ابن رشد.. فلسفة العقل والضمير
بقلم / حاتم السروي
يعرف بعض الناس بل وبعض المحسوبين على النخبة قصة الفيلسوف ابن رشد من خلال فيلم (المصير) . وهو لمن أراد الحقيقة لم يذكر كثيراً من القصة الفعلية ولم يلم بالظروف والملابسات التي أحاطت بمحنة الفيلسوف وأدت إليها .كما أن بعض المشاهد والتفاصيل التي أدرجها الفيلم لم تقع أصلاً !.. وبين يديكم ملخصاً لهذه القصة المثيرة التي تبين شراسة المعركة بين أهل الفكر والضمير الذين أخذوا على عاتقهم أن يصلوا إلى الحقيقة على قدر المستطاع وبين أصحاب المصالح وبعض الجامدين وكارهي الفلسفة الذين هم كارهو العقل في الحقيقة.
وابن رشد لمن لا يعرفه – وللأسف هناك من لا يعرفه- هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد فيلسوف وطبيب وفقيه وقاضي وفلكي وفيزيائي .ولد في قرطبة سنة 520هـ وكان أبوه قاضياً لها وكذا جده من قبل. فدرس الفقه بحكم البيئة التي نشأ فيها حتى برع فيه وأصبح من كبار أئمة المذهب المالكي ثم أصبح قاضياً لقرطبة، وإلى ذلك درس علوم الفلسفة حتى صار علماً يشار إليه فيها وجمع بين الحكمة والشريعة ليفحم بأسلوبٍ عملي كل من زعم أنهما خصمان لا يجتمع أحدهما بالآخر.
في ذلك العصر حكم الأندلس آنذاك (أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن) وكان ملكاً عظيماً ذو عقلٍ راجح وهمةٍ عالية وعُرِف عنه حب الفلسفة وعلومها، وكان الفيلسوف (ابن طفيل) طبيبه الخاص، وقد ذكر أمامه ذات مرة أنه بحاجةٍ إلى فيلسوف يشرح كتب أرسطو فدلَّه ابن طفيل على ابن رشد والذي بدوره شرح الكتب وأوضح غوامضها وخاض بحراً وقف الحكماء بساحله وكان آيةً في الذكاء والفهم، فسُرَّ به الملك وقربه منه وأعلى مكانته واتخذه طبيباً بعد موت ابن طفيل ثم عينه قاضياً للقضاة في قرطبة.
ثم توفي أبو يعقوب وتولى بعده ابنه الملقب بالمنصور وجرى على سنة أبيه في تقدير ابن رشد واحترام الفلسفة لكن حاشيته ضمت بعضاً من الفقهاء والمحدثين الذين عرفوا بعدائهم ونقمتهم على ابن رشد ونظرائه من الفلاسفة، وقد ساعدهم في الوقيعة بين الحاكم وابن رشد أنه كان يخاطب الملك مخاطبة الند للند فلم يكن يحسن التملق والمداهنة ولم يعرف لسانه عبارات المديح الزائف التي اعتادها الملوك، وكان ابن رشد إذا حضر مجلس الملك وتكلم في موضوعٍ ما يقول: (يا أخي) ولا يقول: (يا مولاي)، ومن ذلك أيضاً أنه ألف كتاباً عن الحيوان وذكر فيه (الزرافة) ثم قال :”وقد رأيت زرافةً عند ملك البربر” يقصد المنصور؛ فغِيظَ الملك من ذكره مجرداً بلا ألقاب وتسميته بـ (ملك البربر) وكان يرى الأولى أن يذكره ابن رشد بصيغةٍ فيها ثناء عليه واحترام له فأرسل في طلبه ويقال أن ابن رشد شراءً لخاطر الملك ذكر أنه قال: (ملك البرين) فغلط القارئ وجعلها ملك البربر!!، والحق أن فيلسوفنا جرى في ذلك على طريقة العلماء في الإخبار عن الملوك وأسمائهم كما هي بلا ألقابٍ فخمة أو مديحٍ أجوف.
لكن المنصور ضاق صدره بالفلاسفة وتغير مزاجه نحو ابن رشد وانتهز المتعصبون الفرصة وكادوا له عند الملك فاتهموه بالشرك وأنه يعبد الكواكب! وقدموا بين يدي دعواهم عبارة كتبها ابن رشد حكايةً عن بعض قدماء الفلاسفة وهي قولهم :” فقد ظهر أن الزُّهرة أحد الآلهة”؛ فعقد المنصور من فوره مجلساً بالجامع الأعظم في قرطبة لمحاكمة ابن رشد وحضره القاضي (أبو عبد الله بن مروان) والخطيب (أبو علي بن حجاج) ثم أُحضر ابن رشد ومعه تلاميذه وبعض المشتغلين بالفلسفة، وقام (أبو عبد الله بن مروان) القاضي يخطب في أضرار الفلسفة وتحريم الاشتغال بها!، ثم قام الخطيب (أبو علي) فكفر ابن رشد وأصحابه وطلب معاقبتهم!.
ثم قال المنصور لابن رشد بعد أن أطلعه على العبارة موضع الإشكال : ” أخطك هذا؟ ” فأنكر ابن رشد؛ فقال المنصور:” لعن الله كاتب هذا الخط” وأمر أهل المجلس بلعنه ثم أُخرج ابن رشد بطريقةٍ مهينة وحُكِمَ عليه بالنفي إلى (أليسانه) وهي بلدةٌ بالقرب من قرطبة وسكانها من اليهود، وكذلك نُفِيَ أصحابه وتفرقوا في البلاد، ثم أمر الملك بإحراق كتب الفلسفة إلا ما كان منها في الطب والحساب وما إليهما من العلوم النافعة على حد وصفه..
لكن محنة ابن رشد رغم ذلك لم تطل كثيراً فقد انتقل المنصور إلى (مُرَّاكِش) وبَعُدَ عن خصوم ابن رشد ولم يجد في مُرَّاكِش ما وجده بينهم في قرطبة فأعاد التحقيق فيما نُسب إلى ابن رشد من كفرٍ وإلحاد وشهد عنده جماعةٌ من أعيان مدينة (أشبيلية) بأن ابن رشد برئٌ مما نُسب إليه فأبطل حكمه على ابن رشد بالنفي واستدعاه لمراكش فقربه وكرمه ورضي عنه وعن أصحابه..
ما يستحق الذكر في هذا الموضوع هو أن أصل المشكلة ليست في بعد ابن رشد عن الدين أو في قربه منه ولكن في بغضه لفقهاء المصلحة، علماء الدين الذين جعلوه سبيلًا إلى المنفعة، والذين لم يرُق لهم أن يظهر في دنيا الناس رجل لا يقول رأيًا إلا وفق ما يهديه عقله ويدفعه إليه ضميره، فقد كان ابن رشد يحب العلم للعلم، وهو الذي لم يترك القراءة والدرس إلا في ليلتين، ليلة عرسه وليلة وفاة أبيه، وكان كثير التهكم والسخرية من الفقهاء ويتمثل بقول الشاعر:
أهل الرياء لبستمُ ناموسكم.. كالذئب أدلَجَ في الظلام العاتِمِ
فملكتم الدنيا بمذهب مالكٍ.. وقسمتم الأموال بابن القاسمِ
ونختم بعبارات للمرحوم الدكتور/عبد المتعال الصعيدي العالم الأزهري المستنير في كتابه (القضايا الكبرى في الإسلام) حيث قال:” والحق أن هؤلاء الفلاسفة قومٌ يؤمنون بالله ورسوله ويجب أن يشملهم اسم الإسلام، وهم بعد ذلك بشرٌ يصيبون ويخطئون، وهم أصحاب عقول كبيرة ولهم في العلوم مذاهب لها قيمتها وشأنها ولها دلالتها على أنهم كانوا يجتهدون في الوصول إلى الحقيقة بقدر وسعهم والمجتهد إن أصاب فهو مأجور وإن أخطأ فهو معذور، وقد كان الحكم على ابن رشد بالنفي إلى (أليسانه) قائماً على التزوير والتعنت وقد أنكر ما نسبوه إليه وأنكر أن الخط خطه ومثله لا يُكَذَّب في إنكار ذلك وقد كان شيخاً جاوز السبعين وله مقامه ومنصبه ومنزلته بين الناس..على أنه لو صح أنه خطه لما كان عليه منه شيء لأنه ينقل ذلك عن صاحب التلخيص الفلسفي من القدماء وناقل الكفر ليس بكافر، ولست أدري لم حاولوا أن يأخذوه بذلك التزوير؟ ولم تركوا أخذه بقوله أشياءً عدها الغزالي كفراً في كتابه (تهافت الفلاسفة) وقد ألف ابن رشد كتاباً في الرد عليه سماه (تهافت التهافت) أنكر عليه فيه تكفير الفلاسفة وذكر أنه جنى على العلم بكتابه..ولعلهم رأوا أن مثل هذا لا يكفي لإثارة غضب المنصور فزوروا عليه ذلك التزوير السابق وهو تزويرٌ فاضح يدل على أنهم لم تبعثهم الغيرة على الدين وإنما بعثهم الحقد والحسد؛ فبرأه الله مما زوروه عليه، وحفظ له كرامته في حياته وبعد موته”…رحم الله الدكتور، عبد المتعال الصعيدي، قائل هذه العبارات الرائعة ورحم ابن رشد ورحمنا أيضًا.