أراء وقراءات

الاستخفاف والإسفاف قرينان لا يفترقان

 

     بقلم/ الدكتور شعبان عبد الظاهر

بين الاستخفاف والإسفاف تلازم واقتران، فهما قرينان لا يفترقان وتؤامان لا ينفصلان، وكلاهما يؤدى إلى الآخر، وهما وجهان لعملة واحدة، فإذا بدت بوادر أحدهما فأعلم يقينًا وجود الآخر كنتيجة حتمية لنظيره، ولعلي أجد وجه ذلك فى قوله تعالى: {فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قومًا فاسقين}، فهذا استخفاف واضح وصريح من فرعون لقومه، فلما استخف فرعون عقول قومه، ازدراهم وسفه أحلامهم، وسلب إرادتهم فكانوا غاية فى الذلة والمهانة، وبلغو المدى فى القهر وغلبة الرجال، وكانوا عجبًا فى العالمين، فما أرسل الله إلى قوم أنبياء كما أرسل إلى بنى إسرائيل، بل جل الأنبياء كانوا فى بنى إسرائيل، فما كان فعل القوم إلا فعل السفهاء وحماقة الأغبياء، فبعد أن رأوا من الآيات الباهرات ما رأوا، وشاهدوا من المعجزات والكرامات ما تلين له الحجارة فيتفجر منها الأنهار، وتشقق فيخرج منها الماء خوفًا وخشية من ربها، ولكن قلوب القوم أشد قسوة وأكثر صلابة من تلك الجلاميد الصلدة.

ونتيجة لإذعانهم لفرعون لما استخف عقولهم بلغوا مبلغًا من الإسفاف فى القول، فتراهم لا يخجلون ولا يتورعون عن طلب الشرك، وبكل بجاحة وبلا حياء يهتفون صائحين: {أجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة}، لأنهم تربوا على الاستخفاف، وانظر إلى النتيجة الفورية لهذا الاستخفاف {فأطاعوه} الطاعة العمياء المطلقة على غير بصيرة ولا هدى من الله تعالى.

ولما كانت العبرة فى القرآن بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فعلى ذلك فكل مدير استخف موظفيه فأطاعوه على غير بينة من أمرهم ففيه شبه من فرعون وقومه، وكل رب أسرة استخف زوجه وأولاده (أفراد أسرته)، ففيه وأفراد أسرته شبه من فرعون وقومه، وكل أمير استخف جماعته فأطاعوه وأوهمهم أن السمع والطاعة واجب فى منشطهم ومكرههم وعسرهم ويسرهم، بموجب أحاديث نبوية صحيحة فهموها على غير قصدها، وأولوها على غير مرادها، ففيه وأفراد جماعته شبه من فرعون وقومه، وكل مسئول فى عمله وكل راع فى رعيته استخف عقول رعيته فأطاعوه على غير هدى من الله، واستحلوا بموجب هذه الطاعة العمياء أموال الناس وأكلوها بالباطل، واستحلوا دماءهم وأعراضهم بغير حق، فهم كفرعون وقومه.

وما الإسفاف فى القول من تجهيل للمجتمع وتكفير وتفسيق للعامة والخاصة، وما يتبع ذلك من إباحة صريحة واضحة للأعراض وانتهاك للحرمات وسب وقذف وتدنى فى الأخلاق، وانحطاط فى السلوك، وفظاظة فى القول وبشاعة فى الفعل، ما كان هذا الإسفاف إلا نتيجة لاستخفاف العقول، والمشاهد أن نبوغ الأفكار التكفيرية ونموها غير كائن إلا فى هذه الحالات، التى تتوارد فيها الخواطر الشرسة وتتجاذب فيها الشوارد الهائجة، فيضمحل العقل ويزول ويقف نمو تفكيره، ويختفى ويصير كالآلة الصماء التى تدار عن بعد وتحرك بالإشارة، لا لشئ إلا أن أمير الجماعة وزعيم الآمة استخف عقول جماعته فأطاعوه،وجعلوا أمره فوق مستوى النقد وذاته فوق مستوى الشبهات.

إن هذه الجماعات وتلك الحركات لا تعرف شدة البأس ورباطة الجأش إلا حين يتراشقون فيما بينهم، ويا ويل من خالف أمرهم أو عارض رأيهم، يا ويله من سلاطة ألسنتهم وشئم فعالهم، وآه لو وضع فى قائمتهم السوداء لصارت حياته كئيبة قاتمة، وربما يصل الأمر إلى تجنيد الجنود وتجييش الجيوش وتحفيز الهمم والاستنفار التام للرد على ذلك الشقى الطريد، الذى خالف رأى الأمير أو عارض قرار الجماعة، وخرج على قول أمير المؤمنين.

فإذا كان هذا هو حال جماعات المفترض أنها داعية إلى الله بالحسنى والموعظة الحسنة، والمفترض أنها مبلغة عن الله رسالته، وأنها خليفة الله فى أرضه، فإذا كان هذا هو حالهم فيما بينهم، فهل تصدق أنهم يتعايشون مع مجتمع كثير المثالب وملئ بالمعائب؟ هل تصدق أنهم بحق دعاة على أبواب الجنة؟ وأنهم هداة مهتدين غير ضالين ولامضلين؟ هل تصدق أن دعائهم لا يجاوز حناجرهم؟إن الرائد لايكذب أهله وإن هذه الجماعات فيما يبدو لى أضلوا الطريق من حيث يريدون الهداية، وأفسدوا بسوء فهمهم من حيث يريدون الصلاح، وأساءوا من حيث يريدون الإحسان، وقد يكون ذلك بخطأ منهم تارة أو بجهل تارة أخرى وكثيرًا ما يكون بعناد وسوء فهم وقلة حيلة وضآلة فكر. وحال غالبية الجماعات آلان يحكى حرصهم على إخراج الناس من دين الله أفواجًا وإن كانت نواياهم الحرص على هداية الخلائق ودخولهم فى دين الله أفواجًا.

لأن النية الحسنة لا تصلح العمل الفاسد، نعود ونقول: إن الاستخفاف والإسفاف قرينان لا يفترقان وليس ذلك إلا نتيجة حتمية لأوامر أمير جماعة متسلط أو تعليمات زعيم حركة متمرد، استخف قومه فأطاعوه وقضوا على ما تبقى لهم من مسكة عقل أو مسحة فكر، ولم يعد لهم فى قلوب الخلق من رصيد للحب فقد نفذ رصيد تقديرهم واحترامهم من قلوب العباد,

وأخيرًا لاكان وما بقى، من كان هذا حاله، وكانت تلك أمانيه وغاية مطلبه، فإن سنن الله لا تحابى ولا تجامل أحدًا، ولو كان ملكًا مقربًا أو نبيًا مرسلًا، ولو كان لها ذلك لجاملت سيد الخلق وإمام الحق وأصحابه الكرام يوم أحد، وانظر إلى الختام القرآنى للاستخفاف، قوم أطاعو رئيس أو زعيم حركتهم أو أمير جماعتهم فيما استخفهم فيه فصاروا بذلك فاسقين، ولعل فسقهم هو من أفقدهم عفة اللسان وطهارة الجنان وعذوبة القول وحلاوة المنطق،فباتوا يتشدقون فى الكلام ويناطحون الجبال ويضلون وهم لا يشعرون، فلتنظر كل فئة فى منهج سلوكها مع أفرادها ومدى القوة الإلزامية لهم، وكم من العقاب يقع على أحدهم لو خالف أمرها، إن أرادت البقاء ولا بقاء لمن خالف سنن الدوام والبقاء.

د. شعبان عبد الظاهر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.