الصراط المستقيم

السيرة النبوية الحلقة رقم (19) أبوطالب يبكي .. أقْبِلْ يا بن أخي

بقلم : الدكتور محمد النجارالسيرة النبوية الحلقة رقم (19) أبوطالب يبكي .. أقْبِلْ يا بن أخي 2

ذكرنا في الحلقة السابقة(18) كيف دخل المسلمون الاسلام من رجال ونساء ، أغنياء وفقراء ، احرار وعبيد رغم ما كانوا يتعرضون له من تعذيب  من طغاة قريش ، والتدليل به على عدم صحة ما ينشره اعداء الاسلام   بانتشار الاسلام بحد السيف.

ونبدأ  الآن في الحلقة (19) بإذن الله  عنوان الحلقة ((أبوطالب يبكي و بأعلي صوت : أقْبِلْ يا بن أخي)). استعلن النبي صلى الله عليه وسلم عشيرته بدعوته بعد ان كانت سرا ثلاث سنوات .. وبعد ان وقف على جبل الصفا ونادى قومه : ناداهم بطناً بطناً ، ويقول لكل بطن : (( انقذوا أنفسكم من النار …)) ثم قال لابنته فاطمة  : يا فاطمة ! أنقذي نفسك من النار ، فإني لا أملك  لكم من الله شيئا ، غير أن لكم رَحِمًا  سأَبُلُّها  بِبِلالِها  ))  البخاري ومسلم.

سكت القوم ،  لكن لم يسكت  عمه (شقيق والده ) أبو لهب الذي يشتعل قلبه حقدا وحسدا . وكان أبو لهب  كثير المال  وتطغى النواحي  المادية على حياته كلها  ،  لا يهمه سوى جمع المال  ورخاء الحياة  التي يعيشها  دون الاهتمام  بمصيره عندما تنتهي به الحياة .. وهذا كان مبعث رده على محمد ابن اخيه والدعاء عليه بالهلاك .. وسنتحدث عن ابي لهب في حلقة قادمة مع كيقية موته هو والمستهزئين برسول الله وكيف انتقم الله منهم ليكونوا عبرة  للجبابرة والظالمين ..

حاول مشركوا  قريش التخلص من دعوة محمد صلى الله عليه وسلم بشتى الطرق والقضاء على مصدر الحماية له التي تتمثل  في  عمه  أبي طالب الذي يقف  مع ابن اخيه ، فأرسلوا وفودا  للتفاوض معه  حتى يفكوا الارتباط بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم لتسهيل القضاء  على دعوة الاصلاح الآلهية  مثلما نرى في عالمنا المعاصر من مفاوضات لفرض ارادة الدول الأقوى على الدول الأضعف وعلى شعوبها  والتي تنتهي بانتصار الأمم والشعوب التي تملك حريتها وارادتها  حتى لو كانت أضعف في قوتها وعتادها.

الوفد الاول  : محاولة قريش إثناء أبي طالب وتخليه عن ابن اخيه :

حَاوَلَتْ قريش التفاهم مع  أبي طالب الذي يحدب عن ابن اخيه (محمد صلى الله عليه وسلم) ويدافع عنه  ، مع محاولة إثناءه عن الوقوف بجانبه  خاصة ان أبا طالب لم يؤمن بما جاء به ابن أخيه .

قال ابن اسحاق   :  (كتاب : تاريخ الامم والملوك – تاريخ الطبري ص 317)

صدع رسول صلى الله عليه وسلم بأمر الله وبادى قومه بالإسلام ، فلما فعل ذلك لم يبعد منه قومه ، ولم يردوا عليه بعض الرد حتى ذكر آلهتهم وعابها .  فلما فعل ذلك ناكروه وأجمعوا على خلافه وعداوته إلا من عصم الله منهم بالإسلام ،وهم قليل مستخفون . وحدب عليه ابو طالب عمه ومنعه ، وقام دونه ، ومضى رسول الله على امر الله مظهرا  لأمره ، لا يرده عنه شئ . فلما رأت قريش ان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعتبهم من شئ يكرهونه مما أنكروه عليه من فراقهم وعيب آلهتهم ، ورأوا ان أبا طالب قد حدب عليه ، وقام دونه فلم يسلمه لهم .

معاني كلمات : لا يعتبهم في شئ  : أي لا يستجيب لهم فيما طلبوه منه .

