السيرة النبوية (13) كُن أبا ذر .. وتتحقق نبؤة النبي
بقلم : الدكتور محمد النجار
استعرضنا في الحلقة السابقة (12) اسلام بنات النبي صلى الله عليه وسلم،واسلام ابي بكر الصديق ،واسلام مجموعة من كبار الصحابة على يديه وكانوا شبابا صغارا ساهموا بدور كبير في توضيد دعائم الاسلام وترسيخ دولته ….
ونستكمل قصص بعض المسلمين الجدد الذين أنار الله قلوبهم ،وأسلموا مع رسول الله
ونبدأ الآن في الحلقة (13) بإذن الله عنوان الحلقة ( كُن أبا ذر .. وتتحقق نبؤة النبي ) …
دفعة ثانية دخلت في الاسلام :
بعد أن انتقل الاسلام من حيز بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي شهد أول اسرة مسلمة فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع (خديجة رضي الله عنها – بنات رسول الله – على ابن ابي طالب – زيد بن حارثة ) الى خارج بيته وذلك بعد اسلام ابي بكر الصديق رضي الله عنه الذي حمل لواء الدعوة فور اسلامه الى خارج منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وكانت الدفعة الاولى من الذين اسلموا عن طريق أبي بكر (عثمان بن عفان- الزبير بن العوام – عبدالرحمن بن عوف – سعد ابن وقاص – طلحة بن عبيد الله ) وكانت هذه الدفعة الاولى التي اسلمت على يد ابي بكر الصديق رضي الله عنه .
وجاءت الدفعة الثانية لأوائل من أسلموا :
- أبو عبيدة ابن الجراح . ( أحد العشرة المبشرين بالجنة ).
- ابو سلمة عبدالله ابنة عمة النبي ( برة بنت عبدالمطلب) وأخوه من الرضاع.
- الارقم بن أبي الارقم المخزومي.
- عثمان بن مظعون الجمحي ، وأخواه قدامة وعبدالله .
- عبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب (ابن عم النبي)
- سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل. ( أحد العشرة المبشرين بالجنة ).
- اسماء بنت ابي بكر .
ومن اوائل الذين دخلوا في الاسلام صهيب الرومي ، وأبو ذر الغفاري ، وعمار بن ياسر ، وبلال بن رباح الحبشي.
ونستعرض قصة اسلام الصحابين الجليلين صهيب الرومي وأبو ذر الغفاري
1- صهيب الرومي (من القصر الى العبودية)
نزلت فيه هذه الآية ” ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله”
فما هي قصته اخواني واخواتي؟
أبوه سنان ابن مالك ، وأصوله من العرب الذين نزحوا من الجزيرة العربية إلى العراق قبل الإسلام بعهد طويل، . وكانت منازلهم بأرض الموصل في قرية ناحية (نينوى) من شط العرب ، مما يلي الجزيرة والموصل. وتبوأ أهله مراتب عاليه فأصبح والده حاكم ولاية (الأبلة) لكسرى، وله قَصْر فخم على شاطئ الفرات، فعاش صهيب طفولة ناعمة سعيدة في قصر يمتلئ بالخدم والعبيد.
وأمه : سلمى بنت قعيد . وكان رجلا أحمر ، شديد الحمرة ، ليس بالطويل.
خطف الاطفال وهمجية الروم :
أغارت الروم على تلك الناحية في نينوى ، وخطفوا النساء والاطفال ، ومن بينهم الطفل صهيب وسبيه ، فقضى طفولته وصدر شبابه في بلاد الروم، وأخذ لسانهم ولهجتهم بعد أن تأثرت لهجته العربية ، وباعه تجار الرقيق، فاشتراه أخيرًا عبد اللـه بن جدعان القرشي التيمي في مكة ، ويقال انه هرب وجاء الى مكة ..وأطلق عليه صهيب الرومي لطبيعة لونه ولهجته التي تأثرت بإقامته في بلاد الروم .
وأعجب سيده الجديد ” بدالله بن جدعان” بذكائه ونشاطه وإخلاصه.. وتحالف معه وأعطاه فرصة العمل في التجارة فربح اموالا كثيرة في تجارته.
اسلام صهيب الرومي :
قال صهيب : كناني النبي صلى الله عليه وسلم : أبا يحيى ، وصحبت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يُوحى إليه.
وعن ابي عبيدة بن محمد بن عمار، عن أبيه (عمار بن ياسر)،قال عمار :
لقيت صهيبا على باب دار الارقم ، وفيها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، فدخلنا ، فعرض علينا الاسلام :فأسلمنا . ثم مكثنا يوما على ذلك حتى أمسينا ،فخرجنا ونحن مستخفون .
تعذيب صهيب الرومي بسبب اسلامه :
يقول الواقدي :كان عمار بن ياسر يُعذبُ حتى لا يدري ما يقول، وكان صهيب يُعذبُ حتى لا يدري ما يقول ، في من المسلمين حتى نزلت الآية (( ثُمَ إن ربَك َللذين هاجروا من بعدِ مافُتنوا ثُمَ جاهدوا وصبروا ،إن ربكَ من بعدها لغفورٌ رحيمٌ)) سورة النحل 110
قال مجاهد :
فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه عمه ، وأما ابو بكر فمنعه قومه ، وأُخّذ الأخرون – سمي منهم صهيبا – فألبسوهم أدراع من الحديد ، وصهروهم في الشمس حتى بلغ الجُهدُ كل مبلغ ، فأعطوهم ماسألوا – (يعني : التلفُظ بالكفر- فجاء كل رجل قومُه بأنطاع فيها الماء ، فألقوهم فيها ، إلا بلالا .
أخرج أحمد في ” مسنده ” : عن ابن مسعود ، قال :
مر الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعنده خباب ، وصهيب ، وبلال ، وعمار ، فقالوا : أرضيت بهؤلاء ؟ فنزل فيهم القرآن :
(( وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون)) الانعام51
عن حمزة بن صهيب عن ابيه قال : كَنَاني النبي صلى الله عليه وسلم : أبا يحيى .
مصادرة أموال صهيب عند هجرته :
وحينما اراد صهيب الهجرة الى المدينة ، قال له أهلُ مكةَ : أتيْتَنا صُعْلُوْكاً حَقِيْراً، فَتَغَيَّرَ حَالُكَ!
قال لهم : أرأيتم إن تركتُ لكم مالي ، أَمُخَلُّوْنَ أَنْتُم سَبِيْلِي؟
قالوا : نعم .
فخلع لهم مالَهُ .
خسر أمواله لكن الرسول يبارك له :ربح البيع أبا يحيى :
فبلغ ذلك النبيَ صلى الله عليه وسلم ، فقال : ( ربح صهيب ! ربح صهيب !
وورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : يا أبا يحيى ، ربح البيعُ ثلاثا . ونزلت الاية :
(( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاءَ مرضاة الله )) البقرة 207
يقول صهيب :
لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، وقد كنت هممت بالخروج معه ، فصدني فتيان من قريش ، فجعلت ليلتي تلك أقوم ولا أقعد ، فقالوا : قد شغله الله عنكم ببطنه – ولم أكن شاكيا – فناموا ، فذهبت ، فلحقني ناس منهم على بريد ، فقلت لهم : أعطيكم أواقي من ذهب وتخلوني ؟ ففعلوا ، فقلت : احفروا تحت أسكفة الباب تجدوها ، وخذوا من فلانة الحلتين ، وخرجت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قباء فلما رآني ، قال : يا أبا يحيى ، ربح البيع ، ثلاثا ، فقلت : ما أخبرك إلا جبريل .
استنابة عمر بن الخطاب صهيبا عند وفاته:
قال عمر بن الخطاب : إن حدث بي حدثٌ فلْيُصلِ بالناس صُهيب ، ثلاثا ، ثم أجمعوا أمركم في اليوم الثالث.
ولما طُعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، استنابه على الصلاة بالمسلمين الى ان يتفق اهل الشورى على إمام
2- أبو ذر الغفاري :
هو جُندُب بن جُنادة الغِفاري، وقيل : بُرير بن جنادة، وقيل : بن عبدالله .
وُلد في قبيلة غفار بين مكة والمدينة ، وقد اشتهرت قبيلته بالسطو ، وقطع الطريق على التجار والمسافرين والاستيلاء على اموالهم بالقوة ، وكان أبو ذر ذو قلب حديد وبأس شديد، يستطيع قطع الطريق وحده راكبا كان أو ماشيا على قدميه.
ورغم تلك الشجاعة والقوة التي تميز بهما ، فقد ترك كل هذا الشر وتنسك .
اسلام ابي ذر :
عن ابن عباس : ألا أخبركم بإسلام أبي ذر ؟
قلنا : بلى.
قال : قال أبو ذر: كنت رجلاً من غفار، فبلغنا أن رجلاً قد خرج بمكة يزعم أنه نبي، فقلت لأخي: انطلق إلى هذا الرجل فكلِّمه وَأْتني بخبره. فانطلق فلقيه، ثم رجع فقلت: ما عندك؟
فقال : والله لقد رأيت رجلاً يأمر بالخير، وينهى عن الشر.
فقلت له: لم تشفني من الخبر. فأخذت جرابًا وعصًا، ثم أقبلت إلى مكة فجعلت لا أعرفه، وأكره أن أسأل عنه، وأشرب من ماء زمزم، وأكون في المسجد. قال: فمر بي عليٌّ بن أبي طالب ، فقال: كأن الرجل غريب؟
قال: قلت: نعم. قال: فانطلق إلى المنزل. قال: فانطلقت معه لا يسألني عن شيء ولا أخبره،.
فلما أصبحت غدوت إلى المسجد لأسأل عنه، وليس أحد يخبرني عنه بشيء.
قال: فمر بي عليٌّ فقال: أما آن للرجل أن يعرف منزله بعد؟
قال : قلت : لا. قال: انطلق معي.
قال: فقال: ما أمرك؟ وما أقدمك هذه البلدة؟
قال : قلت له: إن كتمت عليَّ أخبرتك؟
قال : فإني أفعل.
قال : قلت له: بلغنا أنه قد خرج هاهنا رجل يزعم أنه نبي، فأرسلت أخي ليكلمه فرجع ولم يشفني من الخبر، فأردت أن ألقاه. فقال له : أما إنك قد رشدت ، هذا وجهي إليه فاتبعني، ادخل حيث أدخل!! فإني إن رأيت أحدًا أخافه عليك قمت إلى الحائط كأني أصلح نعلي، وامضِ أنت. فمضى ومضيت معه حتى دخل ودخلت معه على النبي، فقلت له: اعرض عليَّ الإسلام. فعرضه فأسلمت مكاني، فقال لي: “يا أبا ذَرّ، اكتم هذا الأمر، وارجع إلى بلدك، فإذا بلغك ظهورنا فأقبل”.
فقلت: والذي بعثك بالحق لأصرخَنَّ بها بين أظهرهم.
ايجابية وشجاعة أبي ذر عرضته للقتل:
ونزل ابو ذر الى صحن الكعبة ، وقريش فيها. فانطلق بأعلى صوته مناديا على قريش : يا معشر قريش، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. فقامت كل قريش تضربه بكل مافي ايديهم وأرجلهم ، فأدركني العباس فأكب عليَّ، ثم أقبل عليهم فقال : ويلكم ! تقتلون رجلاً من غفار؟؟؟ ومتجركم وممركم على غفار. فأقْلَعُوا عني.
فلما أن أصبحت الغد رجعت فقلت مثل ما قلت بالأمس، فقالوا : قوموا إلى هذا الصابئ. فصُنع بي مثل ما صنع بالأمس، وأدركني العباس فأكبّ عليَّ، وقال مثل مقالته بالأمس.
فهذا أول اسلام أبي ذر .
أخرجه البخاري ومسلم من طريق المثنى بن سعيد، عن أبي جمرة
وعن ابي معشر السندي : كان أبو ذر يتأله في الجاهلية ، ويوحد ، ولا يعبد الاصنام.
تخلف أبي ذر في غزوة تبوك ، ويتمنى النبي حضوره :
يقول ابن اسحاق :
حدثني بُريدة بنُ سفيان ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن ابن مسعود ، قال :
عن عبد الله بن مسعود قال : لما سار رسول الله إلى تبوك، جعل لا يزال يتخلف الرجل فيقولون: يا رسول الله، تخلف فلان. فيقول: “دعوه، إن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه”
حتى قيل: يارسول الله، تخلف أبو ذر، وأبطأ به بعيره.
فقال رسول الله: فتلوَّم أبو ذَرّ على بعيره فأبطأ عليه، فلما أبطأ عليه أخذ متاعه فجعله على ظهره ، وخرج يتبعُ رسولَ الله يمشي على الطريق ! ونظر ناظر ، فقال : هذا رجل يمشي على الطريق!!!
فقال رسول الله: ” (( كُنْ أبا ذَرِّ (( ..فلما تأمله القومُ، قالوا : هو والله أبو ذَرّ. !!!
فقال رسول الله : “رَحِمَ اللهُ أبا ذَرّ ، يمشي وحده، ويموتُ وحده ، ويبعثُ وحدَه”.
وتتحقق نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أبي ذر :
فضرب الدهرُ من ضربه ، وسُير أبو ذر الى الربذَة. فلما حضرته الوفاةُ ، أوصى امرأته وغلامه ، فقال : إذا متُ فاغسلاني، وكفناني ، وضعاني على الطريق ، فأول ركبٍ يمرون بكم فقولا : هذا أبو ذر .
فإذا بعبدالله بن مسعود في رهط من أهل الكوفة ، فقال : ماهذا ؟؟ قيل جنازة أبي ذر !!!
فاستهل ابنُ مسعود يبكي ، وقال : صدق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم :
” يرحمُ اللهُ أبا ذرٍ ! يمشي وحده ، ويموتُ وحده ، ويُبعثُ وحده ” .
وهو احد السابقين الاولين ، نجباء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .
وقيل : كان خامس خمسة في الاسلام، ثم إنه رُدً الى بلاد قومه، فأقام بها بأمر النبي صلى الله عليه وسلم له بذلك ، فلما أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم ، هاجر اليه ابو ذر ، ولازمه ، وجاهد معه.
وكان رأسا في الزهد ، والصدق والعلم والعمل ، قوالا بالحق ، لا تأخذه في الله لومة لائم ، على حدة فيه .
وعن ابن سيرين : سألتُ ابن اختٍ لأبي ذر : ماترك أبو ذر ؟؟؟ قال :ترك أتانين، وحماراً ، وعنزاً ، وركائب.
معنى كلمات : أتانين (الأتان : انثى الحمار ). ركائب : مايوضع على ظهر الحمار ويجلس عليه الراكب.
وكان يُفتي في خلافة أبي بكر ، وعمر ، وعثمان.
وقد شهد أبو ذر فتح بيت المقدس مع عمر .
و ربما يكون لنا عودة مع الصحابي الجليل أبي ذر في صفحات تالية بإذن الله .
انتهت الحلقة الثالثة عشر (13) ، ونلتقي معكم بإذن الله في الحلقة الرابعة عشر(14) يوم الجمعة القادم مع فقه السيرة وظلال النبوة.