البحث العلمى

مفهوم الكون الكبير ..(39) هل الملائكة تحمل الكون؟

الحلقة الأولى: الجاذبية ومسار المشكلة

بقلم: د.سعد كامل 

في مواجهة هيمنة الفكر المادي:

تحتوي مناهج العلوم في مراحل التعليم المتتالية على قدر من المعلومات حول الاتساع الهائل للكون المدرك، وحول القوى الممسكة بذلك الكون، وقد تم ترتيب هذا السيل من المعلومات -التي تساهم بشكل كبير في صناعة فكر وثقافة الأجيال-، تم ترتيبها بحيث تتكون قناعات راسخة بأن قوة الجاذبية هي أهم القوى الممسكة بالكون. ويمكن القول أن هيمنة الفكر المادي في تصميم تلك المناهج قد ابتعد بها عن الهدف الأكبر لمناهج التعليم المتمثل في ربط الأبناء بالخالق عز وجل.

والغريب في الأمر أن كاتبنا عندما بدأ يفلسف هذه القضايا رافضا الاكتفاء بالبعد المادي لقضية الإمساك بالكون، وداعيا إلى الاهتمام بالبعد الإيماني الذي يشير إلى دورٍ ما للملائكة في حمل الكون، ومناديا بالتكامل بين العلوم المادية والعلوم الشرعية لتحقيق التوازن في ثقافة أبناء الأمة. الغريب أن أكثر زملائه من العلماء الماديين الذين ناقشتهم في هذه القضايا، أكثرهم كان يتحجج أن الغرب سيرفض هذا الكلام باعتبار أن الغرب يهيمن على العلوم حاليا، فلا بد أن ننحني للعلم المادي القادم من الغرب خضوعا وإجلالا، ولا بد أن تمر الأفكار التي يتعلمها أبناء الأمة من خلال مجاري الصياغات المادية لكي تُصْبَغ بالفكر المادي، وينغمس أولادنا في مياه تلك المجاري، فتخرج عقول مشوهة ذات أسماء إسلامية لكن عقولها محشوة ببقايا المادية المتحجرة!!

من هنا يتعجب كاتبنا من ردود أفعال أحبابنا من أساتذة العلوم الطبيعية، الذين يقولون: نعم يمكننا أن نستخدم الإدلة الإيمانية فيما بيننا، فنحن نعرف القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، لكن لا يمكننا تصدير هذه المعاني للغرب المادي الذي يرفض الربط بين العلم والأديان. هنا يشتاط كاتبنا غيظا من هذا المنطق، فهو لم يذهب للحوار مع أحد العلماء الغربيين -الذين من المحتمل أنهم لو فهموا المنطق الإيماني أن يعتنقوه بسلاسة-، بل الكلام معك أنت أيها الزميل العزيز الذي تحفظ القرآن الكريم وتؤدي الصلوات الخمس في وقتها، فلماذا تحيل القضية إلى طرف ثالث لا يجلس بيننا؟… صحيح أن بعض الزملاء يؤمن إيمانا عميقا بالفكر المادي مثل أستاذ الفيزياء الذي قال بالحرف الواحد: اسمع يا هذا نحن كلية علمانية لا تأخذ بالأفكار الدينية، واذهب لتجعل علماء الشريعة يتفقون فيما بينهم على المعاني الصحيحة للآيات والأحاديث، ووقتها نلتقي!!

لعل الحوارات أعلاه توضح للقارئ الكريم كم نواجه من مشكلات في قناعات كثير من الزملاء أساتذة العلوم الطبيعية بالطريقة المادية في الحياة العلمية، وكم تؤثر تلك القناعات على أي مناقشة يظهر فيها الجانب الديني كأحد محاور النقاش!

كما أن الصورة تتعقد أكثر عندما يتجه كاتبنا إلى السادة علماء الشريعة لتقديم فكرة مفهوم الكون الكبير، فالفكرة جديدة وجريئة، ويجد عدد من أساتذة الشريعة أنها فكرة تستحق النشر، بينما يتوقف عدد آخر منهم عن التعامل مع الفكرة تخوفا من الخوض في الأمور الغيبية، مع عدم مناقشة تفاصيل الفكرة وما أورده الكاتب من أدلة تؤيد ما ذهب إليه من تأويلات مبتكرة، فلا زملائي أساتذة العلوم الطبيعية مستعدون لخوض غمار البحر الهادر للتكامل بين العلوم المادية والعلوم الشرعية، ولا بعض شيوخنا الأفاضل يقبلون بالاعتراف بأهمية فكرة مفهوم الكون الكبير، وأنها سوف تجذب إلى حظيرة الإيمان الكثير من أصحاب العقول والنهى من العلماء الماديين حول العالم.

وقد بدأ كاتب هذه السطور منذ حوالي سبعة أعوام في الاهتمام بقضية حقيقة الجاذبية -وما زال البحث جاريا-، وحتى الآن برزت الكثير من الحقائق نتيجة هذا البحث مما يؤكد على أهمية تكوين لجان مشتركة من أساتذة العلوم المادية وأساتذة العلوم الشرعية، وذلك لمناقشة هذه القضية الكبرى التي ترتبط في العلوم المادية بنشأة الكون، وعليه يهدف هذا المقال إلى استعراض ما ظهر من حقائق مرتبطة بحقيقة الجاذبية متمنيا أن تؤدي هذه الحقائق إلى الوصول إلى بر الأمان في هذا الخصوص،،، وبالله التوفيق.

ظاهرة الجاذبية ومسار المشكلة:

نشير هنا إلى المثال المشهور عن أن وكالة ناسا الأمريكية صرفت ملايين الدولارات لابتكار قلما جافا ذو بلية دوارة يكتب في ظروف انعدام الوزن وتحت أقسى ظروف الحرارة والبرودة…. فهم هنا عاشوا في أطار المشكلة وهي: “كتابة رواد الفضاء بقلم جاف”…. لكن رواد الفضاء الروس لم يعيشوا في المشكلة بل عاشوا في الحل وهو: “الكتابة”…. فأخذوا معهم أقلاما رصاص خشبية. ويعتقد كاتب هذه السطور أن قضية الجاذبية قد سارت في مضمار المشكلة وابتعدت عن التفكير في الحلول الصحيحة انطلاقا من بدايتها التي واكبت عصر النهضة الأوروبية الحديثة، حيث خيمت على الأوساط العلمية منذئذ خصومة شديدة بين العلوم المادية والعلوم الشرعية.

وقد اتفق العلماء الماديين على وجود أربعة أنواع من القوى الطبيعية تعمل ضمن ما نعرفه باسم الكون المدرك وهي: القوة الكهرومغناطيسية، والقوة النووية الشديدة، والقوة النووية الضعيفة، وقوة الجاذبية العامة… وقد تم وضع معادلات رياضية لوصف تأثيرات تلك القوى، كما وضع الفيزيائيون العديد من المعادلات لتفسير الأنواع الثلاثة الأولى من هذه القوى الطبيعية، كما ظهرت الكثير من الاختراعات والتطبيقات في مجال تطويع تلك القوى الثلاثة، كما وضع بعض علماء الفيزياء هدفا عاما لأبحاثهم بغرض الوصول إلى نظرية موحدة تجمع كل القوى في تصور واحد يمكن تطبيقه في مختلف المجالات، لكن وجدوا في طريقهم عقبة شديدة وهي صعوبة ضم قوة الجاذبية العامة إلى غيرها من القوى ضمن هذا الإطار التوحيدي الكبير.

