التذكرة
بقلم / أيمن سلامة
أحيانا تأتى فرص الحياة متأخرة وعلى أية حال أفضل من ألا تأتى ابدا، هكذا ساورت الاحلام عقل “طاهر” الموظف المتوسط الحال الذى لا يكاد يطيق عمله، فيطلق ساقيه للمغادرة بسرعة بمجرد انتهاء سويعات العمل. وسرعان ما يلقى بجسده المنهك على أقرب مقعد خالي بالباص الذى يستقله من محطته الرئيسية بجوار مقر عمله، وسرعان ما يطلق العنان لمخيلته لتأخذه بعيدا عن صخب تدافع الركاب من حوله, وتتداخل خيالات الحزن التي تخيم دائما في اعماقه وتملأ صفحة وجهه مهما حاول جاهدا اخفاؤها.
بدأت احزان حياة “طاهر” تتزايد مع بداية زواجه الذى حاول جاهدا نجاحه واستقراره، رغم ما واجه من صعاب، وفى المقابل كان الامر لا يحمل أي صيغة امتنان من زوجته، بل على العكس انكرت قيمة ما فعله من أجلها، ومع مرور الايام كان يقينه من انها لا تكن له أي مشاعر يزداد وضوحا، مما دفعه ليكتم مشاعره واحزانه ، ويهرب من العالم المؤلم ويلجأ الى عالمه الخاص.
لم يعد “طاهر” يرغب في شيء حتى ولا الحياة نفسها، وأخذ يسترجع كثيرا شريط ذكرياته الطويلة الذى امتلاء بالكثير من الاحداث الحزينة في معظم الاحوال، وكان من الطبيعي ألا تمنحه تلك الذكريات الحزينة الشعور بالسعادة يوما ما ، فاكتفى في معظم الايام أن يقوم بدور المتفرج الجالس على حافة نهر الحياة.
لم تكن طبيعة “طاهر” الهادئة المسالمة مناسبة لما سيلاقيه من صراعات الحياة، فلم يكن لديه هدف محدد يمضى خلفه، و ظل كثيرا يبحث بداخله عما يسعده فلم يجد شيئا محددا، فالبعض غير مهيئ لاستقبال تصاريف الايام ولا يقدر على مجابهة احداثها.
تعجب “طاهر” من أحواله، فالدنيا ارسلت اليه إشارات كثيرة، لكنها لم تمنحه القدرة على استقبال وفهم إشاراتها، وتركته لتلقى به أقداره يمنة ويسرة بدون إرادة منه، يا الله.. أليس من الافضل لحياة البشر ان تكون كل الاقدار سعيدة ؟، هكذا كان طاهر يحدث نفسه، وبحث في ذاكرته طويلا لعله يجد شيئا يستند اليه في اختياراته فلم يجد، لقد كانت حياته بلا معنى ولا هدف، مشوشة المعالم.
ذات يوم اكتشف في نفسه هواية كانت ترقد صامتة بداخله، فأمسك بفرشاته والوانه وظل يرسم لساعات طوال دونما ملل، وملاء جدران غرفته بلوحات كثيرة، بعضها يبدو مفهوما، أما الاخر فقد لا يعلم سره الا صاحبه، ولكنه على أية حال وجد نفسه سعيداً ربما لأول مرة حياته.
ذهبت مخيلته بعيداً وهو يفكر كيف سيكون معرضه الأول، فلا بد من أنه سيكون في قاعة مشهورة، لن يدخلها سوى كبار الفنانين والنقاد، أما عامة الجمهور فلن يدخل أحد بدون “تذكرة”، ظلت كلمة “تذكرة” تتردد في مخيلته، حتى استفاق على يد المحصل وهو يهز كتفه قائلا “التذكرة يا استاذ”.