أراء وقراءات

أمي … وزيرة تخطيط واقتصاد في مملكتها

بقلم / الدكتور أمين رمضان

لم يكن دخل أبي (رحمه الله رحمة واسعة) يكفي مصاريف البيت …

وكان يعطي أمي الراتب … بشرط أن تتوفر له احتياجاته .. وعليها هي أن تدبر كل شؤون البيت .. من الإدارة اليومية .. وهذه لها حكاية مستقلة .. إلي التخطيط العام .. وهذا كان أقصى مدى للتخطيط المادي .. أما التخطيط للمستقبل .. فكانت ترى أن أحسن استثمار هو فينا نحن .. واعتبرت ذلك هو الاستثمار الحقيقي للمستقبل .. باعت من أجله كل ما كانت تملك .. من ذهب وغيره .. وتقول لمن يغريها بالدنيا .. أنا ذهبي أولادي .. ولم يكن ذلك زهدا في الذهب .. فهذا ليس من شيم معظم النساء ..

فكانت تربي الطيور فوق السطح .. لتمدها بالبيض .. واللحم

وما زلت أذكر بعد الفجر مباشرة .. وهي تصعد إلى السطح لتجمع البيض الطازج .. من الدجاج البلدي الغير مهجن .. وتحلب العنزة .. وتعد الإفطار .. وتضع فوق كوب الحليب ملعقة من السمن البلدي .. الذي اشترته من الريف في رحلة سنوية .. ليكون مخزون استراتيجي للبيت لمدة عام ..

كانت تصلي الفجر .. قبل أن تتنقل في نعم الله .. التي زرعتها وربتها في البيت ..

كانت تعد الفطار .. ولا تأكل منه .. بل كانت تقول لنا .. (إللي في بطنكم في بطني) .. وكان هذا ديدنها مع الطعام .. غالباً

لم تشعرنا بجوع .. أو حاجة .. حولت البيت إلى دويلة صغيرة .. تدير شئونها كلها ..

صحيح أن البيت كان في الإسكندرية .. عروس البحر .. حيث تستقبل كل صباح .. ضوء الشمس .. وهمس خرير البحر يطرب أذنيها .. وهي منتشية في حالة من العشق الرباني لسيمفونية تعزفها المخلوقات المختلفة ..

فآذان الديكة .. يتناغم مع آذان المؤذن .. وصوت الدجاج وهو يستقبل يومه الجديد .. بهداياه من البيض .. وصوت حليب الماعز الطازج .. وهو ينساب من أصابع أمي إلى الإناء .. آية من آيات الله (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِّلشَّارِبِينَ النحل (66)

لقد كانت سيمفونية رائعة حقاً .. فيها العرق .. والبركة .. والرضا والإحساس بنعم الله .. وآيات الشكر تترى من فمها .. مع كل نعمة تحصل عليها

كانت هذه هي أذكار الصباح لها .. هل كان ذلك من مبدأ (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ سبأ (13)

أذكار تحولت .. على شفاه الكسالي من المسلمين .. إلي كلمات ميته .. لا علاقة لها بالحياة .. وصناعتها .. تحولت من أذكار متوكلين .. إلي أذكار متواكلين

أذكار أمي صنعت منها بفضل الله وحدة .. إكتفاء ذاتي .. رغم ضعف الميزانية أو الدخل …

أما أذكار اليوم .. أنتجت شعوب غارقة في الديون .. وأسيرة لحاجاتها من أعدائها ..

لم يجد التجار فرصة .. لغزو أمي اقتصاديا .. ولا حتى فكرياً (وهذه لها قصة أخرى بإذن الله) .. فقد أنتجت غذائها وغذاء الأسرة كلها ..

ووجد تجار الدول والشعوب ضالتهم .. في عالم المسلمين .. فاستعمروهم بكل الصور ..

نجحت أمي .. لأنها لم تكن جزءاً من هذا النظام العالمي بأدواته الشرسة، وأذنابه المتوحشة، وأخلاقه المتدنية، وأنيابه التي تمص دماء شعوب بأكملها.

نجحت أمي والبيت ليس به ثلاجة لتحفظ الطعام ولا بوتاجاز لطهوة ..

بل كان فيه إرادة وصبر فلاحة بسيطة تعيش في الإسكندرية .. جسداً .. وفي القرية المصرية .. عقلاً وروحاً وثقافة وجهداً

نقلت الحقل وثقافتة .. لمدينة الشواطئ والملاهي والسينما والمسارح ..

في الصيف يسافر المصريون إلى شوطئها للمتعة ..

وتسافر إمي إلي الريف لتشتري المخزون الاستراتيجي من خيراته .. وخصوصاً .. السمن والجبن القريش والزبدة وغير ذلك

رحمك الله يا أمي .. رحمة واسعة .. فقد أدرتي دولتك .. بلا شهادات .. لأحصل أنا على أعلى الشهادات .. الدكتوراه في العلوم

وعندما حصلت عليها .. وكنت في بريطانيا .. قال لي المشرف .. من هو أكثر شخص سيفرح عندما يعلم بخبر حصولك على الدكتوراه الآن ..

وبلا تردد قلت له أمي .. ولكن لم يكن عندها تليفون .. فلم أتصل بها عبر الأثير .. واتصلت بها عبر القلوب والأرواح .. لأنها لم تكن والدة فقط، بل كانت أم ووالدة في نفس الوقت .. هذه رسالة لمن يعرفن الولادة ولا يعرفن الأمومة

الدكتور أمين رمضان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.