الصراط المستقيم

 السيرة النبوية (22) الملك الذي لا يُظلم عنده أحد

بقلم : الدكتور محمد النجار

ذكرنا في الحلقة السابقة(21) قصة الصحابيين خباب بن الارت وضماد الأزدي، وما نال الصحابة  من ألوان من العذاب الذي يَفتنُ المؤمن عن دينه، ومع اشفاق النبي صلى الله عليه وسلم على اصحابه كان لابد من الهجرة الى مكان يأمنون فيه على دينهم وأرواحهم.  ونبدأ الحلقة (22) باختيار النبي صلى الله عليه وسلم لأرض الحبشة للهجرة اليها . عنوان الحلقة (الملك الذي لا يُظلم عنده أحد)..

 جبن الطغاة :

كان طغاة مكة لا يعذبون سوى الضعفاء الذين لا قوة  لهم ولا سند أو جوار.

فحين اسلم الوليد بن الوليد بن المغيرة ، مشى رجال من بني مخزوم الى أخيه هشام بن الوليد، ليأخذوه.

قال ابن اسحاق: أن رجالا من بني مخزوم  مشوا الى هشام بن الوليد – حين اسلم أخوه الوليد بن الوليد بن المغيرة – وكانوا قد أجمعوا على أن يأخذوا  فتيةً منهم كانوا قد  أسلموا ، منهم سلمة بن هشام ، وعياش بن أبي ربيعة .

فقالوا  لهشام بن الوليد ، وقد خافوا  شره : إنا قد أردنا أن نعاتب هؤلاء  الفتية على هذا الدين الذين أحدثوا ، فإنا  نأمن بذلك في غيرهم.

فقال لهم هشام بن الوليد ( مُحَذِّرا) :  هذا فعليكم به فعاتبوه ..

لكن إياكم ونفسه ، ثم :

ألا لا يقتلن أخي عييش …… فيبقى بيننا أبدا تلاحي

احذروا على نفسه ، فأقسم بالله لئن قتلتموه لأقتلن أشرفكم رجلا .

فقالوا  فيما بينهم : اللهم العنه ، من يغرر بهذا الخبيث ، فو الله  لو أصيب في أيدينا  لَقَتَلَ أشرفنا رجلا ..

فتركوه ونزعوا عنه  ..

وكان ذلك مما دفع الله به عنهم  .

قريش تسب القرآن :

روى البخاري بسنده عن ابن عباس ، في قوله عن الله عز وجل :

((ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها )) سورة الاسراء 110

نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم متوار بمكة  ، فكان اذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن . فإذا سمع ذلك المشركون  سبوا القرآن ، ومَنْ أنزله ، ومن جاء به ، فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : ولا تجهر بصلاتك فيسمع المشركون قراءتك ، ولا تخافت بها عن أصحابك. أسْمعهم القرآن ، ولا تجهر ذلك الجهر ، وابتغ بين ذلك سبيلا . يقول بين الجهر والمخافتة.

 تفكير النبي في تهجير اصحابه وابعادهم عن مكة :

ازداد عدد الذين آمنوا بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومع زيادة الاضطهاد والايذاء لم يمنع الضعفاء  من الايمان ، ولم يمنع اشراف مكة من دخول بعضهم في الاسلام ، وكان لا مناص من التخلص من الايذاء ، فكانت الهجرة من مكة امر ضروري :

(( ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الارض مراغما كثيرا وسعة ))سورة النساء 100

صفات الارض المطلوب الهجرة اليها :

  1. ان تتوفر فيها الحرية في كل المجالات سواء حرية العقيدة وحرية الحركة والعمل .
  2. ان تكون بعيدة عن سطوة مكة وقريش .
  3. أن تكون تحت سلطان حاكم عادل لا يُظلم عنده احد .
  4. ان تكون بعيدة عن العنصرية والطائفية ، وتتساوى فيها الحقوق بين جميع المقيمين فيها .

الهجرة الاولى الى الحبشة :

وكان بالحبشة ملك صالح يُقال له ” النجاشي”، لا يُظلم أحد بأرضه ، وكانت ارض الحبشة متجرا لقريش يتجرون فيها ، يجدون فيها رفاها من الرزق ، وأمنا ومتجرا حسنا.

وبهذا  توفرت الشروط في بلاد الحبشة وملكها الذي اشتهر عنه العدل والرحمة وحسن التعامل مع رعاياه وكل المقيمين على ارضه   ، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم ان يهاجر أصحابه الى تلك البلاد .

فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهم :

((لو خرجتم الى أرض الحبشة ، فإن بها  مَلِكا  لا يُظلم عنده أحد ، وهي ارض صدق ، حتى يجعل الله لكم فرجا ، مما أنتم فيه )).فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا الى ارض الحبشة ، فذهب اليها عامتهم لما قُهروا بمكة ، وخاف عليهم الفتن  . ومكث النبي صلى الله عليه وسلم .

وقد خرج الذين هاجروا متسللين سرا  حتى انتهوا الى الشعيبة ، منهم الماشي والراكب ، ووفق الله للمسلمين ساعة جاؤوا  سفينتين للتجار حملوهم فيهما الى ارض الحبشة  بنصف دينار.

وكان خروجهم في شهر رجب في السنة الخامسة من حين نُبئ  رسول الله الله صلى الله عليه وسلم.

