البحث العلمى

مفهوم الكون الكبير ..(27) السماء: الغلاف الجوي والسماوات والكون

الحلقة الأولى: البحث عن مفهوم كلمة السماء

بقلم: د.سعد كامل

على طريق التفكر

أن لفظ “السماء” له قصة مع كاتب هذه السطور، فقد تطور فهم كاتبنا لكلمة السماء مع تقدم هذا البحث حول مفهوم الكون، ففي بداية هذا البحث في عام 2016 كان كاتبنا يعتبر كلمة السماء ليست إلا لفظا مفردا لكلمة السماوات، وبالدخول أكثر إلى عالم السماوات والأرضين مع مطالعة المصحف الشريف لتجميع الآيات المرتبطة بمفهوم الكون لاحظ كاتبنا الكثير من الآيات يشير فيها لفظ السماء إلى السماوات جميعا، وأبرز الأمثلة على ذلك الآيتين التاليتين:

-يقول تعالى في سورة آل عمران: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)).

-ويقول تعالى في سورة الحديد: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)).

بالإضافة إلى ما يصل إلى 70 آية من آيات القرآن الكريم تتناول الحديث عن السماوات باستخدام كلمة “السماء”، وقد جعل هذا كاتبنا يلتفت إلى تجميع تلك الآيات تحت عنوان: “السماء تساوي السماوات”، ويبدو أن كاتبنا كان متأثرا أثناء البحث بالمنهج القرآني في استخدام كلمة “الأرض” لوصف “الأرضين”، فوجد صيغة السماء تساوي السماوات تتفق مع ذلك المنهج.

مفهوم أوسع 

إلا أن مطالعة كتب التفسير أضاف مفهوما أكبر وأوسع لكلمة السماء، فهاهو الإمام حقي في روح البيان يقول ضمن تفسير آية الكرسي: “والسماء هي كل جرم علوي ويدخل فيها الكرسي والعرش”، فنجد أن مصطلح السماء أوسع وأشمل من مصطلح السماوات، وتأتي كلمة السماء لتشير إلى العرش المجيد وذلك في قوله تعالى من سورة الملك: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17))، وقد استنتج الباحث الحالي أن كلمة السماء تشير إلى العرش المجيد من حديث عباس بن عبد المطلب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “….. ثُمَّ فَوْقَ ذَلِكَ الْعَرْشُ بَيْنَ أَسْفَلِهِ وَأَعْلاهُ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَاللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَوْقَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِ بَنِي آدَمَ شَيْءٌ” رواه القيسراني في ذخيرة الحفاظ: رقم 1868/4.

معنى كلمة السماء

تحت عنوان “لفظ السماء في القرآن”، يقول موقع (إسلام ويب): “يدل لفظ السماء في الأصل على العلو، والارتفاع، وهو مأخوذ من السمو، يقال: سموت إذ علوت، وسما لي شخص: ارتفع حتى استثبته، والعرب تسمي السحاب سماء، وتسمى المطر سماء، والسماء سقف البيت، وكل عال مطل سماء، ومن معاني السماء: سماوات الجنة والنار، حيث جاء عن تفسير قوله تعالى في سورة هود: (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ) قال الضحاك: ما دامت سماوات الجنة والنار وأرضهما”. وقد جاء في القرآن الكريم حول الارتفاع العالي قوله تعالى في سورة الأنعام: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125))، فالذي يصعد في السماء يواجه نقصان تركيز الأكسجين.

 يتضح مما تقدم تعدد استخدامات كلمة السماء في اللغة كما في القرآن الكريم، وعليه يقول السامرائي (في صفحته على الفيس بوك): “فالسماء كلمة واسعة جدا قد تكون بمعنى السحاب أو المطر أو الفضاء أو السقف، وهي أعم وأشمل من السماوات”، ويتفق مع السامرائي الكثير من العلماء، ومنهم حمدان (2014) الذي يسرد استخدامات كلمة السماء في القرآن الكريم ثم يوجز بقوله: “السماء جرم مستقل بذاته، فهي بناء مسواة لها أبواب، وهي سقف محفوظ، وهي ممسوكة (بأمر الله) وفيها كسف أي قطع، أصلها دخان، وهي ذات طرق بنيت بأيد، وهي موسعة، ومرفوعة، وذات رجع”. ويوافقه أيضا عمري (2004).

وعلى موقع دار العلوم – ديوبند يكتب المباركفوري (2014) عن “جمع السماوات وإفراد الأرض” فيقول:

-الأرض مفرد لأنها بمعنى السفل والتحت، أما إذا قصد جزء محدد منها جاز التثنية والجمع مثل: “طوقه من سبع أرضين” جمعت لتحديد شبر من الأرض، أما جمع السماوات (في الآية 12 الطلاق) فإن المقصود ذاتها دون الوصف فلهذا جمعت جمع سلامة، لأن العدد قليل وجمع القليل أولى، بخلاف [الأرض فإن المقصود بها معنى التحت والسفل دون الذات والعدد]، وحيث أريد بها الذات والعدد أتي بلفظ يدل على التعدد (مثل قوله تعالى: ومن الأرض مثلهن).

-ويقول: “[والأرض هي دار الدنيا] لم تذكر في القرآن إلا بالقليل، [وأما السماوات فليست من الدنيا] –على أحد القولين- فإذا أريد الوصف الشامل للسماوات وهو معنى العلو والفوق أفردته كالأرض بدليل قوله تعالى في سورة الملك: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16))، فأفرد هنا لما كان المراد الوصف الشامل وليس المراد سماء معينة”.

-ويقول: “وكذا قوله في سورة يونس: (وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61))، بخلاف قوله في سبأ: (لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3))، فإنه قد ذكر سبحانه -قبله- سعة علمه وأن له ما في السماوات وما في الأرض فاقتضى السياق الجمع، ولما لم يكن في سورة يونس ما يقتضي ذلك أفردها إرادة للجنس.”

-ويقول: “وتأمل كيف جاءت مفردة في قوله في الذاريات: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)) الرزق: المطر، و(ما توعدون) الجنة، وكلاهما في هذه الجهة؛ [لأنها –أي الجنة- في كل واحدة من السماوات]، فكان لفظ الإفراد أليق؛ وجاءت مجموعة في قوله في النمل: (قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)) لما كان المراد نفي علم الغيب عن كل ما هو في واحدة واحدة من السماوات أتى بها مجموعة، ولم يجيء في سياق الإخبار بنزول الماء منها إلا مفردة حيث وقعت لما لم يكن المراد نزوله من ذاتها بل المراد الوصف”.

فهذه أيها القارئ الكريم هي مقتطفات من مقال أحد محرري مجلة دار العلوم ديوبند بالهند، ولولا أنني خفت أن أشق عليكم لنقلت المقال كاملا، فأستاذنا الكريم –المباركفوري- يستعرض في لغة رصينة بعض أبعاد الجمع والإفراد لكلمتي السماء والأرض في القرآن الكريم، وهو بحث لغوي بحت، إلا أنه في نفس الوقت يذكر بين ثنايا المقال معلومات دقيقة عن فهم معقول للكون في الإسلام، فارجع أخي الكريم إلى تلك المقتطفات وارجع إلى صياغة الجمل المحددة بالقوسين المستطيلين، فانظر كيف يشير (المباركفوري) إلى مكونات الكون في سلاسة، وقد نتفق –في تفاصيل بحث مفهوم الكون- أو نختلف مع هذا المحرر، لكن ذلك لا يقلل من أهمية تلك الكلمات الرائعة… لذلك يؤكد كاتب هذه السطور أن تراثنا الثقافي يحتوي على الكثير من هذه الكنوز التي تنتظر من يستخرجها لفائدة البشرية جمعاء، فهل إلى ذلك من سبيل؟

السماء في القرآن الكريم

أشارت أبحاث كثيرة إلى عدد مرات ورود كلمة السماء في القرآن الكريم منها موقع (إسلام ويب) الذي قال أن هذا العدد يصل إلى 310 موضعا بالكتاب الكريم، منها 190 موضعا بالجمع (السماوات) و120 موضعا بالإفراد (السماء)، وأنه لم يَرِد في القرآن لفظ السماء بصيغة الفعل، وجاء معرفا في جميع مواضعه سوى خمسة مواضع جاءت الكلمة غير معرفة (سماوات) وموضعين جاءت كلمة (سماء) غير معرفة. كما ذكر الموقع نفسه أن اقتران كلمة السماء بكلمة الأرض جاء في 191 موضعا بالكتاب الكريم، منها (19) موضعا جاء فيها السماء والأرض، و(172) موضعا للسماوات والأرض، مع تقدم لفظ السماء/السماوات على لفظ الأرض في الجميع عدا أربعة مواضع.

وقد قام كاتب هذه السطور بتصنيف الآيات (120 آية) التي تتضمن كلمة “السماء” ضمن الجدولين (1 و 2)، وقد ذكرنا في بحث السماوات والأرضين (انظر المقال رقم 15 من هذه السلسلة)، ذكرنا تصنيفا مشابها للآيات التي وردت فيها كلمة “السماوات والأرض” (150 موضعا)، وقد اتضح في ذلك المقال أن أكثر تلك الآيات تدور حول توحيد الخالق سبحانه وتعالى، وحول التفكر في عظمة الخلق والخالق (117 موضعا)، إضافة إلى 30 آية (30 آية من 150) تتناول وصف وخلق السماوات السبع والأرضين السبع. أما فيما يخص آيات السماء: فنلاحظ أن 64 آية منها تتضمن إشارات عن توحيد الخالق سبحانه وتعالى (جدول 1)، في حين أن 56 آية (56 آية من 120) منها تتضمن إشارات حول أهمية السماء وعن وصفها وخلقها (جدول 2)، وبذلك يمكننا القول أن الآيات التي تتضمن كلمة السماء المفردة تشتمل على نسبة أكبر من الآيات التي تتناول أهمية ووصف وخلق السماوات، مما يشير إلى دقة الصياغة القرآنية في تفضيل كلمة السماء باعتبارها مصدر كلمة السماوات أو اسم الجنس لها.

