التنوير والتزوير
كتب/هاني حسبو.
بين الحين والآخر تطفو على السطح قضية يتم فيها خلط الحابل بالنابل كم يقال.
قضية يثار حولها تساؤل منطقي : ما هو الفكر التنويري الذي يزعم معتنقوه أنهم يحاولون به تنوير العقول “الظلامية”كما يسمونها.
تحتل قضية التنوير مساحة كبيرة هذه الأيام خصوصا بعد تأسيس ذلك الكيان المشبوه المسمى “تكوين”.
نحاول في هذه السطور بيان ما هو التنوير الحقيقي كما بينته شريعتنا الغراء وبالتالي فإن ما عداه ليس بتنوير بل هو تزوير.
جاء في لسان العرب لابن منظور، أن التنوير هو وقتُ إسفار الصبح، يقال قد نوَّر الصبح تنويراً، والتنوير : الإنارة، والتنوير : الإسفار. ويقال : صلَّى الفجر في التنوير.
ويطلق اسم النور على الهداية كما في قوله تعالى { اللَّه وليّ الذين آمنوا يُخرجهم من الظلمات إلى النور}، أي الهداية { أفمن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً }، أي هداية { اللَّه نور السمـوات والأرض}، أي هادي أهلها.
ظهر مصطلح التنوير (enlightenment) في القرنين السادس عشر والسابع عشر في أوروبا تعبيراً عن الفكر الليبرالي البورجوازي ذي النزعة الإنسانية العقلية والعلمية والتجريبية. ويتضمن هذا الفكر نزعةً ماديةً واضحةً بعد إقصاء اللاهوت، وذلك بإحلال الطبيعة والعقل بدلاً من الفكر الغيبي الثيولوجي والخرافي في تفسير ظواهر العالم ووضع قوانينه ((4
والتنوير اتجاهٌ ثقافيٌّ ساد أوروبا في القرن الثامن عشر بتأثير طبقة من المثقفين من أمثال (فولتير)، و(ديدرو)، و(كوندورسيه)، و(هولباخ)، و(بيكاريا)، الذين أخذوا عن الفلاسفة العقليين، (ديكارت)، و(سبينوزا)، و(لايبنتس)، و(لوك)، والذين طبعوا القرنين السابع عشر والثامن عشر بطابعهم الثقافي، حتى أُطلق على هذه الفترة اسم عصر العقل (the age of reason)، وكان التنوير نتاجه.
ويمكن بشكل عام، تقسيم أفكار التنوير في ثلاث مجموعات تحمل عناوين : (العقل، والطبيعة، والتقدم)، وتكوّن في مجموعها الفلسفةَ الطبيعية، والأخلاق الطبيعية، وأساسها العلم، وكان الإيمان به مطلقاً كالإيمان بالعقل.
ويمثّل التنوير حركةً عقليةً أوروبيةً رأت في العقل الوجودَ الحقيقيَّ للإنسان، وسعت إلى تحرير الحضارة من الوصاية الكنسية والنزعات الغيبية والخرافات، وآمنت بتقدم الإنسانية عن طريق البحث العلمي.
ونستطيع أن نقول إن التنوير قضيةٌ أوروبيةٌ محض، انبثقت في المحيط الأوروبي، نتيجة ظروف كانت تسود المجتمعات الأوروبية، وكردّ فعل لهيمنة الكنيسة الغربية على الحياة العقلية والفكرية والثقافية في أوروبا. ولذلك فإن قيام مفهوم التنوير الأوروبي على إلغاء دور الدين في الحياة، مسألةٌ طبيعية، إذا نظرنا إليها من زاوية ما كانت تمارسه الكنيسة الغربية من ضروب الاستبداد وألوان القهر، وما كانت تُشيعه من أباطيل وخرافات، وبحكم أن أوروبا كانت عهدئذ، تعيش العصور المظلمة، في حين كان العالم العربي الإسلامي يعيش ازدهاراً حضارياً واسع الإشعاع.
لقد كانت حركة التنوير في أوروبا ردَّ فعلٍ طبيعياً على الجبروت التي كانت السلطات الكنسية تمارسه ضد العقل والإرادة الإنسانية. وهو وضعٌ لم تعرفه الحضارة الإسلامية، وحالةٌ لم يعشها المسلمون قط..
وهنا نقطة مهمة أن دين الإسلام دين تنويري بذاته ليس بحاجة لمن يقوم بتنويره.
فطغيان الكنيسة الغربية على ما كان يصحبه من قهرٍ لإرادة الإنسان، وتضييقٍ لحريته، وتزييفٍ لعقله وتضليلٍ له، هو الدافع الرئيس ــ الذي هو أقوى من كل دافع ــ لنشوء فكرة التنوير، مما يجعل من التنوير قضيةً أوروبيةً في المقام الأول، ينبغي فهمُها وبحثُها، من هذا المنظور، والتعامل معها في هذا الإطار، وليس بحسبانها قضيةً إنسانيةً عالميةً تفرض نفسها على الشعوب والأمم كافة.
وللحديث بقية إن شاء الله وقدر.