السيرة النبوية (20)..لماذا لم تَقُلْ قريش لا إله إلا الله
بقلم : الدكتور محمد النجار
ذكرنا في الحلقة السابقة(19) محاولات قريش المتكررة مع أبي طالب لإثناءه محمد عن دعوته ، ثم تهديده هو وابن اخيه بالقتل اذا لم يتراجع محمد عن دعوته ويكف عن ذِكْرِ آلهتهم بسوء ، لكن لماذا لم تنطق قريش بتلك الكلمة السهلة البسيطة (( لا إله الله .. )) و تتفادى بها كل تلك الدماء والارواح ،أليست كلمة سهلة على اللسان يستطيع ان ينطق بها الصغير قبل الكبير؟
اترككم مع الحلقة رقم (20) سائلا الله ان ينفعنا بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وان نساهم جميعا في نشر تلك السيرة المباركة وان يكتب جهودنا في نشرها في ميزان حسناتنا .
لماذا لم تَقُلْ قريش لا إله إلا الله ؟ا كلمة سهلة!!
نتذكر كلمات ورقة بن نوفل عندما نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذهبت له خديجة بزوجها لتطمأن بما عنده من علم الكتاب ، عما أصاب زوجها من ذلك الذي رآه ، فأخبرهما بشيئين :
الاول : بشرهما بأن الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم انما هو الناموس الذي أُنزل على موسى ، وأن محمداً سيكون نبي هذه الامة ، وبهذا يكون ورقة بن نوفل قد آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم .
الثاني : تَوَقَع ورقة بن نوفل معركة ستقوم بين محمد النبي صلى الله عليه وسلم وبين قومه ، بسبب هذه الرسالة التي سيكلفها الله له ،ليبلغها لقومه، وأنه ما من نبي جاء بمثل ما جئ به محمد إلا وقد عُودي .
وقد حدث ما توقعه ورقة بن نوفل حيث تم مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم بمعارضة شديدة لدعوته لدرجة التآمر عليه لقتله.
لماذا لم ينطقوا الكلمة السهلة؟
أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم لم يطلب من قريش مالًا فتنقص اموالهم !
ولم يطلب منهم ملكا حتى ينزع ملكهم !!
ولم يطلب منهم سلطة حتى يكون ملكا عليهم أو رئيسا يتحكم فيهم !
إذا كان محمدٌ لم يطلب شيئا من هذا كله ؟ فلماذا لم ينطقوها كلمة سهلة على اللسان ” لا إله إلا الله ” ؟
إن قريش لم تفهم كلمة ” لا إله إلا الله ” على أنها مجرد كلمة ينطق بها اللسان وكفى !
الفهم الحقيقي لكلمة ” لا إله إلا الله ”
وانما فهمت لكلمة ” لا إله إلا الله ” بمعناها الحقيقي على أنها ليست كلمة تُقال باللسان دون أن يكون لها مدلول مستقر في أعماق النفس وفي واقع الحياة .
فهمت قريش ان كلمة ” لا إله إلا ” ليست مجموعة من العبادات يتم تأديتها بمعزل عن السلوك العملي !
وان كلمة ” لا إله إلا الله ” لا يكون الانسان فيها مخلصا لله أثناء العبادة ، ثم يتجه لغير الله في باقي الامور في الحياة.
لقد فهمت قريش والعرب اجمع ان” لا إله إلا الله ” معناها ” إسلام النفس كلها لله !
” لا إله إلا الله ” هو ان يكون الانسان المؤمن بها متوجها بشكل كامل الى الله ..
فتكون كل افكاره ومشاعره وتصوراته وسلوكه العملي كله محكوم بالدستور الذي أنزله الله وأقره لهم في الحياة حتى يكونوا مؤمنين.
فهموا أن الله هو خالق الحياة ، وهو واهب الحياة ، ومقدر الموت ، وانه مالك الملك أي المالك الوحيد لهذا الكون ، وهو مدبر كل شئ في ذلك الكون ، وان ما يقع فيه بعلمه وتدبيره .
