السيرة النبوية (14) عليكم بابْنِ سًمية .. تقتله الفئة الباغية
بقلم : الدكتور محمد النجار
استعرضنا في الحلقة السابقة (13) وما قبلها بعضا من اوائل من أسلموا ، وذكرنا منهم ( السيدة خديجة – على بن ابي طالب – زيد بن حارثة – بنات النبي – ابو بكر الصديق –صهيب الرومي – ابو ذر الغفاري ) . ونستعرض في هذه الحلقة باختصار قصة اسلام الصحابي الجليل عمار بن ياسر .. ونبدأ الآن في الحلقة (14) بإذن الله عنوان الحلقة (عليكم بابْنِ سًمية .. تقتله الفئة الباغية) …
8- عمار بن ياسر :
هو عمار بن ياسر العنسي ، الإمام الكبيرُ أبو اليقظان العنسيُ المكيُ مولى بني مخزوم ، احد السابقين الأولين ، والأعيان البدريين. وأمه سُمية كانت أمَةٌ لأبي حذيفة بن الغيرة من بني مخزوم ، من كبار الصحابيات ايضا .
وكان عمار يُكنى أبا اليقظان
وقد قدم أبوه ياسر ( أبو عمار ) من اليمن الى مكة مع أخويه الحارث ومالك يطلبون أخا لهم ، فرجع الحارث ومالك الى اليمن ، واقام ياسر بمكة وحالف ابا حذيفة بن المغيرة بن مخزوم ، وزوجه مولاته سُمية بنت خياط، فولدت له عماراً، فأعتقه ابو حذيفة. ولم يزل ياسر وعمار مع أبي حذيفة الى ان مات وجاء الله بالإسلام ، فأسلم ياسر وسمية وعمار وأخوه عبدالله بن ياسر .
عمار ، وصهيب يقفان على باب النبي :
ولقد تقابل عمار بن ياسر مع صهيب على باب دار الارقم ، وفيها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، فيقول عمار : فدخلنا ، فعرض علينا الاسلام :فأسلمنا . ثم مكثنا يوما على ذلك حتى أمسينا ،فخرجنا ونحن مستخفون .
ورد في الطبقات الكبرى :
قال عمار بن ياسر : لقيتُ صهيب بن سِنان (المعروف بصهيب الرومي) على باب الارقم ورسولُ الله فيها ، فقلتُ له : ما تريد ؟ قال صهيب : ما تريد أنت ؟؟ فقلت : أردتُ أن ادخل على محمد فأسمعَ كلامه ، قال : وأنا أريد ذلك .
فدخلنا عليه فعرضَ علينا الاسلام فأسلمنا ، ثم مكثنا يومنا على ذلك حتى أمسينا ، ثم خرجنا ونحن مستخفون. فكان إسلام عمار وصهيب بعد بضعة وثلاثين رجلا .
تعذيب عمار بن ياسر بسبب اسلامه :
لم يكن اسلام المسلمين الاوائل سهلا في مجتمعهم ، بل لم يكن اسلامهم بلا ثمن ، لقد تحملوا كل انواع التعذيب والاهانة في سبيل دينهم الجديد. فعندما أسلم عمار بمكة هو وأبوه وأمه ، تم تعذيبهم أشد العذاب ، فمر بهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم يُعذبون ، ولم يكن يملك أي اسباب القوة للدفاع عنهم لحكمة وتقدير الله .. فقال :
(( صبرا آل ياسر ، فإن موعدكم الجنة)).
يقول الواقدي :كان عمار بن ياسر يُعذبُ حتى لا يدري ما يقولُ، وكان صهيب يُعذبُ حتى لا يدري ما يقول ، حتى نزلت الآية (( ثُمَ إن ربَك َللذين هاجروا من بعدِ ما فُتنوا ثُمَ جاهدوا وصبروا ،إن ربكَ من بعدها لغفورٌ رحيمٌ)) سورة النحل 110
شهادة التعذيب على ظهره تشهد له بالإيمان :
عن محمد بن كعب القُرظي قال :
أخبرني من رأى عمار بن ياسر متجردا في سراويل قال : فنظرتُ الى ظهره ، فيه حَبَطٌ كثير ، فقلت : ما هذا ؟؟
قال : هذا مما كانت تعذبني به قريش في رمضاء مكة .
كانت قريش تتربص بالمؤمنين الدوائر ..
وكان عمار ووالده ووالدته من المؤمنين الابرار المبكرين في ايمانهم، واخذوا نصيبهم الأكبر من عذاب قريش وأهوالها.
وقد أحرق المشركون عمار بن ياسر بالنار ، قال : فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُمرُ به ويُمِرُ يده على رأسه فيقول (( يُناَرُ كوني بردا وسلاما )) على عمار كما كنت على إبراهيم ، تَقْتٌلُكَ الفئةُ الباغية . سورة الانبياء 69
ان سب دين الله ورُسُله اجمعين بما فيهم رسولنا محمد صلى الله عليه كفرٌ يُخرجُ صاحبَه عن الدين الإسلامي، وقد استثني ديننا العظيم من فعل ذلك بلسانه فقط وقلبه مؤمن بالله ورسله وكتبه اجمعين ، كحال الصحابي الجليل عمار بن ياسر رضي الله عنه، حيث كفر بلسانه واطمأن قلبه بالإيمان ..
فقد أخذ المشركون عماراً ، وأذاقوه كل اصناف العذاب : منها الكَيْ بالنار .. والصَلْبُ على الرمضاء تحت الحجارة الملتهبة ..الى تغطيسه في الماء حتى تختنق انفاسه وتتسلخ جروحه .. حتى فقد وعيه .. وتحت تلك الوطأة من العذاب وفقدان الوعي قالوا له : اذكر آلهتنا بخير .. وطلبوا منه أن يكفر ويسب محمدا .. ومن شدة الهول اخذ يردد وراءهم دون شعور …
فلم يتركوه حتى نال من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر آلهتهم بخير.
وعندما افاق من هول التعذيب حزنت نفسه وظن ان ما فعله قد أغضب الله ورسوله ، وانها خطيئة لا كفارة لها .
فلما أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، قال له النبي : ما وراءك ؟
قال عمار : شرٌ يا رسول الله ، والله ما تُركتُ حتى نلتُ منك ، وذكرتُ آلهتهم بخير !
فقال النبي : ” فكيف تَجِدُ قلبك ؟
قال عمار : مطمئنٌ بالإيمان .
قال النبي : ” فإن عادُوا فَعُدْ ” . وفي رواية (( إلا من أُكره ) نزلت في عمار .
وقد ذكر بعض المفسرين أن عمار هو الذي أنزل الله تعالى في شأنه هذه الآية، وهي قوله تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ[النحل:106].والله أعلم.
معنى كلمة : نِلْتُ منك : أي ذكرتك بسوء يا رسول الله
ان ديننا الاسلامي ينظر للإنسان بما في قلبه من ايمان ثابت بالله ورسوله لكن اعداء الامة قد يتعرضون للمسلمين بالأذى بسبب ايمانهم بالله ورسوله وقد رأينا احداثا في السنوات الاخيرة في القرن العشرين تعرض فيها المسلمون لأشد انواع التعذيب والتنكيل مثل احداث البوسنة والهرسك في قلب اوربا ، حيث قُتل عشرات الالوف من النساء والرجال والاطفال ودفن كثير منهم في مقابر جماعية واغتصبت نساؤهم بهدف اذلالهم لمجرد أنهم مسلمون ووقف العالم (المتحضر) يتفرج على تلك المذابح البشرية واراقة الدماء الذكية بلا أي ذنب ، كما نرى في القرن الواحد والعشرين ما حدث لمسلمي الروهنجا في بورما وهم يحرقون بيوت المسلمين على ما فيها من أحياء ..
ومن رحمة الله بالمسلمين أن يسامحهم لو أساءوا لدينهم ونبيهم ظاهريا بألسنتهم درءا للأذى من أعدائهم المعتدين والنجاة بأرواحهم وأعراضهم .
وهذا ما حدث مع عمار ابن ياسر عندما اشتد به التعذيب هو ووالده ووالدته ولم يكن له سبيل للنجاة من جحيم المشركين سوى ان يذكر الرسول صلى الله عليه وسلم بسوء ، وقد حزن عمار حزنا شديد لِما صدر عنه تجاه رسول الله من سوء امام المشركين .. لكن النبي الرحيم طمأنه قائلا له :
وإن عادوا لمثل هذا التعذيب لك.. فَعُدْ وقل مثلما قلت طالما أن قلبك ملئ بالإيمان ومفعم بحب الله ورسوله.
نبوءة النبي لعمار ” تقتله الفئة الباغية “
وحينما كان يتم بناء المسجد ، اشترك النبي مع صحابته في البناء ، فكان يحمل الحجارة والرمال .. وكانت أصوات الصحابة المغردة حوله تحكي سعادة النفوس الراضية ، والسماء من فوقهم تغبطُ الارض التي تحملهم فوق ظهرها.. ويبصر النبي صلى الله عليه وسلم عمارا ، فيقترب منه وينفض بيده المباركة الغبار الذى اكتسي رأسه وجسده ، ويقول كلمته (( وَيْحَ ابنِ سُميةَ .. تقتله الفئة الباغيةُ )).
ثم يسقط جدار فوق رأس وجسد عمار ، فيظن بعض أاصحابه انه قد مات ، فيذهب أحدهم ينعاه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويفزع الاصحاب من وقع النبأ.. لكن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في طمأنينة وثقة :
(( ما مات عمار .. تَقْتُلُ عمار الفئةُ الباغية ))
عليكم بابن سمية:
وقال الحاكم أبو احمد : آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين عمار بن ياسر وبين حُذيفة ابن اليمان .
وحذيفة بن اليمان كان (( خازن سر رسول الله صلى الله عليه وسلم )). وكان النبي قد أطلعه على اسماء المنافقين وطلب منه ألا يخبر بها أحدا. فكان حذيفة رضي الله عنه يعلم مكانة عمار عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعندما وافت حذيفة المنية وحضرته الوفاة واصبح على فراش الموت ، سأله اصحابه الحافين حوله قائلين له:
يا حذيفة .. ” بمن تأمرنا إذا اختلف الناس ” ؟؟
فأجابهم حذيفة ، وهي يلفظ اخر كلماته :
” عليكم بابْنِ سًمية .. فإنه لنْ يُفارق الحق حتى يموت ”
عظمة الاسلام في نصرته للجندي من القائد مهما كانت مكانته :
عمار يشكو للنبي وهو يبكي من خالد بن الوليد :
عن خالد بن الوليد – رضي الله عنه – قال: كان بيني وبين عمار بن ياسر – رضي الله عنه – كلام , فأغلظت له في القول , فانطلق عمار يشكوني إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فجئت وهو يشكوني إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – فجعلت لا أزيد إلا غلظة ” ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – ساكت لا يتكلم ” , فبكى عمار , وقال: يا رسول الله , ألا تراه؟ ” فرفع رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رأسه وقال: ((من عادى عمارا عاداه الله , ومن أبغض عمارا أبغضه الله “)) , قال خالد: فخرجت , فما كان شيء أحب إلي من رضا عمار , فلقيته فرضي .
وهذه عظمة الاسلام في نصرته للمظلوم مهما كان ضعيفا ، ووقوفه ضد الظالم مهما كانت مكانته وقوته ، وتتمثل في خضوع القائد الكبير خالد بن الوليد وهو يحاول ترضية عمار بن ياسر في مجرد غلظته في القول على عمار بن ياسر بعد أن غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الغلظة وينذره بالقول الخطير الذي يهز المشاعر الايمانية لأكبر قائد :
((من عادى عمارا عاداه الله , ومن أبغض عمارا أبغضه الله “.
مقتل عمار – و فزع عمرو بن العاص:
أثار مقتل عمار بن ياسر خوفا وفزعا في صفوف الفئة الموالية لجيش معاوية والتي قتلت عمار ، لِما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من مصير تلك الفئة التي وصفها بالفئة الباغية .
فلما قُتل عمار بن ياسر – رضي الله عنهما – دخل عمرو بن حزم على عمرو بن العاص – رضي الله عنه – فقال: قتل عمار , وقد قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ” تقتله الفئة الباغية ” , فقام عمرو بن العاص فزعا يرجع (1 ) حتى دخل على معاوية – رضي الله عنه – فقال له معاوية: ما شأنك؟
قال: قُتل عمار !!
فقال معاوية: قد قٌتل عمار , فماذا؟
فقال عمرو بن العاص : سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: ” تقتله الفئةُ الباغية “!!
فقال له معاوية: لا تزال تأتينا بهنة (2) أو نحن قتلناه؟ , إنما قتله علي وأصحابه , جاءوا به حتى ألقوه بين رماحنا. (3)
معاني كلمات الحديث :
(1) أي: يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون. (2) الهنة: الشرور والفساد، يقال: في فلان هنات أي: خصال شر , ولا يقال في الخير.
وعن أبي الغادية – رضي الله عنه – (1) قال: قتل عمار بن ياسر – رضي الله عنه – فأُخبر عمرو بن العاص – رضي الله عنه – فقال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: ” إن قاتله وسالبه في النار ” , فقيل لعمرو: فإنك هو ذا تقاتله , قال: إنما قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ” قاتله وسالبه ” (2).
خشية عبدالله بن عمرو بن العاص من مقتل عمار
وعن حنظلة بن خويلد العنزي قال: بينما أنا عند معاوية – رضي الله عنه – إذ جاءه رجلان يختصمان في رأس عمار – رضي الله عنه – يقول كل واحد منهما: أنا قتلته , فقال عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما -: ليطب به أحدكما نفسا لصاحبه , فإني سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: ” تقتله الفئة الباغية ” , فقال له معاوية: فما بالك معنا؟ , فقال: إن أبي شكاني إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال لي: ” أطع أباك ما دام حيا , ولا تعصه ” , فأنا معكم , ولست أقاتل .
من قتل عمار ؟ :
فقيل : قتله أبو الغادية المزني وقيل : الجهني طعنه طعنةً فسقط ، فلما وقع أكبَ عليه آخر فاحتز رأسه، فأقبلا يختصمان ، كل منهما يقول : ” أنا قتلته ” . فقال عمر بن العاص : والله إن يختصمان إلا في النار ، والله لو وددت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة .
وروى عمرو بن مرة، عن عبدالله بن سَلمِة : رأيت عماراً يوم صفين شيخا آدم طُوالا آخِذٌ الحربة بيده ، ويده ترعد ، وفي رواية : ترعش.
وزاد في سير اعلام النبلاء فقال : والذي نفسي بيده ! لقد قاتلتُ بها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثلاثَ مرات وهذه الرابعة ،ولو قاتلونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر ، لعرفت أننا على الحق ، وأنهم على الباطل.
وقال كُليب بن منفعة عن سليط بن سليط الحنفي : كنت مع على بن ابي طالب وأنا يومئذ حَدَث السن ، ولحداثتي لا أعرف عمارا ، فبينا أنا ذات يوم قاعدا بالكُناسة إذ خرج علينا رجل طوال جعد الشعر وفيه حبشية فسلَم ثم تأمل الناس ، وقال : (( ومن آياتهِ أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشرٌ تنتشرون)) ما أحسن أن يقول العبد سبحان الله عدد كل ما خلق ، فتكتب كما قال . ثم انصرف فوصفتُ صفته ، فقالوا : هذه صفة عمار أو قالوا : هذا عمار .
قال أبو البختري :
قال عمار بن ياسر يوم صفين : أئتوني بشربة. فأُتي له بشربة لبن .
فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
” آخر شربة تشربها من الدنيا شربة لبن، وشربها ثم قاتل حتى قُتل.
وكان عمره يومئذ أربعا وتسعين سنة ، وقيل ثلاث وتسعون ، وقيل : إحدى وتسعون.
وكان قتله في ربيع الاول – أو الاخر من سنة سبع وثلاثين ، ودفنه ” علي بن ابي طالب” في ثيابه ، وهو مذهبهم في الشهيد أنه يُصلى عليه ولا يُغسل .
اخواني واخواتي .. أرجو ان يكون وفقني الله في عرض سريع لصحابي جليل من اوائل من أسلموا وعُذبوا وضحوا في سبيل دينهم وإيمانهم ، وان يتقبل الله مني هذا الجهد ابتغاء وجهه الكريم
مع احتفاظي بالمراجع لعدم امكانية نشرها في الجريدة في الوقت الحاضر..
انتهت الحلقة الرابعة عشر (14) ، ونلتقي معكم بإذن الله في الحلقة الخامسة عشر(15) يوم الجمعة القادم مع فقه السيرة وظلال النبوة.