إدمان التشتت الرقمي واستلاب العقل البشري
بقلم / مدحت سالم
إدمان التشتت الرقمي هو أحد التحديات الكبرى التي تواجه الإنسان في العصر الحديث حيث باتت العقول البشرية أسيرة للشاشات والأجهزة الذكية التي تُهيمن على تفاصيل حياتنا اليومية وتتحكم في طريقة تفاعلنا مع العالم من حولنا يشير هذا المفهوم إلى ( حالة من الاعتماد المفرط على التكنولوجيا الرقمية وما يصاحبها من تشتت الانتباه وفقدان القدرة على التركيز العميق نتيجة التعرض المستمر لتدفق المعلومات والإشعارات السريعة من خلال الهواتف الذكية وشبكات التواصل الاجتماعي ) في هذا المقال نتناول هذه الظاهرة من مختلف الجوانب العلمية والاجتماعية والنفسية من خلال تحليل أسبابها وآثارها على الفرد والمجتمع وتقديم مقترحات للعلاج والاستفادة من رؤى مؤلفات مثل ( كتاب إدمان التشتت في العصر الرقمي للكاتب أليكس سويوينج كيم يانج ) وكتاب ( حضارة السمكة الحمراء للكاتب برونو باتينو )
تُعرَّف ظاهرة إدمان التشتت الرقمي على أنها (( حالة من الانشغال المستمر بالمحتوى الرقمي الذي يصعب على الفرد مقاومته مما يؤدي إلى تدهور قدرته على التركيز والإنتاجية )) ترتبط هذه الظاهرة ارتباطًا وثيقًا بما يُعرف باقتصاد الانتباه Attention economy وهو نموذج تجاري تتبناه شركات التكنولوجيا الكبرى لاستغلال انتباه المستخدمين وتحويله إلى مصدر للربح تقوم هذه الشركات بتطوير تطبيقات ومنصات تعتمد على خوارزميات معقدة مصممة لجذب المستخدمين وإبقائهم مرتبطين بالشاشات لأطول فترة ممكنة مما يؤدي إلى تحفيز الدماغ على البحث المستمر عن المكافآت اللحظية التي تقدمها إشعارات الإعجاب والمشاركات والرسائل السريعة
أسباب إدمان التشتت الرقمي
**من أبرز أسباب إدمان التشتت الرقمي
١- تصميم التطبيقات الرقمية نفسها حيث تعتمد على عناصر الإدمان النفسي مثل تقديم مكافآت صغيرة ومتكررة تجعل المستخدم يشعر بالرضا المؤقت وتدفعه للاستمرار في التفاعل مع المنصة هذه التصاميم مستوحاة من ( علم النفس السلوكي ) حيث تُشبه تأثيرها تأثير آلات القمار التي تدفع الأفراد إلى البحث المستمر عن الفوز حتى وإن كان وهميًا
٢- ومن بين الأسباب الأخرى ضعف قدرة الأفراد على مقاومة الإغراء الرقمي نظرًا لغياب الوعي بكيفية تأثير هذه الأدوات على حياتهم بالإضافة إلى الاعتماد المتزايد على التكنولوجيا لأداء المهام اليومية مما يجعل من الصعب على الفرد الفصل بين العالم الواقعي والعالم الافتراضي
الأضرار النفسية والاجتماعية والعقلية
***أضرار إدمان التشتت الرقمي متعددة ومتنوعة وتشمل الجوانب النفسية والاجتماعية والعقلية :-
١- على المستوى النفسي يؤدي التشتت الرقمي إلى انخفاض القدرة على التركيز لفترات طويلة مما يؤثر سلبًا على أداء المهام اليومية والعملية كما يتسبب في تجزئة الأفكار وفقدان العمق في التفكير حيث يصبح الفرد غير قادر على التحليل أو التعمق في الموضوعات بشكل كامل
٢- وعلى المستوى الاجتماعي يعزز الإدمان الرقمي العزلة الاجتماعية ويضعف جودة العلاقات الإنسانية حيث يعتمد الأفراد على التفاعل الافتراضي بدلاً من التواصل المباشر مما يؤدي إلى فقدان الروابط العاطفية العميقة
*تناول الكاتب برونو باتينو في كتابه حضارة السمكة الحمراء هذه الظاهرة بشكل رمزي حيث اختار السمكة الحمراء أو ما يُعرف بالسمكة الذهبية لتكون استعارة معبرة عن حالة الإنسان في العصر الرقمي تُعرف السمكة الحمراء بذاكرتها القصيرة جدًا التي لا تتجاوز ٩ ثوانٍ ما يجعلها غير قادرة على إدراك أنها تعيد المرور بالمكان نفسه مرارًا وتكرارًا استغل الكاتب هذا التشبيه ليوضح كيف أصبح الإنسان المعاصر يتنقل بسرعة بين المحتويات الرقمية دون قدرة على التذكر أو التحليل العميق مما يجعله عالقًا في دورة تكرارية لا تنتهي
* في كتاب إدمان التشتت في العصر الرقمي يسلط أليكس سويوينج كيم يانج الضوء على تأثير التكنولوجيا على الدماغ البشري موضحًا أن التدفق المستمر للإشعارات والمحتوى اللحظي يعيد برمجة الدماغ بحيث يصبح أقل قدرة على التركيز وأكثر اعتمادًا على التحفيز اللحظي يشير الكاتب إلى أن هذه الحالة ليست مجرد ظاهرة اجتماعية بل هي نتيجة تفاعل ( بيولوجي ونفسي ) *حيث يتم تحفيز إفراز الدوبامين عند كل إشعار أو مكافأة رقمية مما يؤدي إلى حالة من الإدمان النفسي على التكنولوجيا
