أحلام قديمة
قصة قصيرة بقلم / المهندس أيمن سلامة
تمضى الأيام مسرعةً ،متشابهة الأحداث ،حاملةً معها أحلام الصغار وآجال الكبار ،غيرُ عابئةً بمن تخلف عن الركب وضاع وسط أحداث النسيان . وذات مساء بينما كان مكتب المحامي يعج بمن فيه من الحضور بمختلف مشاكلهم ،حضرت إحدى السيدات وتقدمت إلى السكرتير بطلب مقابلة الأستاذ المحامى لأمر هام ،وبدون موعد مسبق ،ورفضت أن تخبر السكرتير سوى بإسمها المجرد فقط ..مدام أحلام ،و ارتسمت الدهشة والإستغراب على وجه المحامى بعد أن أخطره السكرتير بشأن تلك السيدة ،وحاول جاهداً أن يتذكرها ،وفى النهاية أيقن أن إسمها لا يعنى له شيئا ،لذا أجاب سكرتيره أن يؤخر تلك السيدة حتى ينتهى من عمله .
إنتظرت السيدة عدة ساعات ثقيلة تبعث على القلق ،حتى جلست أمام مكتب المحامي ،الذى بادرها مرحباً بها ومعتذراً عن ساعات الإنتظار لإنشغاله في العمل ،ومتأملاً لمعالم هيئتها لعلّه يتذكر سابق معرفته بها ،حتى ذكَـرْته بِنفسها فهي جارته في الحى سابقاً ،قبل أن يُـغادر المحامي مقرَّ أُسرته ،لينتقل بعد زواجه إلى حي آخر قريب من مقر عمله .
وبعد دقائق من الصمت والمجاملات المعتادة ،بدأت السيدة فى الحديث بـإقتضاب عن مشكلتها ،وقد تباينت الإنفعالات على وجهها الذى مازال يحمل مسحةً من جمال قديم ،برغم أنها على مشارف نهاية العقد الرابع من عمرها ،وهى إبنة لأحدى الأُسر المتوسطة الحال ،وقد توفى والدها ،وهى مازالت طفلة صغيرة ،وبرغم صعوبات الحياة ومسئولياتها ،إستطاعت أمها بمفردها أن تمضى قُدماً بالأسرة ،حتى وصلت الإبنة إلى نهاية التعليم الجامعي ،وإستلمت عملها في إحدى الوظائف الحكومية لعدة سنوات ،ثم توافد عليها الخطاب تباعاً ،و إنتهى بها الأمر بالموافقة على أحد الشباب ذوى القرابة من أُسرتها ،و نظراً لظروف أُسرتها فقد كان الشاب كريماً معها وتحمل كل تكاليف الزواج ،وبعد المشاكل المعتادة التى قد تحدث أحياناً في ترتيبات الزواج ،تم إكتمال الزواج.
،وبعد فترة رزقت بالطفل الأول لها ،وسافر الزوج لتأمين متطلبات الحياة لأسرته ،وأخذته الغربة سنواتٌ عديدة ،طالت مع زيادة تكاليف متطلبات المعيشة للأسرة ،التي زاد عدد الأبناء فيها الى ثلاثة ،و برغم تضحيات الزوج لم يجد شيئا مما تمناه مع زوجته ،ولم تحاول هى ايضاً أن تتوافق مع طباعه الهادئة ،و مع مرور الأيام زادت الفجوة بينهما ،خاصة بعد عودة الزوج من غربته وإستقراره مع أسرته ،و استمر الأمر بينهما كذلك ،حتى وصل إلى ما يُـسمى بالإنـفصال الصامت بين الطرفين .
توفى الزوج مقهوراً على غير المتوقع بعد فترة مرض قصيرة ،وبعد تجاوز الازمة المفاجئة ،عزمت الزوجة على المـضي قُـدماً بأسرتها كما فعلت أمها من قبل ،و ظلت تُـطفئ في داخلها أية رغبة في الإرتـباط من جديد بأي رجل آخر ،و بدأت تتنسم نسمات الحرية من إرتـباط بارد ،لم تبذل جهداً لتدفئته ،وتحاول جاهدةً أن تكسب الصراع النفسى بينها وبين ضميرُها اللائم لها ،لتقصيرها مع زوجها ،و تصرُّ على أنها كانت مجرد ضحية لظروف أُسرتها المادية فى ذلك الوقت.
حتى رأته ذات مساء ،فى مصادفةٍ لم تكن متوقعة ،ولكنها أيقظت بداخلها ذلك الشعور الدفين الذى عاش سنين عمرها بداخلها دون يخرج إلى العلن ،وظلت لأيام طوال.. تفكر هل تصارحه بما تشعر به ،أم تستمر في كتم الأمر عنه ،فهو لسنوات طويلة لم يُـعرها أىُّ إهتمامٍ بأمرها ،وأخذت تسأل عنه في حذر حتى عرفت كل ما تستطيع معرفته عنه ،وهنا تململ المحامي من طول السرد ،وسألها مباشرة ،سيدتي لا أرى مشكلة قانونية في كل ما قلته ،فما دوري أنا في الموضوع ؟،فأجابته أردت ان أستشيرك ،هل أهل زوجي يستطيعوا أن يأخذون منى الأولاد لو أرتبطت بهذا الشخص؟؟.
صمت المحامي ثم أجابها .. بالطبع في هذه الحالة يستطيعون ذلك لو أرادو ،ثم أردف متابعاً حديثه اليها ،هل تسمحين لي أن اسألك ،هل يستحق هذا الرجل هذه التضحية ؟ فأجابته بصوت خافت ،وهى تنظر بعيداً عن وجهه ،نعم لا شك لدىَّ في ذلك ،فعاد المحامي يسأل : سيدتي أريد أن أستوضح منك الأمر ،بحسب ما فهمت لم يكن هناك أي علاقة بينكما طوال سنوات ..أليس كذلك ؟.. إذن فما جدوى مصارحة هذا الرجل الآن بمشاعرك الدفينة تجاهه..؟ ربما لن يهتم بما تقولينه له ،وهذا الأمر قد يؤذى مشاعرك ،أليس من الأفضل ألا نشعل المشاعر الدفينة ،فربما تحترقين بنيرانها بدلاً من دفء وصالها ؟ فردت السيدة وقد علت حمرة الخجل وجهها و أشاحت بناظريها عن وجهه ،صحيح كلامك ،ولكنها مجرد احلام قديمة ،أردت أن أحققها ،حتى و لو للحظات فقط .
ليضع نهاية لهذا اللقاء مع السيدة ،قال المحامي إذن لننتظر حتى تصارحيه وتحددين موقفك معه ،فأجابت السيدة بعد تردد وتلعثم واضح وقد تغيرت نبرات صوتها ،لقد صارحته الآن ،ونظرت اليه وقد أودَعت نظرتَها كل مشاعرها ،ونظر اليها المحامي وقد أدرك أنه الـمَعْنى بكلامها ،وأربكته المفاجأة ،وساد بينهما الصمت للحظات ،قبل أن تنهض السيدة مغادرةً مكتب المحامي.