وقد خرجت وراءهم قريش لمحاولة تتبع اثارهم حتى جاؤوا البحر لكن كانت السفينتان قد غادرتا بالمهاجرين ولم تدرك قريش منهم احدا .

قالوا : وقدمنا ارض الحبشة ، فجاورنا بها خير جار ، آمنا على ديننا ، وعبدنا الله ، لا نُؤذى ولا نسمع شيئا نكرهه  .

وكان من ثمار الهجرة التي تمت في حياة المسلمين والرسول صلى الله عليه وسلم مايلي:

الهجرة الى الحبشة  : زرع الاسلام في ارض النصارى ، وتعريفهم بالاسلام ودعوتهم اليه

الهجرة الى المدينة  :  زرع الاسلام في ارض جديدة وتعريف اليهود بالإسلام

وكان في اول هجرة الى الحبشة : عثمان بن عفان  ومعه رقية بنت محمد صلى الله عليه وسلم الذي تزوجها ذو النورين بعد أن تركها هي واختها ابنا أبي لهب اللعين ، وأبو حُذيفة بن عُتبة بن ربيعة ، ومعه امرأته سَهْلة بنت سُهيْل ، والزبير بن العوام ، وغيرهم تمام عشرة رجال .

وقد اختلف في عدد من خرج الى الحبشة في هذه الهجرة الاولى ، فقيل : كانوا احد عشر رجلاً وأربع نسوة .

وكان مسيرهم في رجب سنة خمس من النبوة وهي السنة الثانية من إظهار الدعوة ، فأقاموا شهري  شعبان ورمضان.

هل كان المهاجرون في ضيافة النجاشي ام كانوا يعملون؟

النجاشي ملك الحبشة ( الارشيف )

لم يذكر التاريخ عن المهاجرين الى ارض الحبشة أنهم كانوا يتولون عملا فيها أم كانوا في ضيافة النجاشي!

لم يذكر التاريخ شيئا من ذلك ، لأن مؤرخي السيرة النبوية الطاهرة لم يعطوا أهمية  إلا بحال المسلمين، وحال الاسلام ،وبيان ما  تحمله  المسلمون  للأذى في سبيل عقيدتهم ، يفصلون في ذلك ما يشاء  طالب الحقيقة أن يعرفه ، ولكنهم ما كانوا  يعنون بالأعمال المادية من صناعة ومكاسب !

ولكن ان أردنا ان نعرف ماطواه التاريخ ولم يذكره ، نتعرفه من صور الرجال الذين هاجروا ، فلابد أن نتصور من صورهم أحوالهم   .

ونحاول وضع تصور قريب من الواقع من خلال تعاليم الاسلام وطبيعة الاعمال التي كان يشغلها بعض المهاجرين الذين هاجروا الى الحبشة في التصور التالي :

  1. لم تنقل كتب التاريخ ان هؤلاء المهاجرين كانوا ضيوفا على النجاشي خلال الفترة التي عاشوها في الحبشة ، وكان يكفيهم الحياة الآمنة التي تمتعوا بها ، والحرية التي عاشوا فيها بعيدا عن طغاة قريش ومنافقيها . وقاموا بأعمال يكسبون منها ما يغطي تلبية حاجاتهم دون اسراف او تقتير. كما إن  كرامة المسلم تأبي أن يعيش كَلَّاً على غيره ، بل يرفض ألا يأكل إلا  من عمل يده.
  2. كان بعض المهاجرين يتمتع بالحس الاقتصادي ولديه مهارات في مزاولة التجارة مثل عثمان بن عفان رضى الله عنه الذي هاجر ومعه جزء من ماله ، والذي يستخدمه في التجارة لتنمية المال ، وعدم الانفاق من أصل المال الذي ينفد بالنفقة إذا لم يتم تنميته بالعمل والإتجار فيه ، ومعلوم ان رأس المال يتآكل بالنفقة في حال عدم استثماره.
  3. التكافل الاجتماعي بين المهاجرين في تلك البلاد البعيدة نتيجة ما يلي :

–  طبيعة الوضع الراهن الاستثنائي الذي يعيشه المهاجرون، وما  يتطلبه من تكافل اجتماعي واقتصادي في تلك البلاد البعيدة التي يحتاجون فيها الى الأمن النفسي والاقتصادي والاجتماعي والروحي.

–  تحقيق مبدأ المؤاخاة بين اعضاء مجتمع تلك المجموعة المهاجرة ، وقد تحقق بصورة لم يسبق لها مثيل عند الهجرة من مكة الى المدينة حيث آخى النبي بين كل المهاجرين والانصار.

– تحقيق مبدأ التراحم وقد تحقق في مكة عندما اشترى ابو بكر الصديق عددا من العبيد والموالي الذين كانوا يُعذبون من مشركي مكة ، فكان يشتريهم ابوبكر ثم يعتقهم ابتغاء مرضات الله .

بهذا نختم  الحلقة (22) الاخيرة في السنة الميلادية2017 ونلتقي معكم الاسبوع القادم في السنة الميلادية الجديدة (2018م) بإذن الله في الحلقة  الثالثة والعشرين(23) يوم الجمعة القادم  مع فقه السيرة وظلال النبوة.   مع ملاحظة  احتفاظي بالمراجع لعدم امكانية نشرها في الجريدة في الوقت الحاضر..

 

د. محمد أحمد النجار
الجمعة 11 ربيع ثان 1439هـ
الموافق 29 ديسمبر 2017

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.