أراء وقراءاتالعالمشئون عربية

الإمبراطور يصارع الشعب: تأملات بقلم د. أمين رمضان

بقايا حلبة المصارعة الرومانية
بقايا حلبة المصارعة الرومانية

 

أصرت آلة الزمن على أن تأخذني مرة أخرى في رحلة جديدة للقرن الثاني الميلادي، وبالتحديد إلى روما، إلى حلبة المصارعة الشهيرة بها، لأشاهد مفاجأة لم تخطر لي على بال، مشهد مهيب يحدث لأول مرة في تاريخ الإمبراطورية الرومانية، حيث الملأ من الشعب محتشد في مدرجات الحلبة الدائرية، والأصوات والصراخ يهز كل جنبات الحلبة وخارجها، وأعضاء مجلس الشيوخ الروماني بالكامل يحضرون هذا الحدث الجلل، رغم عدم رضاهم عنه، ثم يتوالى خروج المصارعين، وسط زئير الجماهير، الواحد تلو الآخر، كأنهم ثيران هائجة لا تعرف إلا القتل، كيف لا والحكم الصادر عليهم جميعاً هو الإعدام. ثم فجأة توقفت أنفاس الجميع في اللحظة التي خرج فيها المصارع الذي لم يتوقع أحد أن يكون داخل الحلبة، ناهيك أن يكون شاهراً سيفه ومستعداً للموت، بمجرد دخوله، وقفت الجماهير كلها وهي تزأر وتصفق حتى اهتز المكان كله، كيف لا وهي لأول مرة تشاهد إمبراطورها كومودوس مصارعاً، ولم يسبق لأي إمبراطور آخر أن خاطر بحياته وسط سيوف المصارعين.

بعد المجاعة التي عاشها الشعب الروماني وتفشي الطاعون فيه، وفَقْدْ الإمبراطور لولاء مجلس الشيوخ الروماني، ومرارة الخيانة التي تجرعها من أقرب الناس إليه، أخته ومستشاره الأول، وقتلهما بدم بارد، لم يبق أمامه إلا أن يبذل كل ما يستطيع لينال ولاء شعب روما ليحميه، والوسيلة التي اختارها الإمبراطور هي الدم والسيف، هي حلبة المصارعة التي لو انتصر فيها الإمبراطور فسيصبح معبود الشعب، وسيشرب الجميع نخب الانتصار فوق دماء وجثث المصارعين القتلى في ساحة المسرح.

أعد الإمبراطور نفسه لهذا المشهد الغير مسبوق، استعان بأشجع المصارعين، المصارع الذي لم يُقْهَر أبداً، ليدربه على القتال، ويعلمه فنون المصارعة، وفي اليوم الأول للمهرجان المنتظر من الجميع، منح الإمبراطور الحرية لمدربه، وأطلق إشارة بدء مهرجان المصارعة ليتعالى صراخ الشعب في كل مرة يضع الامبراطور فيها سيفه ليخترق جسد مصارع يشرف على الموت، فيجهز عليه وسط الصياح الذي يزداد كلما ازدادت نوافير الدماء اندفاعاً من أجساد المصارعين، والإمبراطور شاهراً سيفه ودماء القتلى تتناثر على سيفه وجسده، وشهوة القتال تزداد كلما ساندته الجماهير بزئيرها المتواصل، وكلما شعر الإمبراطور أنه امتلك قلوب وعقول الشعب، تزداد شهوته للقتل.

تمثال للإمبراطور كومودوس
تمثال للإمبراطور كومودوس

وصل الإمبراطور إلى ما كان يتمناه، وأصبح معبوداً للشعب الروماني، لكن مدربه الذي دربه على شرف القتال قبل أن يدربه على القتال نفسه، اكتشف أن الإمبراطور قاتل المصارعين بلا شرف، كان يعطيهم سيوف باردة لا تجرح الجسد، فكان يقتلهم غيلة، والجماهير في نشوة حماسها وهياجها، غاب عقلها، وخدعها الإمبراطور الذي جرد خصومة من السيوف الحقيقية، وأعطاهم سيوفاً مزيفة، ومثل المشهد الساحر الذي خال على الشعب أنه حقيقي، فصرعهم جميعاً، الشعب والمصارعين معاً.

لم يتحمل مدرب الإمبراطور هذه الخيانة لشرف المصارع، فذهب إلى الامبراطور في قصره، حاملا معه سيفاً من السيوف المزيفة، دليل خيانة الامبراطور، وبارز الإمبراطور، ثم صرعة بالسيف المزيف، ليموت موتة باردة، ويضع السيف الذي خان به المصارعين والشعب فوق جسده، ويرحل.

وأنا في ذهولي، عادت بي آلة الزمن دون أن أدري إلى هنا، ثم نظرت إليها فوجدتها معطلة.

الدكتور أمين رمضان aminghaleb@gmail.com
الدكتور أمين رمضان
aminghaleb@gmail.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.