الوعي الرقمي
على الرغم من خطورة هذه الظاهرة إلا أن هناك استراتيجيات فعالة يمكن اتباعها للحد من آثارها واستعادة السيطرة على الحياة الرقمية من بين هذه الاستراتيجيات ممارسة الوعي الرقمي من خلال تحديد أوقات محددة لاستخدام الأجهزة الذكية وتقليل التعرض للمحتوى الرقمي غير الضروري كما ينصح بالعودة إلى ممارسة الأنشطة التي تعزز التركيز العميق مثل القراءة الطويلة والتأمل كما يمكن للمؤسسات التعليمية والمجتمعية أن تلعب دورًا محوريًا في نشر التوعية حول مخاطر الإدمان الرقمي وتدريب الأفراد على مهارات إدارة الوقت والانتباه
* يؤكد الكتابان على أهمية إدراك أن التكنولوجيا رغم منافعها الكبيرة لا ينبغي أن تتحول إلى قيد يُكبِّل إرادة الإنسان بل يجب أن تبقى أداة في خدمة الإنسان لا العكس كما يدعو الكاتبان إلى أهمية أن تتحمل شركات التكنولوجيا (( مسؤولية أخلاقية )) تجاه تأثير منتجاتها على الصحة النفسية والعقلية للمستخدمين وأن يتم تطوير تشريعات تنظم كيفية تصميم هذه المنتجات بما يضمن حماية المستخدمين من الإدمان الرقمي
إدمان التشتت الرقمي هو معضلة العصر التي تهدد بتآكل القدرات الإنسانية الأساسية من تفكير عميق وتركيز وتواصل حقيقي ولذا فإن مواجهته تتطلب تكاتف الجهود بين الأفراد والمؤسسات والمجتمعات للحفاظ على إنسانيتنا في عالم يزداد رقمنة يومًا بعد يوم.
مظاهر الإدمان الرقمي
ومن أبرز مظاهر هذا الإدمان هو تراجع الاهتمام بالأنشطة التقليدية التي تتطلب تركيزًا عميقًا مثل القراءة والكتابة والتأمل حيث أصبح من الصعب على الأفراد البقاء بعيدين عن أجهزتهم الذكية لفترات طويلة دون الشعور بالقلق أو الحاجة المُلِحَّة للعودة إليها لمتابعة الإشعارات أو التحقق من آخر المستجدات يعاني الكثيرون اليوم مما يُعرف بقلق الفقد الرقمي وهو الشعور بالخوف من تفويت معلومة أو حدث جديد أثناء عدم التواجد على الإنترنت وهذا القلق يعزز الإدمان الرقمي ويجعل من الصعب التحرر منه
حلول عملية
رغم خطورة هذه الظاهرة إلا أن هناك حلولًا عملية يمكن تبنيها للحد من آثارها السلبية واستعادة السيطرة على الانتباه البشري ومن أبرز هذه الحلول هو تبني ما يُعرف (( بالوعي الرقمي ))وهو مفهوم يركز على إعادة بناء العلاقة مع التكنولوجيا بشكل متوازن يبدأ ذلك من خلال وضع حدود زمنية لاستخدام الأجهزة الذكية مثل تخصيص ساعات معينة لتصفح وسائل التواصل الاجتماعي أو التحقق من البريد الإلكتروني كما ينصح الخبراء بخلق (( مساحات خالية من التكنولوجيا ))مثل غرفة النوم أو أماكن التجمع العائلي لتشجيع التفاعل المباشر بعيدًا عن الشاشات
**تشير الأبحاث إلى أهمية العودة إلى ممارسة أنشطة تقليدية تعزز التركيز العميق مثل القراءة الطويلة أو الكتابة بخط اليد أو حتى ممارسة التأمل والاسترخاء حيث تساعد هذه الأنشطة في إعادة برمجة الدماغ لاستعادة قدرته على التفكير الطويل المدى كما يمكن أن تسهم برامج التدريب على إدارة الوقت والانتباه في تعزيز قدرة الأفراد على التحكم في استخدام التكنولوجيا بشكل أكثر وعيًا وفعالية
ومع ذلك فإن الحلول الفردية وحدها ليست كافية لمواجهة هذه الظاهرة التي أصبحت مشكلة اجتماعية واسعة النطاق ولذلك فإن دور الحكومات والمؤسسات أمر بالغ الأهمية حيث يجب فرض تشريعات تلزم شركات التكنولوجيا بتبني (( ممارسات تصميم أخلاقية تراعي صحة المستخدمين النفسية والعقلية)) كما ينبغي تطوير برامج توعية مجتمعية تشرح مخاطر التشتت الرقمي وتقدم استراتيجيات عملية لمواجهته
في نهاية المطاف فإن مواجهة إدمان التشتت الرقمي ليست مجرد معركة فردية بل هي معركة جماعية تسعى لحماية العقل البشري من الانهيار في عصر الهيمنة الرقمية يتطلب ذلك وعيًا جماعيًا وتكاتفًا بين الأفراد والمؤسسات والحكومات لاستعادة التوازن في علاقتنا مع التكنولوجيا والحفاظ على جوهر الإنسانية الذي يكمن في القدرة على التفكير العميق والتواصل الحقيقي.
مدحت سالم
كاتب وباحث