بقلم : الدكتور محمد النجار
ذكرنا في الحلقة الاولى اهمية دراسة السيرة النبوية والتي تكمن في أن قواعد الدين الاسلامي قد استُنبطت من دراسة السيرة النبوية واحداثها ، واستنباط كل ما يتعلق بالاعتقاد واليقين ، وكذلك ما يتعلق بالتشريع والمعاملات. والتأسي بمنقذ البشرية من الضلال والتيه الى الهداية والرشاد والارتقاء بالإنسانية أجمع. كما إن دراسة السيرة النبوية ضرورية لفهم دين الاسلام فهما علميا نظريا وعمليا على منهاج النبوة..
ونبدأ في الحلقة الثانية من السيرة النبوية العطرة فيما يلي :
اولا : لماذا بُعث النبي في جزيرة العرب ؟؟
كانت الجزيرة العربية مُحاطة بحضارتين في الشمال والجنوب ، وكانت ببيئة هادئة بعيدة عن الأفكار الهدَّامة “المبتكرة” عقديًّا، وتنعم بالأفكار السطحيَّة البدوية الساذجة بعيدة عن التيارات الفكرية المنحرفة، التي كانت سائدة في روما وفارس واليونان، وتلك كانت ميزة مهمة في تلك البقعة من ارض الله. ولا ننكر انها كانت بيئة موبوءة بانحرافات سلوكيَّة، ورَغْم ذلك لم ترقَ إلى ما يهدم الكيان الانساني ويُحلله، ومحفوظة من المناهج الفلسفيَّة والنظم الاجتماعيَّة الماحية لإنسانية الإنسان وقُوته..
1) الفرس في جنوب الجزيرة العربية:
كان الفرس في جنوب الجزيرة يعبدون النار مع انتشار الفلسفات الدينية المتصارعة ولديهم مذهبان متصارعان يقومان على فلسفة غير اخلاقية :
- المذهب الزرادتشي : وغالبا ما يعتنقه اصحاب السلطان ، وكان من فلسفته تفضيل زواج الرجل بأمه أو ابنته او اخته. حتى ان يزدجرد الثاني الذي كان يحكم في اواسط القرن الخامس الميلادي تزوج بابنته..
- المذهب المزدكي : كان يعتنقه اصحاب الاهواء ويقوم على مذهب غير اخلاقي يتمثل في حل النساء وإباحة الاموال مع حق الشراكة العامة فيهما. كما سادت مفاسد وانحرافات اخلاقية مشينة. (كتاب الملل والنحل للشهرستاني 86و87/2)
يقول المؤلف الالماني الشهير “نيتشه في كتابه هكذا تكلم زرادشت:
زرادشت سأل القديس : ماعمل القديس في هذا الغاب؟ فأجاب القديس : انني انظُم الاناشيد لأترنم بها ولأنني بالإنشاد والبكاء والضحك والمناجاة اسبح الله ربي. وعندما انفرد زرادشت قال في نفسه : انه لأمرٌ جدٌ مستغرب، ألم يسمع هذا الشيخُ في غابته أن الإله قد مات .
2) الرومان في الشمال :
كان الرومان في الشمال يسيطر عليها الروح الاستعمارية ،وكانت في خلاف ديني داخليا من جهة، وخلاف ديني بينها وبين نصارى الشام ومصر من جهة اخرى، وكانت تعتمد على قوتها العسكرية وطموحها الاستعماري و تتلاعب بالمسيحية حسبما توحي به مطامعها ، ولم تكن أقل انحلالا من دولة الفرس، بل تسودها حياة التبذل والانحطاط والظلم الاقتصادي من جراء كثرة الإتاوات ومضاعفة الضرائب.
قال أحد رهبان الكنيسة: كانت أطراف المدينة – أي: روما – جميعًا ملأى بالجدل ترى ذلك في الأسواق، وعند باعة الملابس، وصيارفة النقود، وباعة الأطعمة، فأنت تريد أن تبدل قطعة من ذهب، فإذا بك في جدل عمَّا خُلق، وعما لم يخلق، وأنت تريد أن تقف على ثمن الخبز، فيجيبك مَن تسأله: الأب أعظم أم الابن؟ والابن خاضع له….. “كتاب حياة محمد”- د. محمد حسين هيكل، ص71
3) اليونان :
كان يسودها الخرافات والاساطير وغارقة في الفلسفات الكلامية التي لم تخرج بنتائج حضارية مفيدة ، بل انتشرت اساطير قصص قدماء الملوك والابطال الذين كانوا يعبدونهم كأنهم نصف أرباب ، فقد ذكروا في أثينا أن الملك الاول المدعو (سكروبس) كان نصفه ملكا ونصفه حية…الخ .
ان العامل المشترك بين هذه الامم المختلفة يكمن في الانحلال والاضطراب ، لأن حضارتهم ومدنيتهم قامت على اساس المادية فقط دون العنصر الأخلاقي . ان الحضارة بمختلف صورها ومظاهرها ومقوماتها ليست سوى سبب ووسيلة للارتقاء بالإنسان فإن فقد أهلها التفكير الصائب والمثل الاخلاقي الاعلى سوف تؤدي الى هبوط الإنسانية الى د رك الشقاء ..
كيف تتحقق السعادة للإنسانية وقد فقدت الاخلاق والعقل الرشيد ..ولن يكون هناك سبيل للعقل الرشيد والسعادة الانسانية إلا بمنهج ودستور يحفظ للإنسان حريته وكرامته وانسانيته، ولن يكون هذا الدستور سوى المنهاج الالهي .
ثانيا : أحوال جزيرة العرب قبل الاسلام :
تتألف معظم جزيرة العرب من صحارٍ، ويحيط بها البحر الأحمر من الغرب، وبحرُ عُمان والخليج العربي من الشرق، والمحيطُ الهنديُّ من الجنوب، وتتصل من أقصى غربها و شرقها بإفريقيا وآسيا.
كانت جزيرة العرب في عزلة عن تلك الانحرافات العقدية والصراعات والضلالات الحضارية بسبب بعدها عن المدنية وحياة
الترف، مما قلل من وسائل الانحلال الخلقي والطغيان العسكري التي كانت تمر بها الامبراطوريات التي تحيط بها بل كان لدى العرب اخلاق مثل الشجاعة والنجدة والكرم والاباء ونصرة المظلوم وغيرها من الاخلاق الانسانية التي يشوبها بعض الانحراف الذي يفتقد الى القيادة تزيل الغمامة والتشويش من العقل العربي وترسم لهم طريق الحق والصلاح وترشدهم الى الله ..
بينما كانت الحضارات المحيطة بالعرب تغرق في الخرافات والاساطير والمعايير المادية التي تفتقد الاخلاق وغير مؤهلة لحمل رسالة عالمية تًخرج البشرية من الظلام والضلال الذي تغرق فيه إلى طريق الحرية والرشد والحق والهداية.
ثالثا : حكمة الله في اختيار العرب و الجزيرة العربية :
سبق ان اوضحنا فيما سبق احوال العالم قبل الاسلام ، ونرى ان الله اختار الارض العربية لتكون مهدا للدين الخاتم الذي يهدي به الانسانية الى يوم الدين للميزات التي تتمتع بها فيما يلي :
1.موقع الجزيرة العربية المتميز وسط قارات العالم القديم ( اسيا وافريقيا واوربا ) مما يمكنها من بث اشعاعات نور الدعوة والهداية الى الله لكل شعوب العالم في سهولة ويسر .
2.وجود البيت الحرام في الجزيرة العربية والذي جعله الله – عزَّ وجلَّ مَثَابة للناس وأمْنًا، وهو أول بيت وضع للناس للعبادة وإقامة الشَّعائر الدينيَّة، وتحقَّق الامتداد في ذلك الوادي بين دعوة أبي الأنبياء إبراهيم – عليه الصلاة والسلام – في تلك البقعة المباركة نفسها مهدًا للدعوة الإسلامية، وبين بعثة خاتم الأنبياء والمرسلين خاصة وانه من نسل إبراهيم – عليه الصلاة والسلام .
3.كانت اللغة العربية هي اللغة الوحيدة في الجزيرة العربية بخلاف الامبراطوريات المحيطة بها التي تتكلم لغات متعددة وثقافات مختلفة .
4.اختار الله سبحانه وتعالى أنْ تكونَ اللغة العربية هي الأداة المباشرة الأولى لترجمة كلام الله – عزَّ وجلَّ- وإبلاغه للبشرية جمعاء ، حيث تَمتاز بكثير من الخصائص، التي يعزُّ وجودها في اللغات الأخرى من حيث الحيوية و مرونة تعبيراتها و سعتها …الخ، و من ناحية اخرى فأن اللغة العربية ـ كما جاء في الأحاديث ـ هي لغة عدد من الأنبياء العظام السابقين عليهم السلام ) ،وقد ورد أن خمسة أنبياء من العرب هم (هودٌ وصالح وَ شُعيبٌ وَ إِسماعيلُ وَ محمدٌ – عليهم السلام ) ، و أن لغة النبي آدم ( عليه السَّلام ) حينما كان في الجنة كانت العربية ، حيث أنها لغة أهل الجنة ، و ستكون العربية لغتهم التي يتكلمون بها في الجنة ، وهذ كله يُرجح اختيار اللغة العربية لأن تكون لغة القرآن الكريم .
5.كان العرب في الجزيرة العربية بعيدين عن مظاهر المدنية ، ولم تؤثر فيهم مظاهر الحضارات المحيطة بهم، فهم كما يقال خامات طبيعية خالية من مؤثرات الافكار الأخرى.
6.كثرة الزوار الذين يفدون على مكة المكرمة لزيارة بيت الله الحرام مما يسهل انتقال الدعوة الاسلامية الى انحاء الارض بسهولة ويسر دون عناء ..
وربما بهذه الاسباب اصطفى الله سبحانه وتعالى الجزيرة العربية لتكون مهبطا للوحي وانطلاقا لرسالة الاسلام الخالدة.
انتهت الحلقة الثانية وسنبدأ الحلقة الثالثة بإذن الله بما يلي :
1- علاقة دعوة النبي بالدعوات السماوية السابقة
2- نسب النبي صلى الله عليه وسلم
3- ولادة النبي صلى الله عليه وسلم
4- وتتابع الاحداث
استودعكم في رعاية الله