الفن والثقافة

وحيدة

قصة قصيرة بقلم / حاتم السروي

في الشقة الواسعة الأنيقة الواقعة بالدور الأرضي، وبعد المدخل المزين بقصاري الورود النادرة، هنا على الصالون المذهب، شهدت علينا لوحات كلاسيكية تنم عن ذوقٍ رفيع.. والمرأة الوحيدة لم يعد يغريها الهدوء، وإنما يعصرها إحساسٌ بالوحشة.. وحيدة.. حزينة.

سألتها: ما هذه الدموع يا جناب المديرة؟ كيف تفسرين الحزن على أمرٍ كنتِ على يقين أنه سيحدث ذات يوم؟ أربعون عامًا أدركتِ منذ أول يومٍ فيها أن نهايتها لن تكون أفضل من ذلك.

–              إنها دموعٌ عادية لامرأة بلا زوجٍ أو أبناء، معها المال لكن المعاش عانقها بالأمس، وسيظل رفيقًا لها في رحلة الصراع مع الملل، مع المرض، مع وحشةٍ بلا ضفاف. ماذا أفعل؟ أُصدقيني القول والنصيحة..

–              حوريه نشأت، اسمك الموسيقي انضم إلى قوة الشخصية ومهارة العلاقات العامة.. صوتك يعلو إذا لزم الأمر، مع قدرةٍ على نفي أية عقبة في طريق صعودك الذي انتهى اليوم؛ كنتِ كاتبة في شئون الأفراد ثم أصبحت ظل رئيس الهيئة، إنها عوامل النجاح في مكان أوله الدرجة الرابعة، وآخره دموع امرأةٍ على المعاش نسيت أن تشتري قطة.

–              كيف نسيتِ أنني المدير العام؟

–              المديرة العامة تقصدين.

–              لا تدخليني في حديث فارغ حول التاء المربوطة.

–              مشكلتك أنكِ نسيتِ هذه التاء.

–              يومي هذا هو مصير كل تاء مربوطة، وكل شاربٍ أيضًا.. ثم إنني تزوجت مرتين.. فعلتُ كل ما بوسعي لتكون لي أسرة؛ أما الأول فكان أكبر مني ولم أنجب، وأما الثاني فكنت أكبر منه… إنها إرادة الله..

–              حسنًا، لسنا الآن في معرض اللوم، ولا داعي لذكر الضحايا الذين أوقعهم سوء الحظ في دربك المشتعل فذهبوا إلى الأقبية واستحالوا جماداتٍ توقع حضورًا وانصرافًا ثم يطويها الصمت.

–              طالما الأمر هكذا فأشيري عليَّ بما أفعل.

لم أجد ما أقوله بالطبع.. فقط شعرت بالسأم ولم أكن أرغب في العودة إلى بيتي، وحتى أدفع الوقت لعبت معها.. عدنا طفلتين، ألقينا الزهر في السُّلَّم والثعبان، ثم انثنينا على الكوتشينة، ولم تكن بارعة في الشطرنج، لكنها غلبتني في الطاولة، كلمتها عن نجاة فحدثتني عن أم كلثوم، ثم صنعت لي ولها كوبين من القهوة المُحَوَّجَة، وحين حل المساء أصبحت موظفة مرتين؛ مرة في “الميري” وفيه كانت مديرتي اللدودة، ومرة في بيتها؛ لقد عينتني جليسةً لها.. لا بأس، لم يبق شيء لنختلف عليه، كنت أشكو منها في العمل، واليوم بات لزامًا أن أعتني بها عنايتي بأمي..

ها قد نامت كالأطفال.. أغلقت أنوار المنزل، ثم وضعتُ مبلغًا قالت إنها ستعطيني مثله كل أسبوع في حافظتي الأنيقة، وفي الطريق كنت على وشك البكاء ثم أخفيت ابتسامتي، هل هناك أسوأ من عيون المارة وألسنتهم؟؟ وحين عدت إلى المنزل تذكرتُ أنني… وحيدة!

وحيدة 2

حاتم السروي.. كاتب صحفي/ شاعر وقاص

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.