أراء وقراءات

أول نكسة حقيقية للصهيونية

87

” كان الغرور الاسرائيلي الوقح وجنون العظمة مقتلا من مقاتلها ( اسرائيل ) ، ولكن الضربة القاضية إنما أتت من القدرة العربية الذاتية ، المفترى عليها طويلا ، ومن التخطيط والتصميم والارادة العربية ، ونحن لم نسرق نصراً سهلاً هشاً من وراء ظهر العدو وإنما انتزعناه من بين اسنانه وبجدارة واقتدار ” . هكذا وصف الكاتب العبقري والمفكر المصرى الراحل الدكتور جمال حمدان نصر اكتوبر 1973 وحلل اسبابه بصدق وموضوعية في كتابه القيم (6 أكتوبر في الاستراتيجية العالمية ) الذي أصدر طبعته الاولى عام 1974 .
وبمناسبة الذكرى الـ 42 لهذا النصر العظيم ، أردت ان استعرض للقراء الكرام رؤية هذا المفكر العبقري لحرب اكتوبر خاصة وانها تتميز بالعمق والشمول . وقد حدد معلم هذه الرؤية في مقدمة الكتاب قائلا : ” هذه الدراسة عبارة عن عرض منهجى علمى (لا اعلامى) ومسح عام في حدود الممكن لتلك المعركة المجيدة لا يضعها هى وحدها فقط في البؤرة وتحت المجهر وإنما كذلك يضع الصراع المصيرى كله في اطارها ، فالمطلوب ليس تحليل المعركة فقط وأنما نسجها في شبكة الصراع كله ” .
والكتاب يعتبر تقييم شامل للمعركة الوطنية العظمى التى دارت رحاها على أرض سيناء والجولان، بكل أبعادها وفي أوسع أُطرها ابتداء من تطوراتها الموضعية الميدانية إلى موقعها في الاستراتيجية العالمية ، مرورا بكل أصدائها واشعاعاتها وانعكاساتها العسكرية والسياسية وكذلك نتائجها واحتمالاتها الجيواستراتيجية والجيوبولوتيكية.
فقد حدد الدكتور حمدان المحور الرئيسي للنصر في :” ضبط توقيت الضربات والتحركات من جانب جميع أسلحتنا وقواتنا فى ترتيب مسلسل بحيث يتزامن بعضها أو يتعاقب بعضها فى جدول زمني محسوب ، يمهد لبعضها البعض لكى يتم فى ظلها وبمساعدتها وتحت غطائها ، ثم يسلم هو بدوره المهمة لغيره وهكذا ، ومن هنا سنلاحظ تزامن عدة عمليات فى ثنائيات كالتوائم السيامية الملتصقة أبرزها ثلاث : الطيران مع المدفعية ، المشاة مع المهندسين ، المدرعات مع المشاة الميكانيكية” .
وشخص ببراعة ثنائية الصراع بقوله :” لقد كانت ملحمة اكتساح خط بارليف فى جوهرها صراعاً بين الشجاعة والمناعة ، شجاعة المقاتل البحتة ومناعة الأبراج المشيدة ، مثلما كانت مواجهة بين فلسفة الخطوط الزاحفة المتحركة ونظرية الخطوط المحصنة الثابتة وفى الحالين تغلبت الأولى على الثانية : تغلبت الإرادة على الأرض والإنسان على السلاح ، وأصحاب الأرض على الغاصبين ” .
وقارن حمدان بمهارة بين الموقفين العربي والاسرائيلي خلال حربي يونيو 1967 واكتوبر 1973 قائلا :” لقد أراد العدو ان تكون المعركة الرابعة نسخة مكررة من معركة يونيو فجعلتها اليد العربية الجديدة ، العليا والطولى ، نسخة معكوسة منها ، لقد إستوعبنا نحن درس يونيو وتجربته المريرة وتركنا للعدو يمارس بهلوانياته الدعائية فى المباهاة والتفاخر وعبادة الذات ، وأن يجتر نرجسيته علناً ، فكان حتماً وحقاً أن يدفع ثمن النصر الرخيص الذي سرقه فى غفلة من زمن”.
وأوضح تأثيرات نصر اكتوبر على كافة الاصعدة قائلا : “على المستوى الوطنى: تلاحمت خيوط القاعدة والقيادة ،الشعب والجيش، الجبهة الداخلية والميدانية. وعلى المستوى القومى: أنطلقت الامة العربية بأسرها في مد قومى طاغ اذهل العرب أنفسهم .على المستوى العالمى: كشفت الحرب عن مفاجأة مذهلة الا وهى أن العرب اقوى مما كان يظن العالم ” .
وخلص الكتاب الى أن حرب أكتوبر أول نكسة وهزيمة حقيقية للصهيونية منذ بداية القرن كفكرة وتجسيم حيث وضعت الضربة العربية فلسفة الأمن الإسرائيلي في مأزق خطير . ورغم ذلك دفعته الموضوعية للاعتراف بأن الرحلة أمام التحرير العربي والإسترداد المقدس، مازالت طويلة ومريرة، وشاقة، وإذا كان أكتوبر هو مجرد الخطوة الأولي في رحلة الألف ميل، فأن روح السادس من أكتوبر قد قضت مرة واحدة وإلى الأبد بعودة الروح العربية، وفتحت في النهاية باب الأمل وطريق العودة.
تلك الروح التي خطط الاعداء بمساعدة عملائهم العرب على تدميرها بعد ساعات من وقف القتال . وبدأت نتائج مخططاتهم تتحقق على الارض، ووقائع القتل والتدمير في المنطقة الذي بدأعام 2011 الى لان تشهد بذلك.
وجاءت التحليلات الموضوعية التي وردت في كل سطر من صفحات الكتاب الـ 450 صفحة تجسيدا لقناعات الدكتور جمال حمدان لدور الكاتب والمفكر الوطني ، والذي وصفه في مقدمة الجزء الأول من موسوعته ( شخصية مصر ) بقوله : “الحقيقة أن ابن مصر البار الغيور على أمه الكبرى إنما هو وحده الذي- لصالحها – ينقدها بقوة وبقسوة إذا لزم الأمر وبلا مداراة أو مداورة. فصديقك من صدقك لا من صدقك ..ومن يك حازما فليقس أحيانا على من يرحم. بل أن هذا الكاتب ليؤمن إيمانا مطلقا بأن مصر لن تتغير ولن تتطور أو تخرج من حمأتها التاريخية الراهنة إلا حين يأتيها المفكر والحاكم الصادق كلاهما مع نفسه والجريء مع جمهوره فيواجهه علنا بعيوبه بلا وجل ولا دجل”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.