أراء وقراءات

الحاضر في مرآة الماضي

 

بقلم / حاتم السروي

منذ أيام كان قد أثار انتباهي “بوست” كتبه أحد الأصدقاء على موقع التواصل الاجتماعي (فيس بوك) وهو عبارة عن تساؤل هذه صورته: ” هل توجد علاقة بين الإخوان المسلمين وإخوان الصفا؟ ” وشعرت بالمفاجأة؛ إذ كانت معلوماتي حول (إخوان الصفا) تتلخص في أنهم جماعة فلسفية وعلمية، وعلقت لزميلي قائلًا أن العلاقة الحقيقية للإخوان المسلمين هي مع الشيعة الباطنية، فهناك تشابهات جديرة بالتأمل بين الفريقين، وخصوصًا لو قرأنا سيرة حسن الصباح مؤسس فرقة الحشاشين وصاحب قلعة “الموت” ويبدو أن ثمة وفاقٍ بين الحسنين وما أشبه الليلة بالبارحة.

على أن تساؤل الصديق جعلني أفتش عن جماعة إخوان الصفا لأتعرف عليها أكثر، ومن يدري فربما كانت جماعة سياسية  من الجماعات الباطنية التي انتشرت في العصر العباسي  وربما يكون حسن البنا قد تأثر بها، وقد يبدو لدى البعض أن الرجوع إلى التاريخ ضربٌ من الترف الذي لا يحتمله الواقع، وهذا مردودٌ عليه بالطبع، فمن واجبنا أن نغوص في التاريخ لنكتشف الجذور الفكرية لما نعانيه الآن، ومن ثم يكون مهمًا للغاية أن نكشف عن بعض أفكار إخوان الصفا، فمن هم إخوان الصفا؟.

يخبرنا التاريخ أنهم أصحاب جماعة فلسفية، ولا يمنع هذا من القول باعتناقهم مذهبًا سياسيًا خاصًا وعملهم على تحقيق بعض المآرب التي تذرعوا إليها بالمنطق ودعوا إليها بالفلسفة! ولا أستطيع أن أجزم بتشيع الجماعة، فبعض أفكارها تنتمي إلى التصوف الفلسفي والبعض الآخر إلى الاعتزال، وإن كنت أميل إلى أنها تابعة لمذهب الشيعة الإسماعيلية، وربما صح القول أن رائدها الأول هو أحمد بن عبد الله بن إسماعيل العلوي، فإذا تبين أنهم من الشيعة وجب التنبيه أنهم ليسوا من أتباع “الإمامية” وهي المذهب الرسمي في إيران وعند شيعة العراق، وإنما هم من “الإسماعيلية” الذين يرون أن الإمامة حقٌ لإسماعيل بن جعفر الصادق ثم لولده من بعده، وإلى مذهبهم ينتمي الفاطميون الذين حكموا مصر وبلاد المغرب وكانت عاصمتهم القاهرة وظلوا يحكمون المحروسة حتى غلب عليهم صلاح الدين الأيوبي فأزال دولتهم وأبطل التشيع.

ولأعضاء جماعة إخوان الصفا خمسين أو إحدى وخمسين رسالة طبعت لدينا في مصر في أربعة أجزاء، ومذهب الجماعة الفلسفي هو خليط من تعاليم الإسلام وفلسفة الهند واليونان وفارس.

ومن ضمن ما كان يشغل بال إخوان الصفا بل إنه لم يزل يشغل بال البعض منا حتى الآن: أصل المعرفة، بمعنى هل هي فطرية أم أنها مكتسبة؟ أم تراها فطرية ومكتسبة معًا؟؟ ونعرف أن أفلاطون المثالي من أنصار الفطرة، أما أرسطو الواقعي فهو من أنصار الاكتساب، ثم جاء ديكارت أبو الفلسفة الحديثة وقال بالفطرة لكن على نحو مختلف عن أفلاطون، في حين تقول المدرسة الإنجليزية بالاكتساب، وهو ما نجده بالأخص عند (جون لوك) و(ديفيد هيوم).

حسنًا، ما هو رأي إخوان الصفا؟ بكل بساطة ودون تعقيد يقولون أن المعرفة كلها مكتسبة، وليست فطرية، كما أن أصل المعرفة هي الحواس، وفي إطار دفاعهم عما ذهبوا إليه نراهم يهاجمون القائلين بالفطرة باعتبار أن البديهيات التي يعرفها الناس كافةً بالضرورة ليست شيئًا سوى رسوم المحسوسات الجزئية الملتقطة بطريق الحواس، واستدلوا بقوله سبحانه وتعالى: ” والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا “.

والبديهات هي على شاكلة أن الكل أعظم من الجزء، وأن الأشياء المساوية لشيء واحد تكون متساوية مع بعضها، ويذهب كثيرٌ من الفلاسفة ورواد المنطق إلى اعتبارها فطرية غير مكتسبة؛ وحجتهم في هذا قوية ولها وجاهة، فهذه الأمور لا ندركها بالتلقين ولا بالنظر ولا نستدل عليها، بل هي من أوليات الحياة والجميع يعرفونها، لكن إخوان الصفا لهم رأيٌ آخر.

ثم لم يقفوا عند هذا الحد بل إنهم عارضوا القائلين بأن المعرفة مركوزة في النفس اعتمادًا على مذهب أفلاطون، وقالوا أن أفلاطون أراد بقوله ” العلم تذكر ” أن النفس تعلم بالقوة فتحتاج إلى التعليم حتى تعلم بالفعل؛ ولهذا سمى العلم تذكرًا، وطريق التعليم هو الحواس ويليه العقل ثم البرهان، هكذا كان ترتيبهم لوسائل التعلم.

ولا نشك أن إخوان الصفا مخطئون فيما ذهبوا إليه من فهم قول أفلاطون ” العلم تذكر والجهل نسيان ” لأن أفلاطون كان يرى أن النفس الإنسانية سبق لها وأن عاشت مع الآلهة في عالم المُثُل ولهذا فهي تعلم كل شيء، غير أنها لما اتصلت بالجسم نسيت؛ فإذا انكشف لها ستار المعرفة فإنها لا تكتسب جديدًا بل تذكر ما كانت تعرفه قبل اتصالها بالجسد، ويستدل أفلاطون على فطرية المعرفة بأن الطفل فقط بالنظر إلى نفسه يستطيع أن يكتشف البراهين الهندسية ودون حاجة إلى معلم!!.

وعلى خلاف هذا تمامًا يذهب إخوان الصفا وخِلَّان الوفا إلى أن النفس تخلو من أية معرفة، وهي قبل العلم تشبه ورقًا أبيضًا نقيا لم يُكْتَب فيه شيء؛ فإذا كُتِبَ فيه شيء حقًا كان أم باطلا فإنه يشغل المكان ويمنع من كتابة شيءٍ آخر، ويصعب محوه أصلًا.

وعلى هذا النحو تقريبًا جرى مذهب الفيلسوف الإنجليزي (جون لوك) الذي يعتبر أن أصل المعرفة هي الحواس، ولا شيء في العقل لم يكن قبل ذلك في الحس، ويبقى السؤال: لماذا قال إخوان الصفا بهذا الرأي؟.

والإجابة: أنهم اتجهوا نحو تلك النظرية لاحتياجهم إليها في تغليب مذهبهم في السياسة والفلسفة، ورغبتهم في إقناع الجمهور بأفكارهم، وكما نعلم فقد كان الجمهور ولا يزال على مذهب أهل السنة والجماعة، ولذلك هاجم الإخوان هذا المذهب هجومًا شديدًا وسبوا مشايخه وقالوا أنهم شيوخٌ هَرِمين اعتقدوا منذ الصبا آراءً فاسدة وعاداتٍ رديئة، والمخرج من هذا  الضلال يكون عن طريق العلم الذي نكتسبه أولًا بالحواس الخمس والتي بها ندرك الأمور الواقعة في الزمان والمكان؛ وثانيًا باستماع الأخبار التي ينفرد بها الإنسان عن سائر الحيوان، وبها يفهم الأمور التي غابت عنه بالمكان والزمان؛ والطريق الثالث هو الكتابة والقراءة.

ولهذا لا نعجب حين يصف البعض إخوان الصفا بأنهم (تقدميون) مع أن شيئًا من التأمل والنظر يهدينا إلى خلاف ما يقولون، أو على الأقل إلى قوة حجة من يخالفونهم وجداراتها بالاهتمام، وبخاصةٍ أن من خالفوهم كان لهم نصيبٌ وافر من علوم الحكمة ومعارف الحس والتجريب، لذلك نتمنى ألا يبادر القارئ الكريم إلى النظر بإعجاب نحو آراء هذه الجماعة حتى يقرأ مقالتيْنا عن ابن سينا الفيلسوف الطبيب والغزالي الفقيه المتصوف، وبعد القراءة والنظر يكون له الحق في اعتناق مذهب إخوان الصفا أو ما ذهب إليه الغزالي وابن سينا.

ثم يرى إخوان الصفا أن الاعتياد المستند إلى النظر والمداومة هو مما يؤكد المعرفة ويؤدي إلى ترسخ الأخلاق، فالعادات الجارية من خلال المداومة عليها تقوي الأخلاق المشاكلة لها، كما أنه بالنظر في العلوم ومداومة البحث فيها والدرس لها والمذاكرة يصبح الإنسان حاذقًا بها راسخًا فيها.

ومن ضروب المعرفة المحاكاة الناشئة عن الاختلاط؛ فهي من وسائل نقل المعاني والأفكار وطبع المعتقدات في النفوس؛ وعلى سبيل المثال نرى الأطفال إذا تربوا مع الشجعان وأصحاب الفروسية صاروا مثلهم وأخذوا طباعهم، بخلاف ما إذا تربوا مع المخنثين الذين يموج بهم عصرنا الحاضر، وإذا كان للطفل أستاذ محترم فإن الطفل يكتسب الاحترام تلقائيًا فيحترم نفسه وأبويه والذين هم أكبر منه سنا؛  فالطفل يحاكي البالغين ويأخذ منهم كل شيء، وبهذا نعرف أن المحاكاة من طرق العلم واكتساب المعرفة.

والمحاكاة عند إخوان الصفا تسري من الكبير إلى الصغير، يعني من الآباء والمعلمين إلى الصبيان؛ فتصير تعليمًا وتلقينا، وهي تسري من العالم إلى الجاهل فتصير تقليدًا وقولا، ومن طرق المعرفة والعلم اتخاذ المعلم.

ولهذا فطن إخوان الصفا إلى أهمية المعلمين والتعليم؛ فليس في وسع كل أنسان أن يصل إلى المعرفة في أول مرئياته وإنما يحتاج إلى معلم ومؤدب وأستاذ حتى يعرف ويتخلق ويعمل ويعتقد.

ومن شروط المعلم عند أهل الصفا أن يكون ذكيًا جيد الطبع حسن الخُلُق صافي الذهن محب للعلم طالب للحق، وغير متعصب لمذهبٍ من المذاهب، وهم يرون أن هذا لا يتفق إلا في جماعتهم، ويسمون أنفسهم أصحاب الناموس الذين هم أساتذة البشر كلهم، ومعلمو أصحاب الناموس هم الملائكة، ومعلمة الملائكة هي النفس الكلية، ومعلم النفس الكلية هو العقل الفعال، والله تعالى معلم الجميع.

والنفس عندهم جوهرٌ مخالفٌ للجسد وهي كالورقة البيضاء التي تحتاج إلى ملئها بالعلم، والحكمة للنفس كالغذاء للجسد؛ فالعلم غذاء النفوس، والنفس تقبل صور المعلومات من المحسوسات والمعقولات في ذاتها وتصورها بفكرها، وتحفظها بالقوة الحافظة دون أن تخلط بعضها ببعض، والنفوس الجزئية على خلاف النفس الكلية عالمة بالقوة وعند اكتساب المعرفة تصبح عالمة بالفعل، وكلما عرفت اقتربت من النفس الكلية.

فالخلاصة إذن في مذهب إخوان الصفا أن المعرفة بالاكتساب، والاكتساب يكون بالتعلم، والتعلم من أهل العلم، وإخوان الصفا هم أهل العلم؛ فالزم طريقهم واتبع منهجهم وكن مثلهم باطنيا !.. لكن يا ترى أين هم إخوان الصفا الآن؟ لا وجود لهم طبعًا، لأن الذي يعمل من أجل نشر العلم يبقى ويستمر، أما الذي يعمل من أجل السلطة فيذهب عمله جُفاءً ويبتلعه التاريخ، وهنا قد يبدو الرابط بين إخوان الصفا وإخوان البنا، فإخوان الصفا كان سعيهم إلى الحكم بالفكر، وإخوان البنا كان سعيهم إليه بالدين، والدين والفكر لا يقبلان شريكًا ولو كان السلطة، فلا تعجب إذن من خذلان إخوان الصفا وهزيمة إخوان البنا؛ إذ لا يصح إلا الصحيح، أليس كذلك؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى