خطبة الجمعة الموافق 9يونيو 2023الحج رحلة إيمانية
الحج إنموذج مثالى للعـمـل الجمـاعـى
إعداد الدكتور عبد المنعم ابراهيم عامر.
والذي يدفعني للكلام في هذا الموضوع عدة أمور:- أننا في أشهر الحج وهى من الأشهر الحرم:وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } [البقرة: 197]
قال ابن كثير: وَقَوْلُهُ: {أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} قَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: هِيَ شَوَّالٌ، وَذُو القَعْدة، وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ . وَهَذَا الذِي عَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْهُ بِصِيغَةِ الْجَزْمِ رَوَاهُ ابْنُ جرير موصولا بسنده عَنِ ابْنِ عُمَرَ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} قَالَ: شَوَّالٌ، وَذُو الْقِعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ إِسْنَادٌ صَحِيح.
لأن هذا الحج فرضه الله .بقوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } [البقرة: 196]أتموه بصورة جماعية لا فردية.كما ندب إلى الأداء الصلاة والزكاة والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك من الأعمال الكبار بصورة جماعية.
– لأنه إبراهيم عليه السلام لما رفع القواعد من البيت طلب من ابنه أن يعينه لكى يسن لنا من سنن الخير التعاون على أعمال البر الكبار و يتم الرفع بعمل جماعي لا فردى .
تماما بتمام كما طلب موسى الكليم المؤازر والمعين وكما هو حال الملوك الصالحين الممكنين كذى القرنين بل وخاتم المرسلين شارك المشركين في إعادة بناء البيت .
ولأن العمل الجماعى فيه من البركة والأجر والسكينة والمغفرة ما ليس في الأعمال الفردية وكذلك الحج .
-لأن الحج تضمن شروط وضوابط العمل الجماعى المثالي.
يأتي هذا العمل الفريد ليهتف فينا من جديد :
يا أيها الأمة الوسط الخيار هذا إنموذج لعمل الأبرار .
يا أيتها الأمة المرحومة هكذا تكون الاعمال الجماعية المعصومة .
وهكذا يكون التنظيم .هكذا تكون الدروس وهكذا يكون التعليم .
يا أيتها الأمة المنصورة هذا طريق إلى النصر مستقيم .
– فليس الناس في مصر فقط تتطلع منكم إلى نصر وإلى اعتصام ، بل وكل العالم إن انتصرتم انتصر وإن اتحدتم اتحد ، فيأتي هذا العمل الفريد بكل هذا التجديد .
– فإن كان الله يبعث على رأس كل مائة سنة لهذه الأمة من يجدد لها الدين كما ثبت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، فِيمَا أَعْلَمُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا»()، فهو يرسل في كل سنة هذا العمل الفريد يجدد فينا روح الإتباع والإخلاص والوحدة والتجديد ونبذ الفرقة والعصبية والحزبية والتقليد والمفاصلة بين أهل الشرك وأهل التوحيد في كل عمل جماعي يُرجَى له التوفيق والسداد والتسديد
الحج رحلة إيمانية:
لأنه بُنِيَ على هذه الأسس ، والتي من أولها :
إهلاله ﷺ بالتوحيد : ففي صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله : ( أن النبي َأَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ أي : لَبَّيْكَ اللهُمَّ، لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ، وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ ) () .
إخلاص العبادة لله تعالى وتجريدها لله وتجريد الإتباع للنبي ﷺ وهذا معنى ” لا إله إلا الله محمد رسول الله ” :
” لا إله إلا الله “أى :لانريد إلا إياك أو إياك نريد .
” محمد رسول الله ” بما تريد وذلك شرع الله المجيد .
” لا إله إلا الله ” هجرة إلى الله تعالى بإخلاص العبادة والوجهة له.
” ومحمد رسول الله ” هجرة إلى رسول الله ﷺ بتجريد الإتباع له .
وهذا ما يقرره القرآن في غير ما موضع من ذلك :
قوله تعالى : ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ ( سورة الكهف : 110 ) ، وقال تعالى : ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ﴾ ( سورة النساء : 125 ) ، فالحج من ملة إبراهيم الحنيف ، بل جاء في تفسير قوله تعالى : ﴿ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ﴾ ( سورة الحج : 31 ) أي : حجاج لله ، قاله ابن عباس .()
– فأول ما يهل المهلون في أي عمل جماعي بـ(( التوحيد )) أول ما يهلون به لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك .
الحج إنموذج مثالى:لأنه بُنِيَ على الإتباع والسلفية ، ونبذ التقليد .
وهذه قاعدة أخرى من القواعد وأساس من الأسس التي يبني عليها العمل الجماعي ، إمتثالاً لقوله ﷺ: ( خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ لَعَلِّي لَا أَرَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا ) ()، وكان لهذا النداء أثره البالغ في نفوس الصحابة ، حتى ظهر هذا التجريد لإتباع الرسول ﷺ في صور منها :
عمر رضي الله عنه يقول للحجر الأسود : ” وَاللهِ، إِنِّي لَأُقَبِّلُكَ، وَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ، وَأَنَّكَ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَبَّلَكَ مَا قَبَّلْتُكَ ”
الحج إنموذج مثالى:لأنه بُنِيَ على الوضوح في كل مناسكه لاسيما وضوح الهدف بالتحديد :
وهذه قاعدة من القواعد وأساس من الأسس التي يبنى عليها العمل الجماعي ( تحديد الهدف منه ) ، وأن يكون هذا الهدف واضحاً ، وأن يجمع علي مشروعيته أهل العلم، وهذا ما يحدث في الحج ، فيقوم الحاج أولاً بتحديد نوع المنسك سواء كان قارناً أو مفرداً و متمتعاً ، فإذا كان يريد العمرة قال : لبيك اللهم بعمرة ، وإن كان يريد الحج مفرداً قال : لبيك حجاً ، وإن كان يريد الجمع بين الحج والعمرة قال : لبيك عمرة وحجاً ، وإن كان حاجاً عن غيره أو وكيلاً نوى ذلك بقلبه ثم قال : لبيك عن فلان ، وإن كانت أنثى لبيك عن فلانة أو أم فلان ، فهنا يعلمنا الحج أن من قواعد وأسس العمل الجماعي تحديد الهدف ووضوحه لدى جميع أفراد هذا العمل من أول لحظة من لحظات هذا العمل .
الحج إنموذج مثالى:لأنه بني على الخلق الكريم الفريد:
وهذه قاعدة من القواعد وأساس من الأسس التي يبنى عليها العمل الجماعي ( الأخلاق ) : فالعمل الجماعي لابد له من أخلاق تحفظه وتحفظ إستمراريته حتى يؤتي ثماره المرجوة ليس فقط في الآخرة بل في الدنيا ، قال تعالى : ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ
خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ ( سورة البقرة : 197 ) .أي : لا جِمَاع فِيهِ ولا خروج عن طاعة الله بترك واجب أو فعل حرام ولا مخاصمة ومنازعة.()
والرفث هو كل ما يتعلق بالشهوة الجنسية من مقدمات قولية أو فعلية ، والفسوق كل ما يناقض النفوس والإستقامة على الطاعة من المعاصي والآثام كبائر وصغائر أقوال وأفعال كالكذب والغيبة والنميمة والفحش والتعدي والسرقة والظلم وغير ذلك من أشكال أذية المسلمين.
والجدال هنا المخاصمة والمماراة بغير حق ، فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ»() فالرسول هنا ينهى عن الجدال بوجه عام والله تعالى ينهى عن الرفث والفسوق والجدال في الحج ليس فقط لغفران الذنوب كما قال النبي ﷺ في الحديث الذي رواه البخاري : (مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ ) ()عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: “مَنْ قضَى نُسُكَه وسلِم الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ.
،بل لضمان استمرارية ونجاح هذا العمل الجماعي العظيم المتمثل في الحج لهذا نهى النبي عن أخلاق تحول دون نجاح هذا العمل في كل منسك بما يحتاجه من خلق مناسب لهذا المنسك .
وجاء تطبيق هذه القاعدة في صور منها :
1-عدم التعرض للآخرين بالأذى:
فعند الحجر الأسود نهى النبي ﷺ عن المزاحمة حينما قال لعمر : “يَا عُمَرُ، إِنَّكَ رَجُلٌ قَوِيٌّ، لَا تُزَاحِمْ عَلَى الْحَجَرِ فَتُؤْذِيَ الضَّعِيفَ، إِنْ وَجَدْتَ خَلْوَةً فَاسْتَلِمْهُ، وَإِلَّا فَاسْتَقْبِلْهُ فَهَلِّلْ وَكَبِّرْ ” () .
2- التحلى بالسكينة والوقار:
عند الإفاضة من عرفة إلى المزدلفة سمع النبي زجراً شديداً وصوتاً عالياً فنهى عن ذلك وقال:” أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ فَإِنَّ البِرَّ لَيْسَ بِالإِيضَاعِ ” أَوْضَعُوا: أَسْرَعُوا ” ().
3- عدمُ الْغُلُو فِي الدِّينِ :
فعند رمي الجمار نهى النبي عن الغلو في إلتقاط الجمر وأخذ حصوات صغيرة ، وقال بمثل هذا فارموا : فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ ﷺ غَدَاةَ جَمْعٍ : هَلُمَّ الْقُطْ لِي ” فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ هُنَّ حَصَى الْخَذْفِ، فَلَمَّا وَضَعَهُنَّ فِي يَدِهِ، قَالَ: ” نَعَمْ بِأَمْثَالِ هَؤُلاءِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ ” ، وغير ذلك من الأخلاق التي لا يتم العمل الجماعي إلا بها.
محظورات الإحرام :
يقبل العمل الجماعي تحت مظلته المخالف بإرتكابه بعض المعاصي سواءعن عمد أو عن عذر:
ليس معنى التحلي بأخلاق وسلوكيات معينة لازمة لإنجاح وإفلاح هذا العمل هو أن يطرد المخالف لهذه الأخلاقيات خارج هذا العمل وتتركه فريسة للشيطان بعد إن وقع في مخالفة أو مخالفات بعمد أو بغير عمد ، بل من تفرد هذا العمل أنه يقبل في سلكه وتحت مظلته المخالف بإرتكابه بعض المعاصي سواءعن عمد أو عن عذر ، كما قبل المخالف في الوجهة والرأي .
أما إن كان بعذر كما هو الحال في كعب بن عجرة الذي نزلت فيه الآية : ﴿ وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ ( البقرة : 196) ، أي : روى الْبُخَارِيُّ عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَعْقل، قَالَ: فَعُدْتُ إِلَى كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ -يَعْنِي مَسْجِدَ الْكُوفَةِ -فَسَأَلْتُهُ عَنْ {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ} فَقَالَ: حُملْتُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ والقملُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي. فَقَالَ: “مَا كنتُ أرَى أَنَّ الجَهد بَلَغَ بِكَ هَذَا! أَمَا تَجِدُ شَاةً؟ ” قُلْتُ: لَا. قَالَ: “صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ طَعَامٍ، وَاحْلِقْ رَأْسَكَ”. فَنَزَلَتْ فِيَّ خَاصَّةً، وَهِيَ لَكُمْ عَامَّةً .
الحج إنموذج مثالى:لأنه بني على نبذ الفرقة والعصبية والإعتصام بحبل الله المجيد :
وهذه قاعدة أخرى من القواعد وأساس من الأسس التي يبنى عليها العمل الجماعي (نبذ الفرقة والعصبية والإعتصام بحبل الله المجيد) : وهذا درس جديد نتعلمه من الحج كعمل فريد ذلك العمل الجماعي المنظم الذي طهره الله من العنصرية والحزبية ، كما طهره من العصبية ومذموم التقليد .
وجاء تطبيق هذه القاعدة في صور منها :
1-عدم التميز على الآخرين بنعرات أو عصبية جاهلية :
وذلك لأن أهل مكة إذا جاءوا إلى مزدلفة تركوا الناس يفيضون إلى عرفة وهم لا يفيضون بل يرجعون يريدون التميز عن باقي الناس لا لشيء إلا لأنهم أهل مكة والحرم فأنزل الله تعالى قوله : ﴿ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ ( البقرة : 199) ، أي : “ثُمَّ” هَاهُنَا لِعَطْفِ خَبَرٍ عَلَى خَبَرٍ وَتَرْتِيبِهِ عَلَيْهِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْوَاقِفَ بِعَرَفَاتٍ أَنْ يَدْفَع إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ، لِيَذْكُرَ اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَكُونَ وُقُوفُهُ مَعَ جُمْهُورِ النَّاسِ بِعَرَفَاتٍ، كَمَا كَانَ جُمْهُورُ النَّاسِ يَصْنَعُونَ، يَقِفُونَ بِهَا إِلَّا قُرَيْشًا، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَخْرُجُونَ مِنَ الْحَرَمِ، فَيَقِفُونَ فِي طَرَفِ الْحَرَمِ عِنْدَ أَدْنَى الحِل ، وَيَقُولُونَ: نَحْنُ أَهْلُ اللَّهِ فِي بَلَدَتِهِ، وقُطَّان بَيْتِهِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ بسنده عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَتْ قُرَيْشٌ وَمَنْ دَانَ دِينَهَا يَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَكَانُوا يُسَمّون الحُمْس، وَكَانَ سَائِرُ الْعَرَبِ يَقِفُونَ بِعَرَفَاتٍ. فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ ﷺ أَنْ يَأتَي عَرَفَاتٍ، ثُمَّ يَقِفُ بِهَا ثُمَّ يُفيض مِنْهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} ()، وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَغَيْرُهُمْ. وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَحَكَى عَلَيْهِ الْإِجْمَاعَ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بسنده عن جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: ( أضللتُ بَعِيرًا لِي بِعَرَفَةَ، فَذَهَبْتُ أَطْلُبُهُ، فَإِذَا النَّبِيُّ ﷺ وَاقِفٌ، قُلْتُ: إِنَّ هَذَا مِنَ الحَمْس مَا شَأْنُهُ هَاهُنَا؟ ) .أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ .().
2-بل التواضع والانكسار مع كثرة الاستغفار :
{ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 199]
قال ابن كثير : وَقَوْلُهُ: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} كَثِيرًا مَا يَأْمُرُ اللَّهُ بِذِكْرِهِ بَعْدَ قَضَاءِ الْعِبَادَاتِ؛ وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ يَسْتَغْفِرُ ثَلَاثا.
الحج إنموذج مثالى:لأنه بني على التوكل والأخذ بالأسباب لا على تواكل البليد .
وهذه قاعدة أخرى من القواعد وأساس من الأسس التي بني عليها العمل الجماعي : الأخذ بالأسباب : وهو عدم التواكل بزعم أننا معنا الله فهو سينصرنا ، سينصرنا سواء أخذنا بالأسباب أم لم نأخذ وهذا خطأ وقع فيه بعض الناس في بداية الإسلام فكانوا يتركون التزود بالطعام والشراب اللازم لبلوغهم المسجد الحرام وسائر المناسك ، فأنزل الله قوله تعالى : ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ ﴾ ( البقرة : 197 ) ، أي : ما قَالَه الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ أُنَاسٌ يَخْرُجُونَ مِنْ أَهْلِيهِمْ لَيْسَتْ مَعَهُمْ أزْودة، يَقُولُونَ: نَحُجُّ بَيْتَ اللَّهِ وَلَا يُطْعِمُنَا.. فَقَالَ اللَّهُ: تَزَوَّدُوا مَا يَكُفُّ وُجُوهَكُمْ عَنِ النَّاسِ.()
– و عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَحُجون وَلَا يَتَزَوَّدُونَ، وَيَقُولُونَ: نَحْنُ الْمُتَوَكِّلُونَ . فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} . ()
الحج إنموذج مثالى:لأنه رُجِمَ فيه إبليس العدو اللديد .
وهذه قاعدة أخرى من القواعد وأساس من الأسس التي بني عليها العمل الجماعي ( رجم إبليس ) :
يأتي الحج ويعلمنا أن سر نجاح أي عمل جماعي رجم إبليس وما عساه أن يقوم به من تحريش بين الموحدين فإن الشيطان يأس أن يعبده الموحدون الحنفاء الحجاج ولكنه لم ييأس من التحريش والوقيعة بينهم بالخصومات والشحناء والحروب والفتن وغيرها ،
فعَنْ جَابِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ ، يَقُولُ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ»،فلهذا ينبغي رجمه ومحاربته بكل الوسائل.
ومن هذه الوسائل :
1- قول التي هي أحسن ، قال تعالى : ﴿ وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً ﴾ ( الإسراء : 53 ) ، أي :
[[ يَأْمُرُ تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْمُرَ عِبَادَ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ، أن يقولوا في مخاطباتهم ومحاوراتهم الكلام الْأَحْسَنَ وَالْكَلِمَةَ الطَّيِّبَةَ؛ فَإِنَّهُ إِذْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ، نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنَهُمْ، وَأَخْرَجَ الْكَلَامَ إِلَى الْفِعَالِ، وَوَقَعَ الشَّرُّ وَالْمُخَاصَمَةُ وَالْمُقَاتَلَةُ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ عَدُوٌّ لِآدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ مِنْ حِينِ امْتَنَعَ مِنَ السُّجُودِ لِآدَمَ، فَعَدَاوَتُهُ ظَاهِرَةٌ بَيِّنَةٌ؛ وَلِهَذَا
نَهَى أَنْ يُشِيرَ الرَّجُلُ إِلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ بِحَدِيدَةٍ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ فِي يَدِهِ، أَيْ: فَرُبَّمَا أَصَابَهُ بِهَا ]] .().
2-العلم بوجه عام وبمداخل إبليس يوجه خاص:
3- الدفع بالتي هى أحسن:
{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ } [المؤمنون: 96 – 98]
{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [فصلت: 34 – 36]
قال ابن كثير : وَقَوْلُهُ: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} أَيْ: فَرْقٌ عَظِيمٌ بَيْنَ هَذِهِ وَهَذِهِ، {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أَيْ: مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ فَادْفَعْهُ عَنْكَ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا عَاقَبْتَ مَنْ عَصَى اللَّهَ فِيكَ بِمِثْلِ أَنْ تُطِيعَ اللَّهَ فِيهِ.
وَقَوْلُهُ: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} وَهُوَ الصَّدِيقُ، أَيْ: إِذَا أَحْسَنْتَ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ قَادَتْهُ تِلْكَ الْحَسَنَةُ إِلَيْهِ إِلَى مُصَافَاتِكَ وَمَحَبَّتِكَ، وَالْحُنُوِّ عَلَيْكَ، حَتَّى يَصِيرَ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ لَكَ حَمِيمٌ أَيْ: قَرِيبٌ إِلَيْكَ مِنَ الشَّفَقَةِ عَلَيْكَ وَالْإِحْسَانِ إِلَيْكَ.
ثُمَّ قَالَ: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا} أَيْ: وَمَا يَقْبَلُ هَذِهِ الْوَصِيَّةَ وَيَعْمَلُ بِهَا إِلَّا مَنْ صَبَرَ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَشُقُّ عَلَى النُّفُوسِ، {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} أَيْ: ذُو نَصِيبٍ وَافِرٍ مِنَ السَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى.قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْغَضَبِ، وَالْحِلْمِ عِنْدَ الْجَهْلِ، وَالْعَفْوِ عِنْدَ الْإِسَاءَةِ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمَهُمُ اللَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَخَضَعَ لَهُمْ عَدُوُّهُمْ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ.
وَقَوْلُهُ: {وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} أَيْ: إِنَّ شَيْطَانَ الْإِنْسِ رُبَّمَا يَنْخَدِعُ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ، فَأَمَّا شَيْطَانُ الْجِنِّ فَإِنَّهُ لَا حِيلَةَ فِيهِ إِذَا وَسْوَسَ إِلَّا الِاسْتِعَاذَةَ بِخَالِقِهِ الَّذِي سَلَّطَهُ عَلَيْكَ، فَإِذَا اسْتَعَذْتَ بِاللَّهِ وَلَجَأْتَ إِلَيْهِ، كَفَّهُ عَنْكَ وَرَدَّ كَيْدَهُ. وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ يَقُولُ: “أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ” () .
4- خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ:
قال ابن كثير : وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذَا الْمَقَامَ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي “سُورَةِ الْأَعْرَافِ” عِنْدَ قَوْلِهِ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الْأَعْرَافِ: 199، 200] ، وَفِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ قَوْلِهِ: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [الْمُؤْمِنُونَ: 96 -98] .
لَكِنَّ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْأَعْرَافِ أَخَفُّ عَلَى النَّفْسِ مِمَّا ذُكِرَ فِي سُورَةِ السَّجْدَةِ؛ لِأَنَّ الْإِعْرَاضَ عَنِ الْجَاهِلِ وَتَرْكَهُ أَخَفُّ عَلَى النَّفْسِ مِنَ الْإِحْسَانِ إِلَى الْمُسِيءِ فَتَتَلَذَّذُ النَّفْسُ
ََمِنْ ذَلِكَ وَلَا انْتِقَادَ لَهُ إِلَّا بِمُعَالَجَةٍ وَيُسَاعِدُهَا الشَّيْطَانُ فِي هَذِهِ الْحَالِ، فَتَنْفَعِلُ لَهُ وَتَسْتَعْصِي عَلَى صَاحِبِهَا، فَتَحْتَاجُ إِلَى مُجَاهَدَةٍ وَقُوَّةِ إِيمَانٍ؛ فَلِهَذَا أَكَّدَ ذَلِكَ هَاهُنَا بِضَمِيرِ الْفَصْلِ وَالتَّعْرِيفِ بِاللَّامِ فَقَالَ: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَليم.