ومضات من حياة الشيخ أبي إسحاق

بقلم/ الدكتور سمير محمد شريف.
هذه ليست قصة حياة
ولكنها ومضات من حياة أخي الحبيب
فضيلة الشيخ أبي إسحق الحويني
نشأنا سوياً إخوة متحابين
تعلمنا من والدينا حب الدين
كان أبي لا ينام من الليل إلا قليلا
كان صاحب صلاة وذكر
وكان رحيم بالحيوان قبل الإنسان !!
عندما مات أبي كنت أنا في الشهادة الإبتدائية وكان أخي حجازي في الشهادة الإعدادية ،،
تولي هو إيقاظ العائلة لصلاة الفجر كان يوقظ الكبير والصغير ، ولم يكن الزمن مثل هذا الزمان فلم تكن هناك كهرباء وكنا نعيش علي لمبات الجاز !!
ولم يكن هناك ماء وكنا نتوضأ من ترعة صغيرة تمر من أمام منزلنا كنّا نسميها الملال !!
كان هذا في أجازة الصيف
أما في أيام الدراسة فكنا نسكن في مدينة كفرالشيخ في حي إسمه الحلقة
كنا نسكن في شقة تملكها العائلة ، وكنا نقوم بخدمة أنفسنا فهذا عليه إحضار الطلبات من السوق وهذا عليه طهي الأرز وهذا عليه طهي الخضار وهذا عليه غسيل الأطباق في نهاية الطعام ، وكانت تأتي لنا الزواده كما كانت تسمي في ذلك الزمان تأتي لنا من قريتنا – حوين – وكان يحضرها لنا أحد أفراد العائلة المقيمة في القرية
لقد كانت فترة حافلة بالدروس والعبر
إذ كيف يتسني لشباب صغير أن يخدم نفسه ، لكنها حدثت وتعلمنا الإعتماد علي أنفسنا في هذه السن المبكرة ..
دخل حجازي المدرسة الثانوية ودخلت المدرسة الإعدادية وكان محمد يكبرني بعامين وكان شريف يكبر حجازي بعام وكان حجازي يكبر محمد بعام
وكان لنا حلم أن ندخل جميعاً كلية الطب حتي تكون لنا مستشفي خاص إسمها مستشفي الإخوه !! وكان رزق قد سبقنا إلي دخول كلية الطب وكان هو الذي فتح أعيننا علي هذا الحلم الكبير !!
وفعلاً دخل شريف كلية طب قصر العيني بعد رزق وقلنا ها هو الحلم بدأ في أن يكون حقيقة !!
لكن حجازي في الثانوية لم يحصل علي المجموع الكبير الي يلحقه بالطب
ودخل كلية الألسن قسم اللغة الإسبانية وكان هذا من قدر الله المقدور والذي كان بداية الطريق ل حجازي كي يضع قدمه علي أول طريق طلب العلم الشرعي ..
لو كان دخل كلية الطب كما أردنا نحن وكنا تمنينا لربما لم يكن قد إستطاع أن يفلت من القيد الذي تفرضه الدراسة الطبية وشغلها لكل وقت الإنسان ، لكن دخوله كلية الألسن مهد له الطريق الذي صنعه الله له !!؟؟
ورغم حزننا الشديد علي أن مشروعنا لإقامة المستشفي ها هو يفقد أحد أعمدته ، لكن قدر الله كان هو الغالب !
فُض ثم دخل محمد كلية دار العلوم في القاهرة ، ودخلت أنا كلية طب قصر العيني .،
وهكذا تبخر الحلم بإقامة المستشفي
“” فترة الجامعة كنّا جميعاً في القاهرة ،،
والقاهرة مدينة ساحرة ، صاخبة
كنت أقول عنها إن مدينة القاهرة تلبي إحتياجات كل البشر !
من أراد أن يكون ملتزماً فالقاهرة تلبي طموحه ، ومن أراد أن يكون منحرفاً فالقاهرة تلبي طموحة !!
كنّا نحضر خطب الشيخ كشك عليه رحمة الله في مسجد عين الحياة في شارع مصر والسودان ، وكان أخي رزق يسكن في أول هذا الشارع وكنا نأخذ المسافة من سكن رزق إلي مسجد الشيخ كشك سيراً علي الأقدام ،
وكنت أري تأثر حجازي بالشيخ كشك كبيرا ،،
وكان قد بدأ يكتب بعض خواطره في الدين في أجندة وكنت أقرأ ما يكتب
وكان خطه بالعربية رائعاً مثل عقد اللؤلؤ ومثل حبات الذهب .
وأتذكر أني قرأت له في الآيه (( طلعها كأنه رؤوس الشياطين …))
في وصف شجرة الزقوم ، ومازلت أذكر تساؤله هل يمكن وصف مجهول بمجهول ؟ وردوده علي ذلك ، وكان هذا كلام كبير عندي في هذا الزمان البعيد ..
كان يسكن في المدينة الجامعية بعين شمس وكنت أسكن في المدينة الجامعية بالجيزة وكانت المدن الجامعية في هذا الزمان معقلاً من معاقل الصحوة الإسلامية بين الشباب
كانت الصلوات تقام في مساجد المباني وكانت الندوات الدينية التي يلقيها كبار الدعاة في هذا الزمان مثل الشيخ محمد الغزالي ومحمد نجيب المطيعي وصلاح أبو إسماعيل وعبدالرشيد صقر وإبراهيم عزت وغيرهم رحم الله الجميع ،،
كان لهذا النشاط الديني الأثر الكبير
في الإهتمام بعلوم الدين إلي جانب الدراسة الأكاديمية العادية
تعلمت تجويد القرآن في المدينة الجامعية علي يد طالب في كلية الهندسة جامعة القاهرة
وتعلم غيري الفقه وغيري الحديث بسبب هذا النشاط الديني الذي كانت تعج به المدن الجامعية في ذلك الزمان
أقول هذا وأنا حزين علي شبابنا علي ولدي وولدك عندما يحارب المتدينون الآن ولا يدخلون المدن الجامعية بسبب تدينهم ، ويتم طردهم من المدينة إذا ثبت أنهم متدينون بعد أن يدخلوها !!
كان تفوقه في اللغة الإسبانية أثناء الدراسة سبباً لإرساله إلي إسبانيا في صيف عام ١٩٧٦ وكانت هذه الرحلة من رحلات الخير عليه
الذين سفروه أرادوا شيئاً لكن الله أراد شيئاً آخر وكانت إرادة الله غالبة
هم أرادوا أن يطّلع علي المجتمع الإسباني وأن تتعمق لغته وأن يمهد لنفسه الطريق في أن يكون عضواً في مجمع اللغة الإسبانية كما قال !!
لكن الله أراد أن تكون رحلة إسبانيا فاتحة الخير عليه في طلب العلم الشرعي ، فبدأ حفظ القرآن وأطلق لحيته في هذه الرحلة المباركة !!
وعاد من إسبانيا وعنده إنبهار بمستوي النظافة في ذلك البلد ، حيث كانت الشوارع تغسل ليلاً بالماء والصابون وكان هذا مشهداً عجيباً له
وكنا نري شوارعنا القذرة ونتعجب علي قوم ليسوا مسلمين ينفذون تعاليم الإسلام !! ونحن المسلمين لا نلتزم بتعاليم الشرع الحنيف …
إنتهي حجازي من الدراسة الجامعية
ودخل الجيش لقضاء فترة التجنيد الإجباري وكانت أيضاً فترة مهمة في طلبه لعلم الحديث وقد من الله عليه بأن
جعله في مكان مريح وهو هيئة التدريب في القاهرة ، وقد أعطاه قائده العسكري كتاباً باللغة الإنجليزية وقال له ترجم هذا الكتاب إلي اللغة العربية وإعتبر هذا هو فترة الجيش بتاعتك !!
وقد أعطاني حجازي هذا الكتاب وقمت أنا بترجمته ..
وعندما إنتهي من فترة التجنيد وبدأ البحث عن عمل كان أمامه خيارات أن يعمل في الإرشاد السياحي ولكن الله صرفه عن ذلك ، ثم تم تعيينه في الإذاعة المصرية في قسم الإذاعات الموجهه ولم يمكث فيها إلا شهر واحد وتركها وقال لي يومها أنا كأني أعمل مع شياطين وذلك لأن كل النساء اللائي كن يعملن في هذا القسم كن متبرجات غاية في التبرج وهو كان علي طريق الإلتزام يسير !!
فوجد نفسه غير قادر علي مواصلة ذلك العمل فتركه وحتي أنه لم يصرف مرتب ذلك الشهر وتركه لهم !!
بعد ذلك عمل في بقالة في مدينة نصر
وكان يسكن في مخزن البقالة وقد زرته كثيراً في هذا المخزن وكنت أشفق عليه ولكني كنت أكبر فيه هذه الروح العالية علي تحدي الصعاب والعمل في ذلك العمل الذي كنّا نراه غير مناسب بالمرة لا لتاريخ أسرتنا ! ولا لدراسته !
لكنه كان أعلم الناس بنفسه وكان في ذهنه هدف محدد وأراد أن يحققه مهما كان نوع العمل الذي يعمل به !!
كان ذلك العمل وسيلة له لكي يعيش يأكل ويشرب ، أما هدفه الكبير في دراسة علم الحديث وعلوم الشريعة فكان هو الشيء الذي تهون بجانب الوصول إليه كل الصعاب !!
بعد مقتل السادات في أكتوبر ١٩٨١
تم إعتقال كثير من الناس
وكان حجازي أحد الذين تم إعتقالهم من أمام مسجد النور بالعباسية
وتم ترحيله إلي سجن أبو زعبل ،
وكنا لا ندري أين هو حتي أرسل لنا مع أحد الناس أنه موجود في ذلك المكان .
