أراء وقراءات

التعليم التلقيني.. حين يُقتل الفهم ويُكافأ الحفظ!

بقلم/ محمد الشريف

“الشهادة ورقة تثبت أنك متعلم.. لكنها لا تثبت أنك تفهم”، هكذا عبّر أحدهم بدقة عن واقع تعليمي عربي مرير، تُختزل فيه قيمة الإنسان بورقة نجاح، لا بما فهم أو أبدع. واقع يتوارثه جيل بعد جيل دون مراجعة أو تطوير، في ظل حكومات تتغير وأفكار جامدة لا تتغير!

هل نحن أمام تعليم أم تلقين؟

منذ سنوات ونحن نصرخ في وادٍ لا صدى له، نسأل: لماذا لا نبتكر؟ لماذا لا نفكر؟ أين المتابعة؟ أين الرؤية؟ ألم يحن الوقت لأن ننظر إلى تجارب الدول التي سبقتنا بعقود؟ ألم نرَ كيف تحولت دول آسيوية وأوروبية إلى قلاع علمية وصناعية بعدما سافر أبناؤها إلى كل الأقطار، درسوا النماذج الناجحة وطبقوها برؤية وطنية خالصة؟!

في الدول المتقدمة، التعليم ليس فقط أقصر زمنًا، بل هو أقرب إلى الواقع. الطالب هناك يتخرج في سن مبكرة وقد اكتسب مهارات السوق الفعلية، بينما هنا نقضي سنوات أطول في الدراسة ثم نُطالب بخبرة عملية لا نملكها!

احفظ.. لا تفهم!

نحن في مجتمعات تعلّم الطالب كيف يحفظ لا كيف يفهم. يصبح العقل أسيرًا لرهبة الامتحان، يستحضر المعلومات خوفًا لا شغفًا، ليقذفها على الورقة ثم يفرغها من ذاكرته كما تفرغ القاعة من الطلاب بعد نهاية اللجنة. لا يستقر العلم في العقل لأن الفهم غائب، والمعرفة بلا جذور لا تنمو.

كارثة التنسيق.. وقتل الموهبة

نصل إلى المرحلة الجامعية لنكتشف العبث الكبير. في الخارج، الكلية تُختار بناءً على الموهبة والشغف، ويخضع الطالب لاختبارات أعدها خبراء لتحديد صلاحيته الفعلية لهذا التخصص أو ذاك.

أما هنا، فمجموع الدرجات – لا غير – هو من يرسم مصير الطالب، فيُلقى بصاحب موهبة الرسم إلى كلية الحقوق، وذو ميول التحليل والبحث إلى كلية الآداب، وعبقري الرياضيات إلى كلية الطب!

النتيجة؟ جيل يدرس دون حب، يعمل دون شغف، ويتخرج بلا هوية مهنية واضحة. جيل مشحون بالإحباط، فاقد للانتماء، لا يبدع لأن بيئة الإبداع لم تُمنح له يومًا.

الشهادة لمن لا يستحق!

من أكثر الأمثلة إثارة للحزن، أن تجد شخصًا تخصص في الغش والحفظ، لا يملك فهمًا ولا تحليلًا، ثم يتسلل عبر أبواب التملق والواسطة ليصبح معيدًا. لا يعيد على طلابه شيئًا سوى أخطاء إملائية وفكرية تثير الشفقة، بينما ينشغل على السوشيال ميديا بنشر تفاهات، وأشعار بلا وزن، ومقولات بلا عقل!

إنه مثال حيّ للمبنى الذي شُيّد على أساس فاسد، فكان السقوط حتمًا، والسقوط هنا لا يخص شخصًا، بل يخص جيلًا ومجتمعًا كاملًا.

ما المطلوب؟ مناشدة لأولي الأمر

نوجه هذه الرسالة إلى رئيس الحكومة والسادة وزراء التربية والتعليم والتعليم العالي، وكل مسؤول حقيقي عن مستقبل هذا الوطن، ونلخصها في نقاط عملية:

  1. تقليص عدد سنوات الدراسة: سنوات الدراسة الطويلة بلا داعٍ تستهلك عمر الطالب دون جدوى. اختصارها يوفر له فرصة مبكرة لبناء مستقبله وخدمة وطنه.

  2. تعليم عملي مرتبط بسوق العمل: ربط المناهج بالواقع العملي يُكسب الطلاب خبرة حقيقية، ويختصر سنوات الخبرة النظرية التي يهدر فيها الخريجون وقتهم بعد التخرج.

  3. إلغاء التنسيق وتفعيل اختبارات الموهبة: لا يمكن أن تُبنى نهضة علمية بناءً على الدرجات فقط. يجب أن تكون الموهبة والشغف والمعايير النفسية والقدرات العقلية أساسًا للقبول الجامعي.

  4. منع الغش والواسطة والتعيين بالمحسوبية: لا نهوض إلا بكفاءات حقيقية. لا بد من محاربة كل مظاهر الفساد التعليمي لضمان عدالة الفرص وفعالية المخرجات.

  5. استقلالية القرار الأكاديمي عن النفوذ الاجتماعي والسياسي: العلم لا يقبل المجاملة، والجامعة يجب أن تعود إلى دورها الأصيل: صرح للبحث والتجريب والإبداع.

كلمة أخيرة..

التميّز لا يأتي من التلقين، بل من الفهم والابتكار. لا يمكن أن ننهض إلا إذا احترمنا العقول، وفتحنا الباب أمام الطاقات الحقيقية، وقطعنا الطريق على المزيفين والمتسلقين. وحده العقل الحرّ، المتعلم بحق، هو القادر على النهوض بالأوطان.

محمد الشريف 

كاتب صحفي وباحث 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى