بقلم : الدكتور : محمد النجار
استعرضنا في الحلقة التاسعة انقطاع الوحي وأهم الدروس المستفادة من فترة الوحي في الرد على المشككين في بعثة ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، ودور خديحة رضي الله عنها في تثبيت النبي حتى الوحي ومدى حاجة المرأة المسلمة للاقتداء بأم المؤمنين في الدعوة الى الله، ونبدأ الآن في الحلقة العاشرة بإذن الله عنوان الحلقة ( يا علي إذا لم تُسْلِمْ ، فَاكْتُمْ ).
عناصر الموضوع: 1- بداية الدعوة سرا 2- اوائل من اسلموا 3- دروس مستفادة من الدعوة سرا 4- الجهر بالدعوة 5- الايذاء
النداء الاعظم ببدء الدعوة الى الله :
بعد عودة الوحي الى النبي صلى الله عليه وسلم الذي انقطع فترة، بدأ التكليف الالهي للنبي بعدم الاكتفاء بالتعبد في غار حراء وحيدا والاتصال بربه خفية وتضرعا ، فإن هذا لايكفي للرسول الذي اختاره الله ليكون خاتما للنبيين واخر الرسل اجمعين ، بل عليه ان يتحدث عن الله أمام البشرية اجمعين. وتكون معه :
1- العبادة الفردية التي تقوي روحه المتوجهة الى الله وحده .
2- العبادة الجماعية في دعوة الناس الى عبادة الله وحده واصلاح سلوك البشرية والاتجاه بها الى الله وحده .
فنزل جبريل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره بأمر الله له ( يا أيها المدثرُ ، قم فأنذرْ ، وربك فكبرْ ، وثيابك فطهِرْ ، والرجزَ فاهجرْ ، ولا تمنُنْ تستكثِرُ ، ولربك فاصبرْ )
لم يكن امرُ دعوة الناس الى الله أمرا سهلا وانما كان جهادا مضنيا شاقا يتطلب ارادة قوية وحكمة عظيمة وصبر مؤلم مرير، فقد كانت العرب تعبد الاصنام التي بلغ عددها حول الكعبة أكثر من (360) صنما ولكل قبيلة اصنام بعينها يخصونها بالعبادة.
وكان من الصعب على النبي صلى الله عليه وسلم ان يدعو كل العرب في آن واحد ، حيث سيدخل معهم في صدام مباشر لن يكون في مقدوره مواجهتهم في هذه المرحلة من بداية الدعوة ، بل لن يكون هذا الصدام في صالح الدعوة نفسها .
فاختار النبي صلى الله عليه وسلم اسلوب الدعوة السرية في بداية الدعوة .
الدعوة الخفية ( السرية ) :
بدأت الدعوة سرية لتتكون خلية الاسلام ، لأن الجهر يبددها قبل أن تتكون حتى ويشتد عودها وتتكون سوقها.
فإن كل فكرة جديدة تحتاج أن يلتقي حولها قلوب مؤمنة بها ويتولى من بعد ذلك إعلانها والمجاهرة بها ، ثم لابد من تكوين من يتقدمون الدعوة ، كمثل تكون الجنين في بطن امه ، فإنه لا يظهر للوجود قبل ان يكون حيا حياة كاملة صالحا لأن يقاوم دواعي الفناء وضمان توافر عناصر البقاء والتغذي بكل اسباب القوة ، وهذا ماتحتاج اليه الدعوة في أن تكون سرية ، ثم ظهورها الى العلن وهي تقوى على مجابهة كل من يعارضها .
وقد بدأ النبي صلى الله عليه وسلم الدعوة سرا ، فكان لا يدعو إلا قرابته وأولياءه وأهل بيته واصدقاءه المقربين ، و يدعو اهل الخير والصدق والحكمة ، وكان لا يدعو في المجالس العامة لقريش تجنبا للمواجهة والصدام.
لقاء المؤمنين في دار الارقم بن ابي الارقم :
وظلت الدعوة خفية ثلاث سنوات أسلم خلالها ثلاثون رجل وامرأة ، ولما بلغوا اربعين اختار لهم بيت احدهم يلتقون فيه يرشدهم ويعلمهم تعاليم الاسلام ، فاختار لهم دار (الارقم ابن أبي الارقم) ليكون أول مدرسة لتعليم الاسلام .
كان نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بداية عهد جديد في حياة الانسانية بعد ما انقطع ، وتاهت البشرية في دياجير الظلام. وان المسئولية التي ألقيت على النبي صلى الله عليه وسلم كانت مسئولية عظمى ، لا يستطيع أن يتحملها إلا من هيأه الله واختاره لحمل هذه الرسالة وتبليغها للبشرية اجمع .
أوائل من اسلموا:
كانت أول خلية ايمانية في تاريخ الاسلام تبدأ في بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، فكان اول بيت دخل فيه الاسلام هو بيت النبوة ، وكانوا ثلاثة الذين ادركوا تلك الاسبقية في الاسلام وكل شخصية منهم لها قصتها وتميزها وجهدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت اولهم السيدة خديجة بنت خويلد زوجة النبي صلى الله عليه وسلم ، وثانيهم علي ابن ابي طالب ربيب النبي صلى الله عليه وسلم ، وثالثهم مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة .
ونتناول الثلاثة على النحو التالي :
قصة اسلام خديجة رضي الله عنها :
كانت أم المؤمين السيدة خديجة بنت خويلد أول من سمعت الوحي الالهي من البشر مما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما التقى به روح القدس جبريل عليه السلام في غار حراء ، ورجع اليها وقلبه يرتجف خوفا ورهبا ، وذهبت الى ورقة بن نوفل تسأله في تفسير ما جرى لزوجها محمد صلى الله عليه وسلم ،واخبرها انه بأنه النبي المنتظر وأنه رسول هذا الزمان ، وأنه لا نبي بعده ،وان الذي رآه هو الناموس الذي ارسل الى موسى.
وكانت خديجة أول من قرأ القرآن بعد ما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكانت اول من تعلم الصلاة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت السكن والسكينة ، والزوجة الرقيقة وأم اولاده .
وكانت جديرة بأن الله يقرئها السلام من فوق سبع سماوات ويبشرها بالجنة. قال ابن هشام : أن جبريل عليه السلام أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أقرئ خديجةَ السلام من ربها ، فقال رسول الله صلى عليه وسلم : يا خديجة، هذا جبريلُ يُقرئك السلام من ربك ، فقالت خديجة : اللهُ السلامُ ، ومنه السلامُ، وعلى جبريل السلام. سيرة بن هشام ص241
وقد شعرت براحة قلبية بمعرفة مكانتها عند الله خصوصا عندما أقرأها الله السلام بذاته الكريمة ، وقد ردت التحية فبدأت برد السلام على الله الكريم بالثناء عليه سبحانه بأن الله هو السلام ، وهو واهب السلام سبحانه وتعالى ثم الرد على جبريل بالسلام وهو الاحساس الصادق العميق بالإيمان بالله.
لقد هيأت بيتا للنبي صلى الله عليه وسلم فيه السكينة والهدوء والامن والسلام والاطمئنان يطمأن فيه النبي بعد عناء النصب والصخب من اعداء الدعوة ومنافقي قريش ، فكتب الله لها بيتا في الجنة.
خديجة أول من تعلمت الوضوء والصلاة :
كانت السيدة خديجة أول من تعلم الصلاة من الرجال والنساء من رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وقد جاء في الاخبار حديث تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم زوجه خديجة الوضوء والصلاة حين افتُرضت على رسول الله :
أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم وهو بأعلى مكة، فهمز له بعَقِبه في ناحية الوادي، فانفجرت منه عينٌ، فتوضأ جبريلُ عليه السلام ، ورسول ُ الله صلى الله عليه وسلم ينظر لِيُرِيَه كيفية الطُهور للصلاة ،ثم توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رأى جبريل عليه السلام ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة رضي الله عنها ،فأخذ بيد خديجة حتى أتى بها العين ، فتوضأ كما توضأ جبريل ليريها كيف الطهور للصلاة ، كما أراه جبريل عليه السلام، فتوضأت كما توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ركع ركعتين وأربع سجدات هو وخديجة ، ثم كان هو وخديجة يصليان سرا . (كتاب السير والمغازي لابن اسحاق ص136 بتصرف)
وبهذا يتبين ان الوضوء فرض لكل صلاة ، وكانت فرضيته وهو عليه الصلاة والسلام في مكة المكرمة ،وقد استمر من بعد ذلك ، وكانت الصلاة ركعتين، مرتين ، وقد صارت اربعا في الظهر والعصر والعشاء ، وثلاثا في المغرب، وركعتان في الصبح ، وذلك غير السنن على ماهو مبين في فقه العبادات.
مواقيت الصلاة في القرآن الكريم :
وقد أشار القرآن الكريم الى مواقيت هذه الصلوات الخمس ، قال الله تعالى :
(حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) سورة البقرة
وقد قالوا إن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، ولا يمنع ان يراد الصلاة المثلى.
وقال تعالى مشيرا الى اوقات الصلاة كلها :
( فسبحان الله حين تمسون وحين وتصبحون ، وله الحمد في السماوات والارض وعشيا وحين تظهرون )سورة الروم
فقد اتى بصلاة الصبح مشيرا بقوله تعالى (حين تصبحون)وبصلاة العصر مشيرا بقوله تعالى (حين تمسون) وبصلاة المغرب والعشاء مشيرا بقوله تعالى ( وعشيا ) فهما العشاءان ، حتى قال بعض الفقهاء : إن وقت المغرب والعشاء واحد ، يصلى أسبقهما أولا وثانيهما آخرا ، وأتي بصلاة الظهر بعبارة تكاد تكون صريحة وهي قوله تعالى ( وحين تُظْهِرونَ).
(كتاب:المرجع في السيرة النبوية لخاتم النبيين الشيخ محمد ابوزهرة ص 298 عن فرضية الصلاة)
علي بن ابي طالب (ثاني من أسلم ) :لقد أنعم الله على علي بن ابي طالب أنه كان في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال ابن اسحاق: كان من نعمة الله على علي بن ابي طالب، ومما صنع الله له ، واراده به من الخير، أن قريشا أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثير ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس عمه ، وكان من أيسر بني هاشم، يا عباس : إن أخاك أبا طالب كثيرُ العيال ،وقد اصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة ، فانطلق بنا إليه ، فَلْنخفف عنه من عياله، آخُذُ من بنيه رجلا ، وتأخذ انت رجلا ، فنكفلهما عنه، فقال العباس : نعم . فانطلقا حتى أتيا أبا طالب ، فقالا له : إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ماهم فيه ، فقال لهما أبوطالب : إذا تركتما لي عقيلا (وفي رواية: عقيلا وطالبا) فاصنعا ما شئتما.
(كان من ولد ابي طالب غير هؤلاء جعفر ، وكان علي أصغر من جعفر بشر سنين ، وجعفر أصغير من عقيل بعشر سنين ، وعقيل أصغر من طالب بعشر سنين،وكلهم أسلم إلا طالبا).
فاخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً فضمه إليه ، وأخذ العباس جعفرا فضمه اليه ، فلم يزل علي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بعثه الله تبارك وتعالى نبيا ، فاتبعه علي رضي الله عنه ، وآمن به وصدقه ، ولم يزل جعفرٌ عند العباس حتى أسلم واستغنى عنه.
وفي رواية لابن اسحاق :
أن علي بن ابي طالب رضي الله تبارك وتعالى عنه جاء بعد ذلك بيوم أو يومين ( أي بعد تعليم جبريل الصلاة للنبي ثم تعليم النبي الصلاة لخديجة) جاء وهما يصليان(أي خديجة والرسول) فقال ، أيا محمد ماهذا ؟ قال النبي :دين الله تعالى الذي اصطفى لنفسه بعث به رسله، فأدعوك الى الله تعالى وحده لاشريك له، وإلى عبادته ، وأن تكفر باللات والعزى. فقال علي : هذا أمر لم اسمع به قبل اليوم ، فلست بقاصد أمرا حتى أحدث به أبا طالب، فَكَرِه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُفشي عليه سره قبل أن يستعلن أمره.
فقال عليه الصلاة والسلام له : ” يا علي إذا لم تُسْلِمْ ، فَاكْتُمْ ”
فمكث علىٌ تلك الليلة ، ثم إن الله أوقع في قلب علي الاسلام فأصبح غاديا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى جاءه، فقال : ” ماذا عرضت يا محمد ”
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تشهد أن لا اله إلا الله وحده لاشريك له ، وتكفر باللات والعزى، وتبرأ من الانداد .
ففعل علي ذلك وأسلم
وكان اذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في شعاب مكة المكرمة ، وخرج معه علي بن ابي طالب مستخفيا من أبيه أبي طالب ومن جميع اعمامه، وسائر قومه ، فيصليان الصلوات فيها ، فإذا أمسيا رجعا ، فمكثا كذلك ماشاء الله تعالى ان يمكثا.
ولكن عين ابي طالب كانت تتلفت حول ابنه وابن اخيه ،ورمقتهما وهما يصليان، فاتجه الى محمد صلى الله عليه وسلم فقال له :ياابن اخي ماهذا الدين الذي اراك تدين به؟؟
فقال النبي : أي عم ، هذا دين الله ودين ملائكته، ودين رسله، ودين ابينا ابراهيم بعثني الله به رسولا الى العباد،وأنت أي عم : أحق من بذلت له النصيحة، ودعوته الى الهدى، وأحق من أجابني اليه وأعانني عليه.
وقد دعاه الى امرين :
الامر الاول : الايمان بهذا الدين.
الامر الثاني :إعانة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد أجابه على الطلب الثاني ، ولم يجبه في الاول . فقد قال له : أي ابن أخي، إني لا استطيع أن افارق دين آبائي وماكانوا عليه ، ولكن والله لا يخلص اليك شئ تكرهه. (المرجع في السيرة النبوية لخاتم النبيين الشيخ محمد ابوزهرة ص 292)
ويروي أن علي بن ابي طالب كتم ايمانه عن أبيه أبي طالب ، ولكنه لما علم قال له : (( وآزر ابن عمك وانصره)).
انتهت الحلقة العاشرة ونلتقي معكم بإذن الله في الحلقة الحادية عشر يوم الجمعة القادم في ظلال النبوة.