حدب عليه : أي دافع عنه

فقررت قريش ارسال  وفد  رجال من اشراف قريش الى أبي طالب :

  1. عتبة بن ربيعة
  2. شيبة بن ربيعة
  3. أبو البختري بن هشام
  4. الأسود بن المطلب
  5. الوليد بن المغيرة
  6. أبو جهل بن هشام
  7. العاص بن وائل
  8. نبيه ومنبه ابنا الحجاج

أو من مشى اليه منهم   .

فقالوا :  يا أبا طالب ، إن ابن اخيك قد سبَّ آلهتَنا ، وسفَّه أحلامنا ، وضلل آباءنا ،  فإما أن تُكفَّه عنا ، وأما ان تخلِّي بيننا وبينه ، فإنك على مثل مانحن عليه من خِلافه ، فنَكْفيكه ، فقال لهم ابو طالب  قولا رفيقا ، وردهم ردا جميلا ، فانصرفوا عنه.

ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته الى الله بعد تهدئة عمه أبي طالب لوفد قريش وردهم من حيث جاءوا  ردا جميلا . فانصرفوا عنه ، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما هو عليه ، يُظهر دين الله ، ويدعو اليه    .

تاريخ الامم والملوك – تاريخ الطبري ص  317

و استمر النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الى الله تعالى ليلا ونهارا ، سرا  وعلانية ، لا يثنيه عن دعوته ما جاء به الوفد في محاولة صرفه عن دعوته وإثناء عمه ابي طالب في التخلي عنه . استمر في دعوته لا يصرفه عن ذلك صارف ولا يرده عن ذلك راد ، ولا يصده عن ذلك صاد ، يتابع الناس في انديتهم ، ومجامعهم ومحافلهم وفي المواسم ، ومواقف الحج . يدعو من لقيه من الناس دون تفرقة بين قوى وضعيف ، وغني وفقير ، أو  بين حر و عبد ، انهم جميعا خَلْق الله وفي حاجة الى توحيد الله وعبادته  .

وتسلط عليه الاشداء الاقوياء من مشركي قريش وعلى من اتبعه بالأذية القولية والفعلية .

قريش تطلب تسليم محمد :

الوفد الثاني : قريش تطلب تسليمها محمد  :

زادت وتيرة الدعوة واستقطبت اعدادا كبيره مما أثار حفيظة قريش ، فأرسوا وفدا جديدا الى أبي طالب بتسليمهم محمد  أو التهديد والوعيد والمنازلة لأبي طالب وابن اخيه محمد  صلى الله عليه وسلم .. فقالوا له :

يا أبا طالب ، إن لك سنَّا وشرفا ومنزلةً فينا ، وإنا  قد استنهيناك من أبن اخيك فلم تَنْهَهُ عنَّا ، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا ، وتسفيه أحلامنا ، وعيب آلهتنا ، حتى تكفَّه عنا ، أو نُنازله وإياك في ذلك ، حتى يَهلك أحدٌ الفريقين ، ثم انصرفوا عنه.

بهذا التهديد اصبح ابو طالب بين امرين : إما  إن يحافظ على مكانته في قومه ويقوم بتسليم ابن اخيه الى أعداءه ، ويفعلون به ما يريدون من تعذيب وتشريد وقتل ليتخلصوا من شره المزعوم ، وإما ان يستبقي على ابن  أخيه ويحميه من شر قومه مهما كلفه ذلك من عداوة قومه وفقدانه منزلته بينهم …

فهل يضحي أبو طالب با ابن أخيه حتى يستبقى مكانته مع قريش؟؟

استدعاء عاجل من ابي طالب الى محمد :

لم يتوقع ابو طالب تهديد قريش ووعيدهم له ولابن اخيه  ، فاستدعى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بهذا الخطر الداهم  من قريش إذا لم يكف عن دعوته التي ازعجت قريش .

فقال ابو طالب لابنه عقيل : انطلق فأتني بمحمد . يقول عقيل : فانطلقت أليه فاستخرجته من كنس – أو قال خنس – يقول بيت صغير ، فجاء به في الظهيرة في شدة الحر     .

النبي يستمع تهديد عمه ابي طالب  :

فلما حضر النبي صلى الله عليه وسلم ، قال له أبو طالب :

(( يا ابن أخي ، إن قومك قد جاءوني ، فقالوا لي كذا وكذا  ، فأبْقِ علىَّ وعلى نفسك ، ولا تحملني من الأمر ما لا أُطيق    )).

بهذه الكلمات القوية  استقبل أبو طالب ابن أخيه محمد صلى الله عليه وسلم ، ونقل له تهديد قريش ووعيدهم له ، وطلب  منه التخلي عن دعوته وتقدير ظروف عمه على عدم قدرته على  مجابهة صناديد ومشركي قريش .

بهذا التهديد والوعيد  استمع النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمه وتبادرت الى ذهنه الشكوك و الظنون أن عمه ابو طالب  سيتخلى عن نصرته ، وسيخذله ، و يُسْلمه .

النبي يرفض الاستسلام والتخلي عن دعوته

وتحت تأثير ضغط قريش على عمه للتخلي عنه ، ورغم تقدير النبي صلى الله عليه وسلم  للموقف الذي يعانيه عمه مع قريش بسبب الدفاع عنه ، فقد أعلن النبي صلى الله عليه وسلم موقفه الواضح قائلا :

(( يا عم … والله لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمرَ في يساري على ان اترك هذا الأمر حتى  يُظهره  الله ، أو أهلك فيه ،  ما تركته…))..

فتأثرت نفسه وحزن قلبه ، وبكت عينه ، وانهمرت دموعه عندما شعر  أن عمه تخلى عنه في هذا الموقف الصعب الذي سيواجه به مشركي قريش منفردا وحيدا  بعد أن كان يحتمي في عمه .

ثم استعبر  رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، فبكى ثم قام )).

وانظروا الى الادب في كلمات الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في لحظة الشدة عندما يقسم بالله إنه لن يترك دعوة الله حتى لو كان ثمن ذلك هلاك نفسه وفقدان حياته  ، وقد بدأ القسم بلفظ الجلالة العظيم ..القسم  بالله ..ثم  بكلمة (( يا عم))..

فلم ينس النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف تربية عمه له وكفالته له وهو صغير ، ورعايته له حتى اشتد عوده ، ولم يواجه كلمات عمه بغلظة أو بكلمات تحمل الاساءة .. بل استجمع كل معاني الحب والصدق والمحبة والرحم في كلمة ((ياعم)).. انه الادب النبوي الذي يفتح القلوب .. كما إن إعلانه الصريح بالاستمرار في دعوته أو الهلاك دونها ، وهو بذلك  يرفع الحرج عن عمه ويتحمل بنفسه عاقبة الامر  من هلاك وسوء اذا لم يستطع استكمال دعوته ..

ومع ذلك نرى الفطرة الانسانية في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم والانس بصلة قرابته بعمه الذي كان له بمثابة الأ ب منذ كفالته له وهو صغير  وحمايته له وهو كبير ، فكان يتعشم باستمرارية حب عمه و بقاء حمايته له .

دموع النبي تؤثر في أبي طالب :

خرج النبي صلى الله عليه وسلم من هذا المشهد باكيا والدموع تملأ عينيه  متأثرا  بكلمات عمه ابي طالب الذي كان بمثابة أبيه ، فهو الذي رباه منذ طفولته  بعد وفاة جده عبدالمطلب منذ ان كان عمره ثماني سنوات ورعاه وحافظ عليه من كل دواهي الحياة!

وأخذت الافكار والهواجس تدور  في خلجات قلبه ، فكيف يتخلى عمه عنه في هذا الموقف العصيب  الذي تُهدد فيه قريش حياة  ابن أخيه الذي رباه وضمه اليه ضمن ابناءه ؟؟

تأثر ابو طالب  بكلمات ابن أخيه الذي رباه في بيته واصبح واصبح بحكم وجوده في بيته ضمن اولاده  وشعوره ببنوته له.

وراجع أبو طالب نفسه ! كيف يترك ابن اخيه ويسْلمه الى المشركين ؟

فليس من شهامة العرب تسليم ابناءهم  أوابناء قبائلهم ومواليهم لأعدائهم ؟!

فكيف اذا كان ذلك المطلوب تسليمه هو ابن اخيه الذي رباه ورعاه في بيته وكان أخا لأبنائه وابنا له ؟؟

ويستجمع ابو طالب فكره  ،  ويحن قلبه لابن اخيه ويصيح بأعلي صوته ويناديه :

أبوطالب  بأعلي صوت : أقْبِلْ يا بن أخي .

فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال ابو طالب :

(( اذهب يا بن أخي ، فقل ا أحببت ، فو الله لا أُسلمك  لشئ  أبداً    )). السيرة النبوية – بن هشام ص 266

وبهذا رفض ابو طالب مطالب  قريش وعدم استسلامه لهم ، ورفض خذلان ابن اخيه .

وقد أنشد ابو طالب ابياتا  يُقسم فيها بالله  انه لن يصل المشركون بضرر لابن اخيه محمد صلى الله عليه وسلم مازال حيا ، ويشهد بصدقه وصحة دينه الذي جاء به ، وان الذي منعه من الدخول في هذا الدين هو خشية الملامة من قومه بأنه ترك دين اباءه

قال ابن اسحاق  : ثم قال أبو طالب في ذلك    :

واللهِ لن يصلوا  إليك بجمعِهم             حتى أُوسَّــــد في التــــــراب دَفينـــــــــــــــا

فامضي لأمرِك ما عليك غضاضةَ               أبْشـــــــــــــر وقـــرَّ بذاك منــــــك عيونا

ودعوتَني وعلمتُ أنك ناصحي                     فلقد صــــــــدقت وكنت قِدمُ أمينا

وعرضت دِينا  قد عرفتُ بأنه                  من خيـــر أديـــــــــــــان البريــة دينـــــا

لولا الملامةُ أو حِذَاري  سُــبة                   لوجدتني ســــمحاً بــذاك مُبينــــــا

ثم قال البيهقي  وذكر ابن اسحاق  لألي طالب  في ذلك اشعارا ، وفي ذلك دلالة على ان الله تعالى عصمه بعمه مع خلافه إياه في دينه ، وقد كان يعصمه حيث لا يكون عمه بما شاء لا معقب لحكمه.

صفقة قريش  لأبي طالب :

ادركت قريش وقوف ابي طالب جنب ابن اخيه وعدم تسليمه لهم مهما كلفه ذلك ، فاحتالوا عليه بعرض جديد من نوعه يتمثل في اعطاءه شاب قوى عاقل ذي رأي وتسليمها محمد لهم.

فقالوا له : يا أبا طالب ، هذا عُمارة بن الوليد بن المُغيرة، أنهد فتى في قريش وأجمله ، فخذْه .. فلك عَقلُه ونصرُه، واتخذه ولدا  فهو لك ، وأسلِمْ إلينا ابن اخيك هذا الذي قد خالف دينك ودينَ آبائك ، وفرق جماعة قومك ، وسفَّه أحلامَهم ، فنقتله ، فإنما هو رجلٌ برجل.

فهل يخضع ابو طالب الى مطلب قريش بحجة تحقيق المصالح ودفع المفاسد ؟ ويتم تسليم محمد الى اعداءه مقابل شاب جاهز  يتمتع بعقل وحكمة وجاه ويتجنب بذلك مشاكل كبرى من قريش..؟

أبوطالب يرفض تسليم محمد لأعدائه :

لم يخضع ابوطالب  لأعداء محمد ! ورفض تسليمه لهم لأن الرجولة والشهامة ترفض تسليم ابناء الوطن والقبيلة لأعدائهم !

وتأبي الاخلاق الانسانية  تحت أي مسميات  أو مسببات .

أفقال ابو طالب : والله لبئس ما تساومونني ! أتعطوني ابنَكم أغذوه لكم ، وأُعطيكم ابني تقتلونه ؟؟؟ هذا والله ما لا يكون أبدا.

فقال المطعم ابن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن قصي: والله يا أبا طالب لقد انصفك قومُك، وجهدوا على التخلص مما تكرهه ، فما أراك تريد ان تقبل منهم شيئا .

فقال ابو طالب للمُطعم : والله ما انصفوني ، ولكنك قد أجمعت خذلاني ومُظَاهرة القوم علي ، فاصنع ما بدا  لك   .

قال مقاتل :كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ابي طالب يدعوه الى الاسلام ، فاجتمعت قريش الى أبي طالب يريدون بالنبي صلى الله عليه وسلم سوءا ، فقال أبو طالب : حين تروح الإبل .. فإن حَنِّتْ ناقةُ الى غير فصيلها دفعته إليكم.

وسبب قول أبي طالب هذا : أنهم أتوه بعمارة بن الوليد ليتخذه ولدا ويعطيهم النبي صلى الله عليه وسلم  ليقتلوه   .

 

انتهت الحلقة السابعة عشر (19) ، ونلتقي معكم  بإذن الله في الحلقة الثامنة عشر(20) يوم الجمعة القادم  مع فقه السيرة وظلال النبوة.   مع ملاحظة  احتفاظي بالمراجع لعدم امكانية نشرها في الجريدة في الوقت الحاضر..

 

السيرة النبوية الحلقة رقم (19) أبوطالب يبكي .. أقْبِلْ يا بن أخي 3
د. محمد أحمد  النجار 
 الحمعة 13 ربيع أول 1439هـ
الموافق 1ديسمبر 2017

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.