عندما تتأمل أنظمة الناس عبر الكرة الأرضية، ستجد مجموعتان واضحتان، الغالبية منهم يعيشون حالة من التضحية بذواتهم، وهم يمثلون المجموعة الأولى، والأقلية يعيشون حالة من التعبير عن ذواتهم، وهم المجموعة الثانية.
الذين يعبرون عن أنفسهم، هم من يغيرون العالم خارجهم ويتحكمون فيه، بل يتحكمون فيمن يضحون بأنفسهم، لأنهم يصبحون جزء من العالم المفعول به وليس الفاعل.
أما الذين يضحون بأنفسهم فينغلقون على ذواتهم، ولا يسعوا لتغيير العالم، بل ينتظروا حدوث التغيير، لا يدرون كيف، لكنهم ينتظرون، ويعيشون حالة من الرضى النفسي الكاذب، بأنهم في أحسن حال، أو ليس في الإمكان أحسن مما كان.
ولأن الزوجية أو الثنائية من سنن الله في الكون، مثل وجود الليل والنهار، والأبيض والأسود، والخير والشر، والحق والباطل، كان وجود المضحي بذاته والمعبر عنها ضرورة حياتية أو كونية، مما يجعل الحياة تتدافع وتتحرك ولا تصبح ساكنة أو آسنة.
لا ضرر في عالم الإنسان أن تحيا الأنظمة المختلفة في تكامل، لكن واقع البشرية اليوم حَوَّلَ الأرض إلى غابة يأكل القوي فيها الضعيف، مع أن الغابة لا يأكل فيها أي نوع أفراده، لكن الإنسان المتوحش يأكل أخيه الإنسان بأنيابه وأظافره، ويتلذذ بمنظر الدماء التي تسيل أنهار هنا وهناك.
وعندما تتأمل تنوع الأنياب والأظافر، تجدها أحياناً أسلحة فتاكة، قتلت الملايين من البشر حتى الآن، وما زالت تحول الحياة إلى جحيم على رؤوس من انتظروا تغيير العالم وهم يعيشون في وهم الرضى والسلام مع النفس.
وتجدها أحياناً تكنولوجيا عابرة للأرض والسماء والمحيطات، ينتظرها الملايين ليبتلع قلة من جيوبهم البلايين، فمن لا يغيرون يدفعون الثمن باهظاً لمن يغيرون، والثمن ليس مادياً فقط، بل عبودية لهم، هذه العبودية يدفعها كل من يضحي بذاته مقهوراً لمن يعبر عن ذاته قاهراً.
وتجدها أيضاً في أي تسلط فكري يمارسه الناس على بعضهم البعض، وخصوصاً عندما يكون هذا التسلط باسم الدين، والعلماء الذين واجهوا العنت من رجال الدين في العالم كله دليل على هذا التسلط، بل إن بعضهم أُعْدِمَ ودفع حياته ثمنا للتعبير عما يؤمن به من أفكار أو نظريات علمية.
التضحية التي يدفع ثمنها الإنسان من إنسانيته وكرامته ومبادئه وعقيدته ليست تضحية، بل قهر، يمارسه عليه متسلط ظالم له ولنفسه، فرداً كان، أو شعباً، أو دولة، حتى باتت الأمم المتحدة نفسها تجَمُّعْ لأمم ظالمة وأمم مظلومة أو أمم تعبر عن ذاتها بلا رادع إنساني أو قانوني، وأمم تدفع ثمن هذا الظلم بسبب تخلفها.
التضحية في ظل القوة والإرادة تضحية، والتضحية في ظل العجز والضعف جريمة يرتكبها الإنسان في حق نفسه، والجماعات في حق أبنائها، والدول في حق شعوبها.
عندما تكون قوياً يصبح للتضحية معنى إنساني حقيقي.