من القاهرة إلى القدس… والصرخة في غزة

بقلم أيقونة الاتزان: السفير د. أحمد سمير
رحلة الروح بين الأزمنة والمآسي
استيقظت كعادتي قبل صلاة الفجر، وبعد قيام الليل، توجهت إلى مسجد عمرو بن العاص، القريب من منزلي، لأداء الفجر. وحين انتهيت من الصلاة وقراءة أورادي، خرجت من المسجد أستنشق هواء القاهرة المختلط بعبق التاريخ، حيث يتداخل الحاضر مع الماضي في نسيج ساحر.
لم أكن أعلم أنني على أعتاب تجربة ستنغرس في ذاكرتي عميقًا، حين لفت انتباهي منادٍ للسيارات الأجرة يصرخ بصوته الشعبي: “واحد القدس… القدس واحد!”، فاندفعت إليه وركبت الحافلة التي انطلقت بعد أن اكتمل الركاب، مغادرة القاهرة العتيقة، مدينة الفسطاط، أم الدنيا التي حملت على أكتافها حضارات لا تُحصى.
عبور الذاكرة في جغرافيا الوطن
انطلقت الحافلة شمالًا، نحو رفح، مرورًا بصحراء سيناء الواسعة، التي ما زالت رمالها تحتفظ بدماء الشهداء وملاحم العزة من أكتوبر 1973. في الطريق، كنت أتأمل تضاريس الوطن كأنها تسرد فصولًا من الحنين.
دخلنا فلسطين من بوابة الشوق، مررنا بيافا، تلك المدينة التي تتنفس برائحة البرتقال، ثم عسقلان الصامدة، فمجدل المحتلة، حيث لا تزال الجدران تهمس بأصوات القوافل الإسلامية.
وأخيرًا، وصلنا القدس… إلى باب العامود والقلعة وشارع الواد، حيث تتعانق المآذن مع أجراس الكنائس في سيمفونية سماوية، في القدس، حيث المسجد الأقصى، وقبة الصخرة، وكنيسة القيامة… هنا يقف الزمن إجلالًا للسماء المفتوحة.
غزة… حيث إبادة الأرواح تحت الركام والحصار
لكن من القدس، كانت النظرة إلى غزة مؤلمة. لم تكن كالسابق، فذلك الشريط الضيق الذي كان يومًا ما يربطه بالقاهرة قطار للسلام، صار الآن مغطى بالركام والرماد، تنهشه نيران القصف وتخنقه يد الحصار.
البيوت القديمة، والأسواق، والمدارس، كلها تحولت إلى أنقاض أو ملاجئ. الأطفال الذين اعتادوا أن ينشدوا للحياة، صار صوتهم مخنوقًا تحت دوي المدافع. في غزة، تُقتلع الجذور، ويُدفن الحلم، والقدس تتعرض للتهويد… هكذا يُكسر الإنسان قبل أن يُكسر الحجر.
غزة اليوم بأمسّ الحاجة إلى معبر يحمل لها الصمود قبل الخبز، والدواء قبل الكلمات. إنها بحاجة إلى أمل لا يتآكل، إلى تضامن لا يُساوم، إلى قوافل لا تنطفئ.
صرخة القوافل القديمة… وأمل الانبعاث
هذه الرحلة ليست حلمًا، بل حقيقة أعيشها كل يوم في وجداني. فمتى نعود كيانًا واحدًا، طريقًا واحدًا، ومصيرًا واحدًا؟
من القاهرة التي علمتنا كيف تُبنى الحضارة، إلى القدس التي جمعت بين الأديان، إلى غزة التي تختبر الصبر بكل ما تملك… علينا أن نعود إلى روح القوافل القديمة، تلك التي اخترقت الصحارى لتضيء دروب الحرية.
فلنحوّل حدودنا إلى جسور لا تنهار، ولنفتح معابر سلام حقيقية لا جدرانًا من صلب، ونبني مستقبلًا يليق بالأحياء والشهداء.
الرحلة مستمرة… والنصر حتميٌّ لمن آمن أن التاريخ يُصنع بدماء الشهداء وعزائم الأحياء.
السفير د. أحمد سمير
عضو هيئة ملهمي ومستشاري الأمم المتحدة
السفير الأممي للشراكة المجتمعية
رئيس مؤسسة الحياة المتزنة العالمية