أراء وقراءات

أنس الشريف.. صوت الحقيقة الذي اغتاله الصمت والرصاص

بقلم أيقونة الاتزان / السفير د. أحمد سمير

 

في أرضٍ يختلط فيها صدى الأذان بصوت الانفجارات، ويصبح فيها الصحفي شهيدًا قبل أن يُتمّ تقريره، وُلدت حكاية أنس الشريف الشاب الفلسطيني الذي لم يتجاوز التاسعة والعشرين من عمره، وُلد في مخيم جباليا، حيث يولد النضال مع أنفاس الأطفال الأولى فكان نضاله الكلمة والصورة، وهدفه كشف الحقيقة للعالم وحمل أمانة فضح مجازر الاحتلال الصهيوني، وتوثيق الكوارث الإنسانية التي خلّفها، متحديًا التهديدات التي طالته مرارًا.

المشهد الأخير ورسالة إعتذار

حتى جاء المشهد الأخير، في العاشر من أغسطس 2025، حين صمت صوته وجفّ قلمه، واستُشهد باستهداف مباشر من جيش الاحتلال الإسرائيلي، بينما كان داخل خيمة الصحفيين قرب مستشفى الشفاء في مدينة غزة.

 

لكني بعد أن سمعت خبر استشهاده أمسكتُ قلمي وقررت أن أكتب عنه، وجدت أن الحروف تتقاصر أمام تضحياته كتبتُ الكثير عنه، ثم توقفت أعدت قراءة وصيته الأخيرة التي كتبها في شهر إبريل الماضي، وكأنه كان يستعد لاستقبال هذه اللحظة في أي وقت. مزّقتُ كل ما سطرته يدي، وقررت أن أضع وصيته كما هي، بلا تعديل أو تعليق، لأنها أبلغ من كل ما يمكنني قوله.

أرسل إليك يا أنس، من هنا، اعتذاري وألمي، لأني لا أملك اليوم إلا قلمي، والنوافذ الإعلامية المحدودة التي أطلّ منها، لأناصر القضية التي نذرتَ حياتك لها.

نص وصية الصحفي أنس الشريف رحمه الله

“هذه وصيّتي، ورسالتي الأخيرة إن وصلَتكم كلماتي هذه، فاعلموا أن إسرائيل قد نجحت              في قتلي وإسكات صوتي بداية السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

يعلم الله أنني بذلت كل ما أملك من جهدٍ وقوة لأكون سندا وصوتا لأبناء شعبي، منذ فتحت عيني على الحياة في أزقّة وحارات مخيّم جباليا للاجئين، وكان أملي أن يمدّ الله في عمري حتى أعود مع أهلي وأحبّتي إلى بلدتنا الأصلية عسقلان المحتلة “المجدل” لكن مشيئة الله كانت أسبق، وحكمه نافذ عشتُ الألم بكل تفاصيله، وذُقت الوجع والفقد مرارًا، ورغم ذلك لم أتوانَ يومًا عن نقل الحقيقة كما هي بلا تزوير أو تحريف، عسى أن يكون الله شاهدًا على من سكتوا ومن قبلوا بقتلنا ومن حاصروا أنفاسنا ولم تُحرّك أشلاء أطفالنا ونسائنا في قلوبهم ساكنًا ولم يُوقِفوا المذبحة التي يتعرّض لها شعبنا منذ أكثر من عام ونصف العام.

فلسطين، درةَ تاج المسلمين

أوصيكم بفلسطين، درةَ تاج المسلمين، ونبض قلب كل حر في هذا العالم أوصيكم بأهلها، وبأطفالها المظلومين الصغار الذين لم يُمهلهم العمر ليحلموا ويعيشوا في أمان وسلام، فقد سُحقت أجسادهم الطاهرة بآلاف الأطنان من القنابل والصواريخ الإسرائيلية، فتمزّقت وتبعثرت أشلاؤهم على الجدران.

أوصيكم ألّا تُسْكِتُكم القيود

أوصيكم ألّا تُسكتكم القيود، ولا تُقعدكم الحدود، وكونوا جسورًا نحو تحرير البلاد والعباد، حتى تشرق شمس الكرامة والحرية على بلادنا السليبة أوصيكم بأهلي خيرًا، أوصيكم بقرّة عيني، ابنتي الحبيبة شام، التي لم تسعفني الأيّام لأراها تكبر كما كنت أحلم وأوصيكم بابني الغالي صلاح، الذي تمنيت أن أكون له عونًا ورفيق درب حتى يشتدّ عوده، فيحمل عني الهمّ ويُكمل الرسالة أوصيكم بوالدتي الحبيبة، التي ببركة دعائها وصلتُ لما وصلت إليه، وكانت دعواتها حصني، ونورها طريقي أدعو الله أن يُربط على قلبها ويجزيها عنّي خير الجزاء وأوصيكم كذلك برفيقة العمر، زوجتي الحبيبة أم صلاح بيان، التي فرّقتنا الحرب لأيامٍ وشهور طويلة، لكنها بقيت على العهد، ثابتة كجذع زيتونة لا ينحني، صابرة محتسبة، حملت الأمانة في غيابي بكلّ قوّة وإيمان.

أوصيكم أن تلتفوا حولهم، وأن تكونوا لهم سندًا بعد الله عز وجل إن متُّ، فإنني أموت ثابتا على المبدأ، وأشهد الله أني راضٍ بقضائه، مؤمنٌ بلقائه، ومتيقّن أن ما عند الله خيرٌ وأبقى. اللهم تقبّلني في الشهداء، واغفر لي ما تقدّم من ذنبي وما تأخّر، واجعل دمي نورًا يُضيء درب الحرية لشعبي وأهلي سامحوني إن قصّرت، وادعوا لي بالرحمة، فإني مضيتُ على العهد، ولم أُغيّر ولم أُبدّل      لا تنسوا غزة.. ولا تنسوني من صالح دعائكم بالمغفرة والقبول”.

أنس جمال الشريف

الان رحلت يا أنس، لكن صورك ستظل شاهدة، وكلماتك ستبقى تتردّد في أذهان كل من آمن بحق النضال الفلسطيني، سيبقى اسمك محفورًا إلى جوار كل من واجهوا رصاص الاحتلال، وفضحوا جرائمه للعالم فالموت قد يُسكت الصوت، لكنه لا يقتل الحقيقة وعزاؤنا أن كل من أفنى عمره في النضال من أجل القضية، غاب قبل أن يشهد النصر واستشهد ياسر وسميّة قبل الهجرة واستُشهد حمزة ومصعب قبل الفتح خير دليل على ذلك أمّا نصر الله فهو وعد منه، آتٍ لا محالة وكلّ من استشهد على الطريق فاز، حتى ولو لم يصل..

السفير د. أحمد سمير

عضو هيئة ملهمي ومستشاري الأمم المتحدة

السفير الأممي للشراكة المجتمعية

رئيس مؤسسة الحياة المتزنة العالمية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى