كتبت / هبة راضي
لم تكن فليتسيا لانغر المحامية اليهودية التقدمية الراحلة كغيرها من المحامين الذين تعاملوا مع قضايا الأسرى الفلسطينيين، وإنما كانت لهم سندا قانونيا وحقوقيا متفاعلا بحرارة.
هذا التفاعل، دفع الأسرى إلى إطلاق لقب “الحاجة فلة” على الراحلة لانغر، خاصة خلال مواكبتها حالات الاعتقال والتعذيب في سنوات الاحتلال الأولى بعد احتلال الضفة والقطاع عام 1967 .
بهذه المقدمة نشر المركز الفلسطيني للإعلام تقريرا مطولا عن لانغر التي توفيت في 22 يونيو 2018 في ألمانيا،عن عمر يناهز 88 عاماً، بعد صراع طويل مع الجرائم “الإسرائيلية” .وسجلت في مذكراتها تجربة ربع قرن من الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني، قائلة: “أتعذب حين أرى الدم الفلسطيني يلطخ بطاقة هويتها -الإسرائيلية- ويلطخ وجه شعبها أمام هذه الادعاءات الزائفة”.
بأم عيني
ووثقت الراحلة همجية الاحتلال في العديد من مؤلفاتها وكتبها التي أصدرتها بالعربية وأولها كتابها “بأم عيني” الذي نشر في 760 صفحة بداية السبعينات، ومنعت سلطات الاحتلال تداوله.
ولم يكن هذا الكتاب وثائقيا فحسب، بل كان يمثل لوحة شعورية وصفية تراجيدية لحلقات التعذيب القاسية التي كان يتعرض لها الأسرى الفلسطينيون في سجون الاحتلال.
لانغر مناضلة
ويصف المناضل والأسير السابق عبد العليم دعنا هذا الشعور فيقول: حضرت فيلتسيا لانغر لزيارتي في مركز تحقيق سجن الخليل في صيف عام 1974، وكان قد مر علي خلال التحقيق العسكري الشرس في الزنازين القذرة المظلمة 68 يوما لم أر فيها الشمس وأنا منهك وأتصبب عرقا والكدمات والجروح تملأ جسدي.
وأضاف “عندما قابلتني وقبل أن تسألني أي سؤال .. بكت !! ونظرت إليّ بشفقة وقالت: ماذا فعل بك المجرمون؟ فشرحت لها بالتفصيل، فردت قائلة: هؤلاء ليسوا بشرا .. ووعدتني أن تنقل قصتي لمؤسسات حقوق الإنسان والمؤسسات الدولية كافة.
ويتابع دعنا في حديث لمراسلنا: “أمضينا في سجون الاحتلال أكثر من عشرين عاما كنا نتعامل مع فيلتسيا لانغر مناضلة شرسة تدافع عن قضايانا بإخلاص وتفان، وكنا نشعر أنها خصم للإدارة الاحتلالية”.
معادية للصهيونية
وكانت لانغر تفخر أنها تدافع عن الأسرى الفلسطينيين، وتقول: انا أقف خجولة في مؤتمرات حقوق الإنسان الدولية عندما يقدمونني محامية إسرائيلية، وأصرخ في وجوههم وأقول: أنا يهودية تقدمية أعادي الصهيونية وما تقوم به حكومة الاحتلال هولوكوست منظم ضد الإنسانية.
وعندما أصدرت دار الشرارة في الناصرة كتابها “أولئك إخواني” الذي وصفت فيه حالات التحقيق والتعذيب والموت في سجون الاحتلال بدقة متناهية، وعدّته وثيقة حية لمعاداة سلطات الاحتلال للقانون الدولي الإنساني واتفاقية جنيف الرابعة، منعتها سلطات الاحتلال من زيارة الأسرى الفلسطينيين ستة أشهر؛ بزعم أنها معادية للسامية.
المحامية الإنسانة
ويصف الأسير بدران جابر شعور فيلتسيا لانغر عندما قابلته في سجن مستشفى الرملة في شهر شباط من عام 1984م فيقول: نقلت من تحقيق سجن عسقلان إلى مستشفى سجن الرملة وأنا بين الحياة والموت، وسمح لها بزيارتي، وعندما دخلت الغرفة وأنا في هذه الحالة بدأت بكيل مئات الشتائم للاحتلال وصرخت في أحد السجانين الواقفين: أخرج أيها المجرم القاتل، أنتم قتلة أنتم لستم بشرا !! وبدأت في رفع معنوياتي وأدركت أنني أمام مناضلة فلسطينية وليس أمام محامية.
وأضاف جابر في حديث خاص لمراسلنا: كانت لانغر تتحدث معي وهي في قمة الألم والحزن على حالتي .. وقالت لي: هذه دولة فاشية ستزول، وأنتم الفلسطينيون أصحاب حق، ومن حقكم أن تناضلوا لاستعادة حقوقكم وتحرير أرضكم ووطنكم.
تهانينا .. أنتم أبطال
وعندما خرج الأسير طالب غيث من الخليل، الذي كان محكوما 480 عاما من سجون الاحتلال في صفقة أحمد جبريل، قال: حضرت المناضلة المحامية فيلتسيا لانغر إلى منزلنا في الخليل وقدمت لي ولعائلتي التهاني، وحاول المستوطنون الاعتداء عليها وتكسير سيارتها .
وأضاف في حديث خاص لمراسلنا: وقفت لانغر أمام المهنئين في الخليل، وخاطبتني وهي فرحة وقالت: أنتم الفلسطينيون أبطال وتستحقون الحرية !!؟ .
وقد كرّم الفلسطينيون المحامية لانغر في أكثر من موقع ومناسبة وحصلت على العديد من الأوسمة، وقدمت لها السلطة ووزارة الأسرى وسام التقدير من الدرجة الأولى لخدماتها الجليلة للأسرى الفلسطينيين.
تقول المحامية الحيفاوية نائلة عطية التي عملت طويلا في مكتب الراحلة: لانغر مناضلة صادقة ومخلصة عملت معها عن قرب، وكانت تحمل هموم الأسرى في أعماقها وكأنها فلسطينية وهي تعد نفسها كذلك.
وبسبب نشاطاتها، نالت لانغر في عام 1990 جائزة “نوبل البديلة” للشجاعة المثالية في نضالها من أجل الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني. كما حصلت لانغر في عام 1991 على جائزة “برونو كرايسكي” للإنجازات المتميزة في مجال حقوق الإنسان.