ومن الجدير بالذكر أن القانون الثاني من قوانين نيوتن يصف تأثيرات الجاذبية العامة في الكون: “بأن التجاذب بين أي كتلتين -غير مشحونتين- في الوجود يتناسب طرديا مع حاصل ضرب كتلتيهما، وعكسيا مع مربع المسافة بينهما”، لكن ما حقيقة قوة التجاذب هذه؟ وما مصدرها؟ وكيف تحدث عملية التجاذب بين الأجرام الفضائية؟… لا أحد يعرف إجابات دقيقة عن هذه الأسئلة، إضافة إلى أن الإجابة عن هذه الأسئلة قد يكمن في منطقة بعيدة عن مسار “الجاذبية” الحالي الذي يسلك من بدايته مسار المشكلة وليس الحل. ويمكن القول أن قضية تفسير قوة الجاذبية العامة تعتبر مقياسا مهما من مقاييس الدقة في بناء المفاهيم العلمية الصحيحة… فهاهو قانون نيوتن الثاني يقدم وصفا رياضيا لما نلاحظه من آثار للجاذبية ضمن حدود الكون الذي نعيش فيه، لكن نيوتن لم يشرح آلية عمل الجاذبية.

تعقيدات أينشتين

وجاء أينشتين ليضع نظريته للنسبية الخاصة التي افترض فيها: أنه لا سرعة أكبر من سرعة الضوء!! …. لكنه اصطدم بالمفهوم الغائب عن تفسير قوة الجاذبية العامة، فقام بتعقيد الأمور باعتبار أن “موجات” الجاذبية تحتاج لأن تنتقل في الكون بسرعة أكبر من سرعة الضوء. وهنا قام أينشتين بتعديل النسبية الخاصة إلى النسبية العامة مقترحا وضع ثابت كوني يعالج مشكلة الجاذبية التي قال أنها ليست قوة مثل سائر القوى ولكنها تنتج عن حقيقة ((حسب رأيه)) أن الزمكان ليس مسطحا بل هو منحن بسبب توزيع الكتلة والطاقة فيه، وأن الجاذبية ظاهرة جبلية في ذلك الزمكان المنحني، وبناء على ذلك فالأجسام ((أيضا حسب فرضيات أينشتين)) تتبع دائما خطوطا مستقيمة في الزمكان ذي الأبعاد الأربعة، لكنها تبدو لنا تتحرك على مسارات منحنية في فراغنا ذي الأبعاد الثلاثة (Hawking, 1988).

واعتبارا من أينشتين انطلق أهل الفيزياء النظرية في تعقيد المفاهيم الخاصة بفهم ظاهرة الجاذبية،  وتعقدت الصورة أكثر بعد اكتشاف أن الكون يتمدد ((أو يتوسع / بل ينمو)) فقد تم استنتاج نظريات الانفجار الكبير، وما تبعها من افتراض ظواهر فلكية ضخمة ضمن ما يعرف بالمادة السوداء والطاقة السوداء والثقوب السوداء، وتربعت على عرش تلك المفاهيم فكرة المفردات التي تتلاشى عندها كل القوانين الفيزيائية.

ثلاثة احتمالات

وقد بدأ علماء الطبيعة في الربط بين قوة الجاذبية التي تمسك بالكون وبين بدء خلق الكون بالانفجار العظيم الذي –حسب قولهم- أعطى الانطلاق الأوَّلي لتوسع الكون إلا أن قوى الجاذبية تحول بين استمرار هذا التوسع إلى ما لا نهاية (Hawking, 1988)، وبالتالي وضعوا ثلاثة احتمالات لهذا التوسع:

(1) تفوق قوة التباعد على قوة الجاذبية أي كون مفتوح دائم التوسع،

(2) تساوي القوتين أي كون ثابت لا يتوسع ولا ينكمش،

(3) تفوق قوة الجاذبية على قوة التباعد أي كون منغلق ينكمش.

ويؤكد العلماء أن حالة تساوي القوتين أو الكون الثابت هي الملاحظة (Krauss, 2012)، وهنا يبرز سؤالا فلسفيا مهما: ما الداعي للإصرار على فرضية التوسع والانفجار بينما الكون ثابت وينمو ببطء؟ فهو لم يتكون بانفجار ولن يعود للانكماش!!!

ناهيك عن التكلف الهائل في الدقة العلمية المتوهمة باعتبار أن نشأة الكون مرت بعصور بعضها لا يزيد عن جزء من فيمتو ثانية أو أقل من ذلك!!! …. يليه عصر استمر زمنا أكبر يصل من ضخامته أنه يبلغ ثانية أو أكثر من ذلك قليلا!!!

