السيرة النبوية (24).. لن يُسْلِمَ عمر حتى يُسلم حمار ابن الخطاب
بقلم : الدكتور محمد النجار
ذكرنا في الحلقة (23) الصحابي الشاب المدلل مصعب ابن عمير الذي كانت قَدَمُهُ تقطر دما اثناء سيره في الطريق مع اول دفعة من المهاجرين الاوائل الى الحبشة ..ونزلت سورة الكهف بأربع قصص توحي كل قصة منها بمعاني ودروس ومبشرات من قلب المحن..عنوان الحلقة 24 (لن يُسْلِمَ عمر حتى يُسلم حمار ابن الخطاب)..
رغم اختيار الله مكة لرسالته دون سائر البلاد ، واختيار أحد ابنائها (محمد صلى الله عليه وسلم ) من دون ابناء سائر الأمم ليكون رسولَ الله للبشرية اجمع ، رغم ذلك اضطر أهل مكة ، المؤمنون بهذه الرسالة للتفكير في البحث عن مكان آخر غير مكة للهجرة اليه ، يأمنون فيه على أنفسهم ودينهم .
في تلك الظروف الحالكة نزلت سورة الكهف التي اشتملت على ثلاث قصص تحمل اشارات هامة من الله تعالى الى رسوله صلى الله عليه وسلم واصحابه وسائر المؤمنين الى يوم الدين :
1.القصة الاولى : قصة اصحاب الكهف :
نرى في ملامح ” قصة الشباب اصحاب الكهف” أن الهجرة سمة من سمات أصحاب الدعوات الى الله وتوحيده ، وأنها قد تكون ضرورة اذا أصبحت ديارهم وعشيرتهم مراكزاً للكفر وتشكل خطرا على أرواح المؤمنين واعراضهم ودينهم :
(وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا) فهؤلاء الشباب الذين تركوا بلدتهم وهجروا أهلهم فرارا بدينهم وعقيدتهم ، ثم يأووا الى الكهف الصغير الضيق الخشن المظلم ، يستروحون رحمة الله ، ويشعرون بهذه الرحمة في ذلك الكهف المظلم الضيق لكنه يتسع بإيمانهم بالله ويضئ أرواحهم بصدق توكلهم على الله ..إنهم متأكدون أن الله سينشر رحمته عليهم في ذلك الكهف .. وهذه اشارة هامة لكل من تضيق عليه ديار ينتشر فيها الطغيان ويغيب عنها الحق وتختفي فيها العدالة وتصعق فيها الحرية بأن يتخذ سبيل اصحاب الكهف في الهجرة الى رحمة الله في اماكن يأمن فيها على دينه وعقيدته وحياته.
وقد أرشدت قصة “أصحاب الكهف” كل المؤمنين الموحدين بالله و المستضعفين في الارض إلى أن الهجرة من ديار الكفر والاضطهاد او من ديار المسلمين التي يتحكم فيها الطغاة والمجرمون والخونة وعديمو الضمائر ضرورة مُلحة في حالة الخوف من الفتنة وسبيل النجاة بكل ما تحمل من معاني ، وأن الله تعالى الذي ربط على قلوب هؤلاء الفتية الذين هاجروا إليه وآووا الى الكهف ، مدة تزيد على الثلاثمائة عام، وكان يرعاهم فيها بفضله وحوله وقوته.. قادر على أن يربط بالإيمان على قلوب هؤلاء المهاجرين المسلمين في الحبشة أو في أي مكان آمن يكتبه لهم ، وبالتأكيد فإن الزمن في صالح دعوة التوحيد، وقد رأينا “فتية الكهف” عندما تركوا قومهم وهم على الكفر والضلال، وعندما بعثهم الله بعد هذه المدة الطويلة كان الايمان قد سرى في قلوب قومهم وأصبحوا من المهتدين المؤمنين؛ لأن التوحيد هو أصل الوجود.
2.القصة الثانية : قصة الخضر وموسى :
تعكس تلك القصة الشهيرة في القرآن الكريم ” قصة الخضر وموسى “عن أمرين مهمين :
الأمر الأول :
ان الله يهب علمه لمن يشاء، ونرى ان الله تعالى أراد أن يعطي درسا عمليا لنبيه (( موسى)) بأن هناك من هو أعلم منه بفضله سبحانه.
وذلك لما أورده البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال :
(( إن موسى قام خطيبا في بني اسرائيل ، فَسُأِل أي الناس أعلم ؟
قال موسى: أنا ..
فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه ، فأوحى الله إليه إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك
قال موسى : يارب وكيف لي به ؟
قال الله تعالى : تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل ، فحيثما فقدت الحوت فهو ثم )) .
الأمر الثاني :
تعكس تلك القصة الشهيرة في القرآن الكريم ” قصة الخضر وموسى ان الظروف لا تتحقق دائما أو تؤتي نتائجها حسب الاسباب الظاهرة بل ربما تأتي النتائج خلاف الاسباب الظاهرة ، وان المقدمات ربما لا يترتب عليها النتائج المتوقعة ،بل ربما يتحقق عكس المتوقع تماما .
وقد رأينا نبي الله موسى عليه السلام لم يصبر على افعال الخضر التي رآها على ظاهرها بأنها افعال تناقض الدين والعقل والمنطق فيوصيه الله سبحانه وتعالى بالصبر ، بل ان الخضر اشترط من البداية على موسى أن يتحلى بالصبر إذا كان يريد مصاحبته والاستمرار في مرافقته ، ولا يسأل عن شئ ولا يستفسر حتى يكشف له عن سر الاحداث التي يراها اثناء مصاحبته .
ولهذا .. فإن هجرة المسلين وخروجهم من مكة الى ارض أخرى تتوفر فيها قيم الحرية والعدل والأمان يكون فيه النجاة بالنفس والعقيدة والحرية ، مثلما كان خرق السفينة في قصة الخضر كان سببا في نجاة السفينة وتحقيق لمصالح اصحابها الضعفاء .. ولولا قتل الغلام الذي كان يحمل بذرة الكفر والطغيان لكان سببا لشقاء والديه المؤمنين في الدنيا والاخرة .. ولولا هدم جدار الطفلين اليتيمين واعادة بناءه لكان سببا في ضياع اموال هؤلا ء الاطفال في تلك القرية البخيلة التي رفضت اطعام موسى والخضر ..
3.القصة الثالثة : قصة ذي القرنين :
وذو القرنين لا يُذكر في القرآن الكريم لأنه ملك ، ولكن يُذكر لأعماله الصالحة، وحين عرض عليه القوم ان يبني لهم سدا يحميهم من يأجوج ومأجوج مقابل ان يعطوه مالا ، يرفض هذا المال ويرده عليهم لأن تمكين الله له خير من أموالهم التي يعرضوا عليها ، فيقول لهم (( ما مكني فيه ربي خير )) وحينما اكتمل بناء وتشييد السد لا يفتخر بأن هذا من عبقريته ولا ينسب هذا الانجاز لقدراته البشرية وإنما يرجعه لتوفيق الله
(( قال : هذا رحمة من ربي ، فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا ))
تفيد هذه القصة أن الارض لله يورثها من يشاء من عباده ، وأن الله يبعث من عباده- من يقوم بإنجاء المؤمنين الضعفاء مثل ذي القرنين الذي أنجى به الله المؤمنين من يأجوج ذلك الزمان ، وان الله سيحمي المهاجرين المسلمين الذين هاجروا من مكة (رغم أن الوحي نزل فيها ) الى الحبشة وملكهم النجاشي ، وأن المصلحين من عباد الله هم الأولى و الأحق بأن يرثوا الارض .
وأن الله تعالى لا يزال يبعث من عباده رجالا أقوياء يقومون بنصرة المظلومين والمستضعفين. فالله الذي بعث “ذا القرنين” لإقامة سد “يأجوج ومأجوج” لإنجاء الضعفاء قادر على أن يبعث لهؤلاء المسلمين المستضعفين ملكًا مثل “النجاشي” يحميهم ويحول دون عدوان قريش عليهم، وانه تعالى قادر على حماية المظلومين والمستعضفين في كل زمان ومكان.
لن يُسْلِمَ عمر حتى يُسلم حمار ابن الخطاب !!!
حزن عمر في جاهليته على المهاجرين من مكة الى الحبشة :
بينما كان اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يستعدون ليلة الهجرة الى الحبشة ، مر عمر ابن الخطاب (قبل اسلامه )على احدى نساء التي تستعد للهجرة ، وعَلِمَ بهجرتها فإذا هو يتأثر قلبه ويحزن على فراق هؤلاء ، فيدعو الله لهم قائلا بأن يصحبهم الله، فيتعجب زوج تلك الصحابية التي تتوقع اسلام عمر ، فيقول لها : لن يُسلم عمر حتى يُسلم حمار ابن الخطاب !!!