جدول 1 ((لو كان الجدول غير ظاهر: فضلا إضغط على الفراغ أعلى هذا الكلام))

وتشير الآيات المذكورة في جدول (1) إلى عدة جوانب ضمن إطار توحيد الخالق سبحانه وتعالى وهي:

-التوحيد أساس الكون، وأن الرزق بيد الله عز وجل، وأنه سبحانه وتعالى لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.

-وحول بركات الله التي تتنزل من السماء تأتي آيات وصف الغلاف الجوي للأرض: فالماء النازل منها يحي الله به الأرض بعد موتها وهذا دليل واضح على أن الله يبعث الخلق يوم الدين، وذلك الماء يُخرج الله به الثمرات مختلفة الأنواع، ويأتي وصف السحاب من جوانب متعددة ضمن عدد من تلك الآيات، كما أن ذلك الماء النازل من السماء يمكن أن يزيد فيكون نعمة كبيرة كما يمكن أن يكون طوفانا شديدا، وذلك مثل الحياة الدنيا تزهو وتزدهر ثم يأتيها أمر الله فتزول وتذهب.

-والسماء أيضا هي مصدر نزول العذاب على الأقوام الكافرين.

جدول 2 ((لو كان الجدول غير ظاهر: فضلا إضغط على الفراغ أعلى هذا الكلام))

أما الآيات المذكورة في جدول (2) فتشير إلى أهمية ووصف وخلق السماء والكون، فمنها (24) آية حول خلق وبناء السماء والكون، و(14) آية حول تغيرات السماء يوم القيامة وهي من أسس فهم السماء في هذه الحياة الدنيا كما سيأتي لاحقا، ثم تأتي آيات وصف بعض جوانب السماء مثل جنود الله في السماء، وأبواب السماء، وارتباط السماء بعناد الكافرين ورفضهم أدلة الإيمان… فأدى ذلك إلى أنهم حرموا أنفسهم من استشعار عظمة هذا الخلق وعظمة الخالق سبحانه وتعالى.

يتضح من الجدولين (1 و 2) تعدد استخدام كلمة السماء في القرآن الكريم: فقد تشير إلى الغلاف الجوي المحيط بالكرة الأرضية وما ينزل من هذه السماء القريبة من أمطار وأرزاق، ومن ثم قد تأتي كلمة السماء بمعنى السحاب أو المطر، وقد تشير كلمة السماء إلى مكونات الكون الكبرى بدءا من السماوات السبع بمعناها الفلكي الذي يتضمن السماوات السبع والأرضين السبع والمذكور في مقال سابق (المقال رقم 15 من هذه السلسلة)، أو تشير إلى السماء بالمعنى الاصطلاحي في النصوص الشرعية وهي السماوات العلى باتجاه العرش، كما قد تشير كلمة السماء إلى العرش المجيد كما ذكر أعلاه في سورة الملك.

وبناء على ما تقدم نرى من الضروري الوقوف عند بعض المعاني الخاصة بخلق السماء والكون، والمعاني المرتبطة بوصف السماء وما فيها، وكذلك بعض المعاني التي تصف حال السماء والكون في يوم القيامة، وذلك في ضوء تفسير بعض الآيات الواردة في الجدول (2) بشكل أساسي، ونسأل الله أن ييسر لنا ذلك في الحلقتين القادمتين من هذه السلسلة بإذنه تعالى وتوفيقه.

المراجع:

-مراجع التفسير والحديث الشريف المذكورة في النص.

-السمان، ع. (2017): حول بناء السماوات والأرض، رؤية علمية إيمانية. المؤتمر العلمي الدولي الخامس بكلية اللغة العربية – جامعة الأزهر بالزقازيق، (آفاق الإعجاز في القرآن الكريم).

-المباركفوري، أبو فايز (2014): جمع السماوات وإفراد الأرض. مجلة الداعي الشهرية، دار العلوم ديوبند، الهند، العدد : 1-2 ، السنة : 39.

-حمدان، حسني (2014): السماء والسماوات في القرآن الكريم، موقع الألوكة الشرعية.

-صفحة فيسبوك {نور الهداية متشابهات القرآن ولمسات بيانية} (السامرائي، 2012): السماء والسماوات.

-عمري، ح. (2004): خلق الكون بين الآيات القرآنيّة والحقائق العلميّة، مؤتة للبحوث والدّراسات (سلسلة العلوم الإنسانية والاجتماعيّة)، المجلد 19، العدد 4 ، ص 11 –41 .

-كامل، س (2022): إشارات حول السماوات والأرض في القرآن الكريم، المقال رقم 15 من سلسلة مفهوم الكون الكبير، موقع وضوح الإخباري.

-موقع إسلام ويب (2012): لفظ السماء في القرآن.

بقلم: د.سعد كامل

أستاذ مشارك في الجيولوجيا – الإسكندرية – مصر

saadkma2005@yahoo.com

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.