تحدثت في مقالة سابقة عن جريمة “التحرش العقلي”، وأتحدث الآن عن “الإثراء العقلي”، واضح من العنوان أنه عكس “التحرش العقلي”، فهو تنمية خلايا الدماغ، بمعنى زيادة تشعباتها، وشبكاتها العصبية، تماماً مثلما يرعى الإنسان النبتة الصغيرة، فيزداد حجمها وتزداد تشعبات جذورها في الأرض، فتكون وفيرة وطيبة الثمار، كذلك العقل عندما يتم بناءه أو إثراءه يكون أكثر قدرة على التفكير.
رأيت بعيني نتائج إثراء الدماغ على أرض الواقع، عندما عملت مع الدكتور باسل في مشروع بحثي علمي مشترك، بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن تحت عنوان “دور التعليم الجامعي والمدرسي في زراعة الإبداع – ثقة الطالب في قدرته على الاختراع” عام ٢٠٠٦م، أجرينا فيه دراسة مقارنة بين طلاب من المرحلة الابتدائية في مدرسته التي يشرف عليها وطلاب الجامعة لنعرف من منهما أكثر دافعية وثقة في نفسه تجاه اختراع أشياء جديدة، وكانت المفاجأة أن طلاب المرحلة الابتدائية أكثر ثقة في أنفسهم لاختراع شيء جديد من طلاب الجامعة.
نشرنا هذه الدراسة في بحث مشترك مع آخرين، وقدمته في المؤتمر العالمي لتعليم الإبداع في تايوان عام ٢٠٠٨م، كان الهدف الرئيس من هذا المؤتمر هو “تمكين المدارس من زراعة الإبداع في عقول طلابها”، وزرت أثناء المؤتمر مدرسة ابتدائية لفت نظري اسمها “مدرسة المستقبل”، والتقيت بمديرة المدرسة وبعض المسؤولين عن العملية التعليمية بها، أحسست ساعتها أن عناوين البرامج التي تنتشر في أوطاننا مثل “رعاية الموهوبين” و “اكتشاف الموهوبين” و “تكريم الموهوبين” لم تضعنا أمام مسؤوليتنا وهي “صناعة الإبداع”، بل هي في حقيقتها عناوين خادعة، لأن التعليم في بلادنا حتى الآن لم يحل المشاكل اليومية التي يعيشها المجتمع.
توقفت أيضاً عند مقالة بعنوان “برنامج إثرائي للطلبة الإسرائيليين الموهوبين”، نشرت عام ١٩٩١م، بدأت هذا المشروع إيريكا لاندو Erika Landau عام ١٩٦٨ ثم تحول مشروعها إلى معهد عام ١٩٧٠، بدأ هذا المشروع بمائة طفل، وقبل نهاية العام وصل إلى ٣٠٠ طفل، أما عام ١٩٨٦ فقد تخرج من المعهد ٢٦٠٠ طفل موهوب منهم ٨٠٠ طفل من سكان الأحياء الفقيرة جداً جنوب تل أبيب، كل ذلك من خلال برنامج لمدة ساعتين يوميا، بعد الانتهاء من مدارسهم العادية، ويستمر فترات طويلة، في هذا البرنامج يختار الطلاب المناهج التي يحبوا أن يتعلموها.
من يتابع ملخص أخبار التلفزيون الإسرائيلي الآن، سيجد يومياً عرض لاختراع أو مشروع جديد على أعلى مستوى من تكنولوجيا العصر، ومعظم المخترعون والباحثون شباب من الجنسين، وهذا طبيعي حين تعرف أن ميزانية التعليم في إسرائيل أربعة أضعاف ميزانيات التعليم للدول العربية مجتمعة، هم يصنعون المستقبل ونحن ندمره بأيدينا، ولعل هذه الفجوة الخطيرة بيننا وبينهم هي التي دعت كاتب كبير مثل الأستاذ فهمي هويدي ينشر مقالة منذ سنوات يدعوا فيها للجهاد العلمي.
وهكذا عشت واقع يتم فيه إثراء دماغ الطلاب في مشروع رأيته، وقرأت عن مشروع لصناعة الموهبة لم أره، وهناك آلاف المشاريع في العالم الآن، يتسابق فيها الجميع لصناعة أجيال تستطيع حل المشاكل المعقدة بطرق إبداعية.
وبكل أسف عندما رأيت الرصاص على شاشات التلفاز يفجر عقول طلاب صغار، أدركت أننا انتقلنا إلى دركات أبشع من التحرش العقلي، انتقلنا إلى التدمير العقلي، بل أكثر من ذلك، فقد كان الرصاص في نفس الوقت يغتال مستقبل وطن وحلم أجيال قادمة، ويقدم كل ذلك فريسة سهلة للأعداء الذين يبنون عقول أجيالهم وتمتد أطماعهم إلى أبعد ما تصل إليه أسلحتهم وخيالهم.