خارج حدود الكون المدرك.

وقد جاء في كتاب النور الأسنى حول قوله تعالى في سورة يس ((أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81)): “يقول تعالى منبها على قدرته العظيمة في خلق السماوات السبع والأرضين السبع، ومرشدا إلى الاستدلال على إعادة الأجساد بخلق هذه الأشياء العظيمة، كقوله تعالى في سورة غافر: ((لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57)) فقوله (بقادر على أن يخلق مثلهم) أي مثل البشر.” وجاء في تفسير البحر المحيط: “والضمير في مثلهم عائد على الناس، قاله الرُمَّاني، وقال جماعة من المفسرين: عائد على السماوات والأرض.”

وأقول: نعم إن الله سبحانه وتعالى – وهو الخلاق العليم- قادر على أن يخلق مثل السماوات والأرض، كما أنه سبحانه وتعالى قادر على خلق البشر بعد أن يصبحوا رميما في يوم البعث، فذلك أيسر من خلق السماوات والأرض، لكن يظهر هنا سؤالا مهما يرتبط بما يدور في عصرنا الحاضر في العلوم المادية حول الأكوان المتعددة … فالأمر يحتاج إلى وضع ضابط شرعي في هذه القضية: فنحن جميعا نقر ونجزم بقدرة الله على خلق أكوان متعددة لكن نحتاج إلى التوقف هنا للتفكير في هذه القضية:

o  لا شك أن العلماء الماديين يقصدون بالأكوان المتعددة نسخا متعددة من الكون المدرك، ولا يمكن أنهم يقصدون الكون بمعناه الواسع المعروف في العلوم الشرعية (السماوات السبع والأرضين السبع والكرسي والعرش) فأغلب الظن أنهم لا يؤمنون بذلك الكون الواسع… فكيف يمكن الجمع بين تعدد نسخ الكون المدرك إذا صح وجودها وبين بنية الكون الواسع التي توصف في القرآن والسنة؟

o هل ما يقدمه العلماء الماديين من معادلات رياضية لها آلاف الحلول (وكل حل من تلك الحلول يشير إلى وجود كون مناظر للكون المدرك)، فهل هذه الحلول الرياضية أو بعض الإشارات المبهمة التي تستقبلها وكالات الفضاء مثل الناسا من وقت لآخر، هل هذه الحلول الرياضية والإشارات المبهمة تعتبر أدلة مقبولة لإثبات تلك الأكوان الغيبية؟

o أم أننا نحتاج للإجابة على هذه الاستفسارات (وغيرها الكثير) نحتاج إلى سلوك الطريقة الشرعية المشار إليها أعلاه أكثر من مرة، وذلك بضرورة وجود دليل صحيح وارد عن المعصوم صلى الله عليه وسلم لإثبات وجود تلك الأكوان الغيبية؟ مع الأخذ في الاعتبار أنه صلى الله عليه وسلم هو الكائن البشري الوحيد الذي نعرف أن الله تعالى قد خصه بالتجول في الكون الواسع ضمن رحلة المعراج، ولو كان هناك أكوانا أخرى لوصفها لنا في ذلك الحديث الوارد في البخاري ومسلم.

لذلك ينادي البحث الحالي بضرورة التعاون بين علماء الشريعة وعلماء الطبيعة للوصول إلى الإجابات الشافية لهذه الأسئلة، وللوصول إلى صيغة تضبط الأبحاث العلمية بالضوابط الشرعية الصحيحة… فهل إلى ذلك من سبيل؟ … عندها سوف ينعم البشر جميعا بذلك التعاون المثمر بين الطرفين المتكاملين غير المتصارعين كما يتخيل العلماء الماديين… وسوف نصل إلى صيغة موحدة عن مفهوم الكون الواسع وعن قصة نشأة الكون، وسوف تجمع هذه الصيغة بين انضباط الأدلة الشرعية ودقة الشواهد التجريبية في إطار واحد موحد.

المراجع:

-مراجع التفسير والحديث الشريف الواردة في النص.

-السمان، عبد الرحمن (2017) حول بناء السماوات والأرض، رؤية علمية إيمانية. المؤتمر العلمي الدولي الخامس بكلية اللغة العربية – جامعة الأزهر بالزقازيق، (آفاق الإعجاز في القرآن الكريم).

-معلمي، خليل  (2011) وهم نظرية الانفجار العظيم ووجود الأراضي السبع (موقع أهل القرآن).

– Hoyle, “A New Model for the Expanding Universe,” MNRAS 108 (1949) 372.

-Krauss, L. (2012): A Universe from Nothing. Free Press, 224p.

-Wollack، E. J. (2010). “Cosmology: The Study of the Universe”. Universe 101: Big Bang Theory. NASA.

بقلم: د.سعد كامل

أستاذ مشارك في الجيولوجيا – الإسكندرية – مصر

saadkma2005@yahoo.com

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.