ستيفن هوكن ونظرية “التيه”

ثم يأخذنا ستيفن هوكن ومن معه من فلاسفة الفيزياء النظرية إلى “التيه” بادعاء أن الذي يمسك الأجرام السماوية الضخمة هو بعض الأوتار التي ليس لها سمك محسوس ولها أطوال لا نهائية وقوة تحمل أثقالا ذات أرقام فلكية من الأطنان!!!…. ولا يمكن رصد الجسيمات التي تصدرهذه الأوتار المتوهمة نظرا لضعف المتاح من المعجلات  الضخمة للطاقة، ويخلص في كتابه “التصميم العظيم – 2010” إلى أن ما يدعيه ((من مفاهيم ميتافيزيقية فلسفية ليس لها أي دليل مادي)) يدل على أن الكون قائم بذاته ولا يحتاج إلى وجود خالق!!!

مفاهيم مغلوطة

كل هذا وأكثر من المفاهيم المغلوطة والمغلفة بهالة تعجيزية من الرياضيات المعقدة يجب أن يدفعنا دفعا إلى الاعتراف لهؤلاء الفلاسفة الماديين بأننا عاجزون عن فهم ما يضعونه لنا من أفكار عظيمة –حسب زعمهم-، وعليه يجب أن نطير فرحا بما تفضلوا علينا به من خير عميم يجعلنا نفهم ما قصرت عقولنا عن فهمه، ونقبل صاغرين بما يضعونه من أوهام لتفسير الجاذبية وما يرتبط بها من نشأة لهذا الكون العظيم!

ولننظر إلى قوله تعالى عن منكري الحق الذي جاء به القرآن الكريم وذلك في آخر سورة التكوير: (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29))، فهذا هو كلام الخالق عز وجل فإلى أين يتركونه ويذهبون، وكيف يتطاولون بإنكار وجوده عز وجل، حتى قوله تعالى (لمن شاء منكم أن يستقيم) لم يأتي على سبيل التخيير فقد علقت الآيات تلك الاستقامة على المشيئة الإلهية، كما ورد في التفسير أن أبو جهل –لعنه الله- لما نزلت هذه الآية قال: “ذلك إلينا، إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم”، فأنزل الله: (وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين).

بناء على ما تقدم أعلاه حول السير في طريق المشكلة الذي أدى إلى تعقيد مفهوم الجاذبية  بالدخول إلى مفاهيم فلسفية غيبية بالرغم من إدعاءاتهم أنها علمية، نتساءل: لماذا لا نقبل ارتياد طريق المفاهيم الإيمانية الغيبية أيضا والتي تشير إلى أن كل حركة -في العالم السفلي الذي نعيش فيه وكذلك في العالم العلوي في السماوات العلى- قد وكل الله تعالى بها ملائكة لرعايتها وتنفيذها -كما سيأتي لاحقا-، بذلك نعلن بوضوح أننا نؤمن بالخالق العظيم، وننطلق في مضمار الاستفادة من ذلك العالم الغيبي بطريقة إيمانية ونتمتع برضاء المولى عز وجل، كل ذلك مع عدم إلغاء المعادلات التي تحكم ما نعتبر أنه “الجاذبية” سواء معادلات كيبلر أو نيوتن أو أينشتين، لكن ذلك سوف يسمح لنا بالتحرر من أسر المفاهيم المادية لكي ننطلق في فهم هذه الظاهرة بما يتناسب مع حقيقتها النابعة من المفاهيم الإيمانية كما سيتضح في الحلقات التالية من هذه السلسلة بإذن الله تعالى.

المراجع:

Hawking, S. (1988): A brief history of time. Bantam Books, 256p.

Hawking, S. and Mlodinow, L. (2010): The Grand Design. Bantam Books, 208p.

Krauss, L. (2012): A Universe from Nothing. Free Press, 224p.

بقلم: د.سعد كامل

أستاذ مشارك في الجيولوجيا – الإسكندرية – مصر

saadkma2005@yahoo.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.