الأسرة الرقمية… حين تتكلم الشاشات ويصمت البشر

بقلم / الدكتورة هناء خليفة
لم تعد الأسرة اليوم تجتمع حول مائدة واحدة بقدر ما يجتمع كل فرد مع شاشه هاتفه، يجلس الجميع في المكان نفسه، لكن المشهد مُربك… كل فرد غارق في عالم صغير لا يراه الآخرون. أصوات الإشعارات تعلو… بينما أصوات البشر تنخفض. هكذا تتشكل الأسرة الرقمية التي دخلت عصرًا جديدًا من التواصل، لكنه تواصل بلا حرارة، وبلا ملامح، وبلا روح.
*العزلة داخل البيت… حين يصبح القرب مجرد صورة
في الماضي، كان غياب أحد أفراد الأسرة يعني خروجًا فعليًا من البيت؛ أما اليوم فالغائبون حاضرون بأجسادهم، وغائبون بعقولهم. يجلس الأب بين أولاده لكنه يفتقد وجودهم الحقيقي. وتشاهد الأم أبناءها أمامها لكنها لا تستطيع الوصول إليهم. كأن الهواتف أقامت جدارًا صامتًا يفصل أفراد الأسرة عن بعضهم البعض.
الأسرة الرقمية ليست أسرة مفككة، لكنها أسرة تعيش تحت نفس السقف دون أن تتشارك اللحظة نفسها.
*من التواصل إلى الاستهلاك… رحلة فقدت معناها
لم يعد استخدام السوشيال ميديا مجرد وسيلة للتفاعل، بل تحوّل إلى نمط حياة يستهلك الوقت والمشاعر والانتباه. أصبح الأبناء يتعلمون قيمهم من “الترند”، ويقيسون نجاحهم بعدد المتابعين، ويستمدون ثقتهم من تعليقات لا يعرفون أصحابها. أما الآباء، فانشغل كثير منهم بمتابعة أخبار لا تنتهي، وفيديوهات لا تتوقف، ورسائل عمل بلا حدود.
*الحوار الضائع… والبحث عن صوت الإنسان
في ظل هذا التشويش الرقمي، ضاع أهم ما يميّز الأسرة: وهو الحوار… الكلمات التي كانت تبني الودّ وتُصلح الخلافات وتزرع الثقة… أصبحت أحاديث مختصرة وعابرة. الأبناء لا يتحدثون عن مخاوفهم لأنهم اعتادوا أن يكتبوا بدلاً من أن يتكلموا، والآباء لم يعودوا يروون خبراتهم لأنهم يفترضون أن “جوجل يعرف كل شيء”.
لكن الحقيقة أن المعرفة الرقمية لا تعوّض دفء العلاقات، ولا تستطيع أي تقنية أن تمنح الابن الأمان الذي يمنحه صوت أمه، أو تمنح الفتاة حكمة أبيها، أو تمنح البيت روحه الطبيعية.
*جيل يعيش في عالم موازٍ… فكيف نعيده إلينا؟
الأسرة الرقمية ليست مشكلة، لكنها نتيجة… نتيجة لسرعة العالم، وضغط العمل، وانفجار التكنولوجيا، وغياب الوعي بكيفية استخدام الأدوات التي دخلت بيوتنا دون استئذان.
لكن إنقاذ الوضع ليس مستحيلًا، لن تحتاج الأسرة إلى ثورة… بل إلى خطوات بسيطة:
▪️تحديد “ساعات بلا هواتف” داخل البيت.
▪️إحياء طقوس الأسرة: الغداء، القهوة، الخروجات المشتركة.
▪️تعليم الأبناء إدارة وقتهم وليس التحايل على الوقت.
▪️استبدال جزء من العالم الافتراضي بـ جلسة إنسانية حقيقية.
*هل نسمع بعضنا من جديد؟
الأسرة الرقمية حقيقة واقع، لكن يمكنها أن تكون أسرة أكثر وعيًا، لا أسرة أكثر تفككًا. التكنولوجيا لن تختفي، ولن تعود الأيام القديمة، لكن يمكننا أن نعيد صوت الإنسان وسط ضجيج الشاشات.
فالأصوات الرقمية مهما علا صداها… لا تثبت في القلب كما تثبت كلمة من أم، أو نصيحة من أب، أو ضحكة حقيقية تجمع الجميع.
فهل نتكلم من جديد… قبل أن يصمت البشر تمامًا؟