روى الحاكم عن عبدالله بن عامر بن ربيعة عن امه ام عبدالله(ليلى بنت ابي حثمة) قالت : والله إنا لنترحل الى ارض الحبشة فقد ذهب عامر في بعض حاجتنا إذ أقبل عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى وقف على وهو على شركه وكنا نلقى منه البلاء والشدة علينا ، فقال : إنه الانطلاق يا أم عبدالله ؟ فقلت : نعم .والله لنخرجن في ارض الله ..آثيتمونا وقهرتمونا حتى يجعل الله لنا مخرجا ، فقال : صحبكم الله .. ورأيت له رقم لم أكن أراها ثم انصرف وقد أحزنه فيما أرى خروجنا ، فجاء عامر بن ربيعة من حاجته تلك ، فقلت : يا أبا عبدالله لو رأيت عمر آنفا ورقته وحزنه علينا ، قال : افتطمعي في إسلامه؟ قلت : نعم ، قال : فلا يسلم الذي رأيت حتى يُسْلِمَ جمل الخطاب!.
وفي رواية الطبراني :
روى الطبراني عن عبدالله بن عامر بن ربيعة ، عن أمه ليلى قالت:
كان عمرُ ابن الخطاب من أشد الناس علينا في إسلامنا ، فلما تهيَّأنا للخروج الى ارض الحبشة ، فأتي عمر بن الخطاب وأنا على بعيري وأنا أريدُ أن أتوجه ، فقالَ :أين يا أمُ عبدالله ؟ فقلت :آذيتمونا في ديننا ، فنذهبٌ في أرض الله حيثُ لا نُؤذى.
فقال عمر : صَحِبَكم الله ثم ذهب .
فجاء زوجي عامرُ بن ربيعةَ فأخبرته بما رأيتُ من رِقَّةِ عمر ، فقال :
” تَرجينَ أن يُسلمَ ، والله لا يُسلمُ حتى يُسْلِمَ حِمارُ “
هل توقف المهاجرون في جزيرة عيري السودانية :
خرجت الدفعة الاولى من المسلمين الأوائل في شهر رجب من السنة الخامسة من النبوة ( عام 615 للميلاد) أي بعد نبوّة الرسول صلى الله عليه وسلم بخمسة أعوام .
خرجوا من مكّة سرّاً وخلسة من قريش دون أن يراهم أحد، حتى وصلوا لميناء الشعيبة ( قريبا من جدة حاليا) ، الواقع على بحر القلزم (البحر الأحمر)، وقد ركبوا السفينة بعد أن دفع كُل منهم نصف دينار .
وقد حاول بعضٌ من قُريش اللحاق بهم، إلاّ أن السفينتين غادرتا الميناء قبل وصولهم والامساك بهم.
وتقول بعض المصادر ان الرحلة اتجهت إلى الجنوب قبل أن تتوقف في جزيرة عيري السودانية (جزيرة الريح)، بهدف الارتياح والتزود بالماء، إلا ان هذه المعلومة لم تجد مراجع تؤكد صحتها
وصول المهاجرين الى الحبشة :
وأكمل المُهاجرون طريقهم فيما بعد إلى ميناء أدوليس الذي يقع إلى الجنوب من مدينة مصوع الحالية والتي تتبع لإريتريا، وكان هذا هو الميناء الرسمي للحبشة (أو مملكة أكسوم حينها) .
ووصلت الرحلة في نفس شهر رجب أي أن الرحلة استغرقت أقل من ثلاثين يوما ، في الوقت الذي كانت السفن تقطع هذه المسافة في مدة زمنية اطول لكن بركة تلك الرحلة بافرادها باركت تلك السفينة ،ووصلت الى وجهتها في وقت أقل.
وفي ذلك يقول ابن هشام : ( فمكثوا في أرض الحبشة بقية رجب وشعبان إلي رمضان ، وهذا إن دل علي شيء فإنما يدل علي أن الأرض التي هاجروا إليها كانت قريبة جدا من ديارهم وإلا لما أمكنهم أن يصلوا إليها في أيام ، علما بأن المسافة مابين مكة أو المدينة وحضرموت الموازية لأرض الحبشة ( بمفهومها الحالي ) كانت تستغرق آنذاك حتي مع السرعة الشديدة شهرين كاملين.!!!!!!!
بهذا نختم الحلقة (24) ونلتقي معكم الاسبوع القادم بإذن الله في الحلقة (25) يوم الجمعة القادم مع فقه السيرة وظلال النبوة. مع ملاحظة احتفاظي بالمراجع لعدم امكانية نشرها في الجريدة في الوقت الحاضر..