وقد حزنت علي ذلك حزناً شديداً
وخشيت أن يمكث في السجن فترة كبيرة لأن أحوال البلد المضطربة في هذا الوقت كانت توحي بذلك
وقد قام أخي رزق بزيارته في السجن وقام بطمأنتنا عليه ،،
خرج من السجن في يناير ١٩٨٢
وذهبت لأراه في شقته التي كان يقيم فيها في عزبة النخل بالقاهرة وهالني منظره لأنه كان قد فقد الكثير من وزنه وبدا شاحباً وهزيلا ،،
كان فقدانه لوزنه كان بسبب إصابته بمرض السكر في فترة السجن ، وكان لهذا المرض تداعياته الكثيرة التي أثرت في صحة الشيخ تأثيراً سلبياً شديداً حتي هذه اللحظة التي أكتب فيها …
تزوج حجازي زوجته الأولي وذلك في عام ١٩٨٥ في شقة صغيرة متواضعة في منشأة ناصر وكانت تطل علي مقابر الغفير بالقاهرة ، وكان والد زوجته عّم حسين شراقه – رحمه الله – رجلاً فاضلاً يعمل بالسكة الحديد وكان من سوهاج وكان ذو مروءة ودين
وأنجب من زوجته الأولي أولاده سلمي وحاتم وهيثم وسفيان وشعبه ورقيه ، أسأل الله أن يحفظهم أجمعين وهم نعم الأولاد الأبرار..
في عام ١٩٨٧ قرر الشيخ أن يعود ليقيم في كفرالشيخ كمستقر له ومنها ينطلق في دعوته إلي أي مكان يريد
وسكن في تقسيم زهدي
وكان مسجد عباد الرحمن في تقسيم ٢ بكفر الشيخ أسفل منزل الدكتور محمد أبوحجر هو مقر الدعوة ودروس الشيخ ، وفي بداية العام الدراسي من ذلك العام ١٩٨٧ إنتشرت في شوارع كفر الشيخ ملصقات تدعو إلي الحجاب وتقول ؛؛ الحجاب عفة وطهارة ؛؛ فقامت مباحث أمن الدولة بإعتقال الشيخ وتم ترحيله إلي سجن طره في القاهره مع أربعة من شباب الدعوة في ذلك الوقت ،،
وقمت بزيارته في سجن طره وكان معي رزق وشريف ،، أخذنا تصريح الزيارة من مكتب النائب العام وذهبنا إلي منطقة سجون طره
وكانت هذه هي المرة الأولي لي التي أذهب إلي مثل هذه الأماكن
ونحن في إنتظارالدخول مكثنا وقتاً في الساحة الكبري أمام باب السجن
وجلست أرقب حركة الدخول والخروج إلي ذلك المكان الذي يحوي حبيبي في داخله ،،
ورأيت شاباً صغيراً ينزل من عربة السجن يبتسم ويحمل مصحفاً في يده والسواك في جيبه وحواليه أمة من العسكر يحملون أسلحتهم ويحيطون بالشاب من كل ناحية فقلت في نفسي
يا تري من يسجن من ؟؟
أحسست أن هذا الفتي الصغير هو الحر وأولئك الجنود هم المساجين !!
دخلنا إلي صالة الزيارة وجاء حجازي مبتسماً مطمئناً جلسنا معه بعض الوقت وحكي لنا كثير مما يحدث داخل السجن والمناقشات التي تتم بينه وبين الشباب الآخر داخل السجن
مثل جماعة التكفير وغيرها من التيارات التي كانت تعج بها السجون في ذلك الوقت ،،
غادرنا السجن وكان قلبي يتفطر عليه ونحن نتركه وحيداً ونمضي ولكن كان العزاء أنه إنما هو في هذا المكان الآن
من أجل الله !!
ومن أجل دعوته المباركة
مكث الشيخ في السجن عدة إشهر خرج بعدها ليواصل دعوته ، ويمضي ليله ونهاره ما بين مدينة ومدينة ومحافظة ومحافظة ،،
وكان معه في ذلك الزمان رفقاء دربه من الدعاة الشيخ محمد حسان والشيخ محمد حسين يعقوب
يجوبون البلاد شرقاً وغرباً يدعون إلي الله علي بصيرة
يدعون الناس إلي الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة
وقد فتح الله لهؤلاء الدعاة الثلاثة القلوب وتعلق الشباب بهم وبدعوتهم وكانوا بحق هم الرعاة الحقيقيون للصحوة الإسلامية السلفية في مصر
لا بل حتي خارج مصر فقد ذاع صيتهم في دول الخليج ودوّل المغرب العربي وأمريكا وإوروبا
وقد سافر الشيخ إلي كل دول الخليج في رحلات دعوية ، وسافر إلي أمريكا كذلك وسافر إلي إوروبا في رحلته العلاجية عام ٢٠١٠ والتي إمتدت قرابة أربعة أشهر ألقي فيها كثير من المحاضرات في بلاد أوروبا.
هذه صفحة من مذكراتي التي كتبتها عن الشيخ المبارك
عليه رحمة الله الواسعة ….