واذا كان هو سبحانه مالك الملك وواهب الحياة ومقدر الموت ، فإن الخوف من غيره نوع أو لون من ألوان الشرك به ويجب الاستعادة به منه سبحانه .
واذا كان هو سبحانه مالك الملك وواهب الحياة ومدبر الكون ، ولا يستطيع احد مهما بلغت قوته أن يدبر شيئا بغير إرادته ، فإن هذا يعني أنه لا يحق لأحد ان يحكم في ملكه سبحانه إلا هو .. يحكم بما يريد .. ويشرع لعباده لما يصلح احوالهم .
انه ” يملك ” و يحكم “..
هو وحده صاحب الحق الوحيد في أن يشرع للبشر ويضع لهم الدستور لحياتهم ويشرع لهم القوانين التي تحكم تصرفاتهم .وليس لأحد غيره ان يحكم بغير حكمه ، ولا يشرع بغير شريعته ..
دستور شامل يحكم الحياة البشرية
ادركت قريش ان كلمة ” لا إله إلا الله ” هي دستور شامل يحكم الحياة البشرية كلها : يحكمها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا ، يحكمها ماديا وروحيا ويحكم افكارها ومشاري عها وتصورتها …
لم يكن هذا الفهم جديدا ايام قريش ، وانما هو قديم منذ خلق الله ادم ، ومنذ هبوطه الى الارض :
(( قلنا اهبطوا منها جميعا ، فإما يأتينكم مني هدى ، فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)) سورة البقرة – الاية 37-38
لهذا كله خشي زعماء قريش على مكانتهم وسلطانهم في التحكم في العباد ، وخاف طغاة قريش على ان يؤول الحكم الى الله ، ويزول تشريعهم الذي يتحكمون به في العباد بأهوائهم ولمصالحهم الشخصية .
ومختصر هذا كله ان شهادة ” لا إله إلا الله ” عندما تستقر في ضمير الانسان الى الطريق الى الله ..
وأن النية وحدها مالم تتحقق في أعمال الانسان المحسوسة في الواقع العملي فهي لا تساوي شيئا في ميزان الاسلام العملي ، وفي ميزان الله ..
كما فَهِمَتْ قريش والعرب اجمعين أن شهادة محمد رسول الله ، تعني انه هو الرسول المرسل من ربه والمُبلغ عن رسالته والمطلوب طاعته فيما جاء به من ربه :
(( وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله )) ال عمران 64
(( وما آتاكم الرسول فخذوه ، وما نهاكم عنه فانتهوا )) الحشر7
أسباب رفض قريس لنطق الشهادة
اما حال قريش وهم حول بيت الله الحرام ثم معارضتهم لرسول الله وعدم ايمانهم بلا إله إلا الله فلأنهم :
- قوم ماديون ، لا يعنيهم إلا أمر التجارة .
- لم يمثل لهم أمر الحج سوى الشرف بين العرب ، والاستعلاء على العرب الذين لا يعترفون برياسة إلا لمن تكون له من قبل البيت الحرام الذي كرمه الله وجعله حرمنا آمناً تُجبى اليه ثمرات كل شئ .
- لا يمثل الحرم لهم سوى الشعور بالأمن والامان في جوار الحرم الآمن بينما الاخرون في خوف وتقاتل كما قال الله تعالي : لإيلاف قريش إيلافهم ، رحلة الشتاء والصيف ، فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جو وآمنهم من خوف.
- كانوا يعرفون محمدا بأخلاقه ومعاملاته ، فتوقعوا انه سيدعوهم الى تحريم الخمر التي يعاقرونها ، وسيحرم عليهم الربا الذي كان جزءا من تجارتهم يأكلون به أموال الناس بالباطل ويحسبونه كالبيع ، وقالوا (( إنما البيع مثل الربا)) سورة البقرة275
- ما كانوا يؤمنون بأن هناك يوما آخر يُحاسب فيه المُحسن على احسانه والمسئ على إساءته ولقد أكد ذلك النبي صلى الله عليه وسلم عندما وقف لينذر قومه بعد أن أمره ربه ، فقد جاء في تلك الخطبة تأكيد لليوم الآخر ، لأنه عليه الصلاة والسلام يعلم أنهم عنه غافلون فقال : (( والله لتموتن كما تنامون ، وَلَتُبْعَثُن كما تستيقظون ، و لتجزون بالإحسان إحسانا ، وبالشر شرا ، وإنها للجنة أبدا أو للنار أبدا ،وإنكم لأول من أنذر بين يدى عذاب شديد)).
- وكان من اسباب عدم تصديقهم للرسول انهم قوم أميون ، لم يعرفوا الرسالة من قبل ، فقد استغربوا ان يكون الرسول منهم ويأكل كما يأكلون ويمشي في الاسواق .(( وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الاسواق ، لولا أُنزل إليه ملك ، فيكون معه نذيرا ، أو يُلقى إليه كنز ، أو تكون له جنة يأكل منها ، وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا)) سورة الفرقان 7 ، 8
- تأكدوا أن الدعوة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم هي دعوة تسوي بين الأغنياء والفقراء ، وأنها تمس كبريائهم ومراكزهم بينما كانوا يشعرون انهم هم الاشراف وحدهم والناس دونهم عبيد ، وإنهم هم الأعلون وغيرهم الادنى والاقل ، وانهم يقاوموا ذلك الداعي الجديد الذي يقول بلسان المقال وبلسان الفعال (( لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى ،وأن الجنة لمن أطاع ، ولو كان عبدا حبشيا ، والنار لمن عصى ولو كان شريفا قرشيا ))، فهو يأخذ بنواصي الأقوياء ليضعها بجوار رؤوس الضعفاء ، ولقد لمحوا ذلك في أتباعه ، فقد رأوا أبا بكر نَسَّابَةِ العرب ومألف قريش ، يكون بجوار بلال وعبيد أبي بكر نفسه ، لا يفرق بينهما إلا فضل الايمان ، فهو مقياس الشرف والضعف ، والإكبار والإصغار.
- وفوق ما ذكرنا كله – العصبية العربية الجاهلية – التي كانت مستمكنة في النفس العربية يتوارثونها جيلا بعد جيل ، فالعرب تنفس على قريش مكانتها ، وقريش تنفس على بني قصي مالهم من مكانة ، وبنو قصي وغيرهم ينفسون على بني عبد مناف ، وبنو امية ينفسون على بني هاشم رياستهم للعرب ، وكونهم في المكانة العليا من سدانة البيت والقيام عليه ، فهاشم ورث الرياسة من عبد مناف ، وعبدالمطلب أخذها عن هاشم ، وأبو طالب وريها من عبدالمطلب.
فالدعوة الاسلامية تعرضت لعداوة من عادوا قصيا ، وتعرضت لما عادوا عبد مناف ،ثم تعرضت لمن كانوا اعداء لبني هاشم ، ومن كل هؤلاء تكونت المقاومة ، ولعل أمثل صورة لهذه العدوات مجتمعة هو عمرو بن هشام الذي اشتهر في الاسلام باسم أبي جهل ،وهو به جدير . فقد كان فرعون هذه الامة ، وإن لم يكن فرعون في مثل سفهه وحنقه ورعونته .
واذا كانت قريش في جاهليتها قد فهمت شهادة التوحيد بمعناها الحقيقي ومدلولها الواقعي ، فإن واقع الامة الحالي يشبه الجاهلية الاولى التي جاء الاسلام الى تغييرها ، وان تلك الجاهلية التي تعيشها الامة يستحيل ان يتحقق لها النصر وهي لاتمتلك عناصر القوة الايمانية التي ورد ذكرها في القرأن الكريم ((﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ(171)إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ(172)وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ(173)
انتهت الحلقة السابعة عشر (20) ، ونلتقي معكم بإذن الله في الحلقة الثامنة عشر(21) يوم الجمعة القادم مع فقه السيرة وظلال النبوة.