الصراط المستقيم

السيرة النبوية (31) زلزال إسلام حمزة

بقلم الدكتور : محمد النجار

 ذكرنا في الحلقة (30)  اذى عتيبة بن أبي لهب  للنبي،فطلق ابنة النبي ، ثم تسلط عليه بالأذى ، وشق قميصه ، وتفل في وجهه فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم (( اللهم سلط عليه كلبا من كلابك )) فسلط الله عليه أسدا  ظل يتشمم كل الركب وهو بالشام حتى وصل اليه،فصاح عتيبة :لقد قتلني محمد وهو في مكة.       وحلقة اليوم تتضمن تعذيب ابي بكر لدرجة الموت،وقصة وقاحة ابي جهل مع النبي وثورة حمزة ضده فضربه وشج رأسه وما تلا ذلك من احداث بإذن الله..اترككم مع الحلقة (31) سائلا الله أن يجعل ماننشرهواياكم في ميزان حسناتنا صدقة جارية الى يوم لقاء النبي على الحوض ونفوز بشربة هنيئة من يده الشريفة لا نظمأ بعدها أبدا..

  مقر القيادة السري

لم يستطع المسلمون الأولون ان يجتمعوا  بسهولة ليتعلموا من الرسول صلى الله عليه وسلم  دينهم ، بل كانوا يجتمعون خفية في دار الارقم بن أبي الارقم ، ذلك البيت الطاهر الذي كان يجتمع فيه نحو تسعة وثلاثين ،و كانوا  هم المجتمعين خاصة عندما اقتحم عليهم عمر بن الخطاب ، وتصدى له الرسول صلى الله عليه وسلم. وهذا لا يعنى ان الذين اسلموا كانوا هذا العدد فقط ، فكان منهم من يخفي ايمانه عن اهله ، عن امه وابيه وأخيه، ومنهم من كان يخفيه عن سيده  فرارا بدينهم خشية الملام او التعذيب .. فلم يكن بيت في مكة لم يدخل فيه الاسلام سواء كان علانية أو خفية .

      ولم يكن في امكانية المؤمنين الجهر بقراءة القرآن الكريم خشية الأذى ، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد كانت دعوته وتبليغ رسالة ربه توجبان عليه أن يجهر مهما يكن الأذى الذي ينزل به،فإن الله عاصمه من الناس،وما كانت قريش تستطيع دفعه، بل كانوا يتناهون فيما بينهم ان يسمعوه ، ولكنهم يذهبون خفية ليسمعوه ، يذهب كل واحد منهم مختفيا عن جماعته ثم يلتقون في الاستماع اليه ، وقد تناهوا ، ولكن كل واحد خالف ما اتفق عليه معهم ، ويحسب أنه المخالف وحده، وإذا هم جميعا مختلفون وإذا  هم جميعا ناقضون لما اتفقوا  .

      بعد الواقعة التي حدثت مع سعد بن ابي وقاص رضي الله عنه عندما كان نفر من اصحاب رسول الله يؤدون الصلاة في شعب من شعاب مكة ، فظهر عليهم نفر من المشركين ، فناكروهم وعابوا عليهم مايصنعون حتى قاتلوهم ، فضرب سعد ابن ابي وقاص رجلا من المشركين بِلَحْي بعير فشجه ، وكان أول دم أهريق في الاسلام ، فاتخذ النبي صلى الله عليه وسلم قرارا  بإنشاء مقرا سريا للقيادة ومركزا للدعوة  في دار الارقم بن ابي الارقم يجتمع فيه المسلمون، يستمعون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويتلو عليهم القرآن  ويتلقون فيه كل جديد من الوحي ويربيهم على عينه ، كما تربى هو على عين الله ، واصبح هذا الجمع هو قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم   .

الارقم بن ابي الارقم  :

    اسمه عبد مناف بن أسد بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم ، من بني مخزوم ،  يكنى أبا عبد الله قال ابن السكن أمة تماضر بنت حذيم السهمية ويقال بنت عبد الحارث الخزاعية

وكان من السابقين الأولين الذين أسلموا على يد أبي بكر الصديق  رضي الله عنهما ، وقيل أسلم بعد عشرة .

روى الحاكم في ترجمته في المستدرك  أنه اسلم سابع سبعة، وكانت داره على الصفا، وهي الدار التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس فيها  في الاسلام.  وذكر قصة طويلة لهذه الدار ، وأن الارقم حبسها (أي اوقفها)، وأن احفاده بعد ذلك باعوها لأبي جعفر المنصور.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في داره عند الصفا حتى تكاملوا  أربعين رجلا مسلمين ، وكان آخرهم إسلاما عمر بن الخطاب، فلما تكاملوا أربعين رجلا خرجوا.

وروى الحاكم ان الارقم أوصى أن يصلى عليه سعد بن ابي وقاص.

وتوفى وهو ابن خمس وثمانين سنة ، وصلى عليه سعد بن ابي وقاص.

وشهد الارقم بدرا وأُحدا والمشاهد كلها ، وأقطعه النبي صلى الله عليه وسلم دار بالمدينة .

  سبب اختيار النبي صلى الله عليه وسلم دار الأرقم

اختار النبي صلى الله عليه وسلم دار الارقم للأسباب التالية :

  1. كان الارقم رضي الله عنه شابا صغيرا عند اسلامه لايتجاوز عمره السادسة عشرة سنة، و هذا السن الصغير تستبعده قريش عندما تبحث عن مكان التجمع الخاص بمحمد صلى الله عليه وسلم ، بل تبحث في بيوت كبار الذين اسلموا  من كبار الصحابة أو في نفس بيت النبي صلى الله عليه وسلم
  2. كان الارقم من بني مخزوم وهي قبيلة منافسة ضد بني هاشم مما يجعلها بعيدة عن تفكير المشركين أن تكون دارا لدعوة محمد صلى الله عليه وسلم في عقر دار اعداءها  لأن محمدا صلى الله عليه وسلم من بني هاشم.
  3. كان الارقم خافيا إسلامه عن جميع قريش بما فيهم والده ، لأن والده كان كفيفا ، وخرج منزعجا عندما دخل عمر بيت الارقم واعلن  اسلامه فكبر النبي صلى الله عليه وسلم وكبر المسلمون تكبيرة سمعها كل من في  البيت بينما أبوه لا يدري عما حدث وهذا دليل على عدم معرفته بالموجودين في البيت وديانتهم وانشطتهم.

ولهذه الاسباب كان اختيار النبي لهذا البيت مكانا آمنا اجتمع فيه مع اصحابه بأمان يعلمهم دينهم وقرآنهم.

تعذيب أبي بكر لدرجة الموت  :

ان ما تحمله صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من البلاء الشديد لا تتحمله الجبال الراسيات ، لقد ضحوا بأموالهم ودماءهم في سبيل الله ،  ولم يستثن اشراف المسلمين من هذا الابتلاء . فلقد أوذي ابو بكر  رضي الله عنه ،وحُثي على رأسه  التراب ، وضُرب في المسجد الحرام بالنعال ، حتى ما يُعرف وجهه من أنفه ، وحُمل الى بيته في ثوبه ، وهو ما بين الحياة والموت   .

     روت  السيدة عائشة رضي الله عنها  أنه لما اجتمع اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا ثمانية وثلاثين رجلا (في دار الارقم سرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، ألحَّ أبو بكر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهور، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم  ((يا أبا بكر إنا قليل)) .

      فلم يزل ابو بكر  يُلح  حتى ظهر  رسول الله صلى الله عليه وسلم  وتفرق المسلمون في نواحي المسجد، كل رجل في عشيرته ، وقام أبو بكر في الناس خطيبا ورسول الله صلى الله عليه وسلم ، جالس ،فكان أول خطيب دعا إلى الله تعالى، فثار المشركون على أبي بكر رضي الله عنه وعلى المسلمين ، فضربوهم في نواحي المسجد ضربا شديدا، وَوُطِىَء أبو بكر وضرب ضربا شديدا، ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة ، فجعل يضربه  بنعلين مخصوفتين ويحرفهما إلى وجهه ، ونزا على بطن أبي بكر رضي الله عنه ، حتى صار لا يعرف أنفه من وجهه، فجاءت (بنو تيم) يتعادون ،  فَأَجْلَتْ المشركين عن أبي بكر ، وحَمَلَتْ بنو تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله، ولا يشكون في موته.

 ثم رجعت بنو تيم فدخلوا المسجد ، فقالوا : والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة بن ربيعة .

 ثم رجعوا إلى أبي بكر وصار والده أبو قحافة وبنو تيم يكلمون أبا بكر حتى أجاب ، فتكلم آخر النهار، فقال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟؟ فمسوا منه وعذلوه .

 وقالوا  لأمه ، أم الخير : انظري أن تطعميه شيئا ، أو تسقيه إياه .   فلما خلت به ألحت عليه ، وجعل يقول : ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟؟

قالت : والله ما لي علم بصاحبك.

 فقال: اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب ،  فاسأليها عنه.

 فخرجت حتى جاءت أم جميل ، فقالت : إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله!

قالت (أم جميل ) : ما  أعرف أبا بكر  ولا  محمد بن عبدالله !!  ثم قالت : وإن كنت تحبين أن اذهب معك الى ابنك؟ قالت: نعم، فمضت معها إلى أن جاءت أبا بكر فوجدته صريعا دَنَفا ، فدنت أم جميل ، وأعلنت بالصياح ، وقالت:

والله إن قوما نالوا هذا منك لأهلُ فسق وكفر ، وإني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم.

 فقال لها أبو بكر رضي الله عنه: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟؟

 فقالت له : هذه أمك تسمع !

 قال: فلا شئ عليك منها ( أي إنها لا تفشي سرك).

  قالت: سالم صالح

قال : أين هو ؟

قالت : في دار الأرقم.

قال:  فإن لله عليَّ أن لا أذوق طعاما ولا أشرب شرابا أو آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فأمهلتا حتى إذا هدأت الرجل وسكن الناس خرجتا به يتكىء عليهما ، حتى أدخلتاه  على رسول الله صلى الله عليه وسلم ،  فأكب عليه رسول الله فقبّله، وأكب عليه المسلمون ،  ورق له رسول الله صلى الله عليه وسلم  رقة شديدة .

فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، ليس بي من بأس إلا ما ،نال الفاسق من وجهي وهذه أمي برّة بولدها ، وانت مبارك ،فادعها الى الله ، وادع  لها ، عسى الله أن يستنقذها بك من النار، فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودعاها إلى الإسلام فأسلمت .

دروس مستفادة من تصرفات أم جميل مع أم الخير :

حب أبي بكر العظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويظهر جليا وهو بين الحياة والموت ولا يفكر في نفسه بل يفكر في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقسم أن لا يأكل ولا يشرب حتى يطمأن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويراه بنفسه ، ويتهادى في مشيه بين والدته ام الخير وبين الصحابية الجليلة ام جميل

ولا يوجد في تاريخ الانسانية كلها مثيلا لهذا الحب العظيم.

  1. الحرص الشديد لأبي بكر رضي الله عنه على إظهار الاسلام امام مشركي مكة ، وإعلان الايمان في مواجهة الكفر ، حيث ألح على النبي صلى الله عليه وسلم في الخروج والظهور والصلاة في المسجد مع النبي واصحابه رغم عدم اختيار النبي لهذا الخيار قائلا لأبي بكر ((يا أبا بكر إنا قليل))، ثم ظهر النبي معه وكانت الواقعة التي حدثت بضربه واصابته الشديدة التي كاد ان يفقد حياته فيها .
  2. أبو بكر أول خطيب وداعية الى الله بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حيث قام في الناس خطيبا ورسول الله صلى الله عليه وسلم ، جالس ،ولم يأبه ابو بكر بما سيتعرض له من اهانات وضرب واعتداء عليه .
  3. مدى قوة “تأثير العصبة القبلية” في مجريات الاحداث بغض النظر عن العقيدة التي يؤمن بها افراد القبيلة والعشيرة ، حيث هددت عشيرة  أبي بكر ((بني تيم )) بقتل ((عتبة بن ربيعة)) في حال موت ابي بكر الصديق نتيجة اعتداء عتبة بين ربيعة بشدة عليه   .
  4. قوة الحس الأمني للصحابية أم جميل رضي الله عنها الذي ظهر جليا في التصرفات التالية :

1)    انكرت معرفتها أصلا بأبي بكر امام والدته(أم الخير) حينما سألتها عن ام الخير عن مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا أبعد فكرة اسلامها اصلا عن ذهن والدة ابي بكر التي لم تكن اسلمت بعد.

2)    انكار ام جميل معرفتها بأبي بكر مما  أكد لوالدة ابي بكر عدم معرفتها بأبي بكر ، كما أكدت لها عدم معرفتها بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم (مخافة ان تكون عيناً لقريش  )   .

3)    حرص أم جميل على توصيل معلومة مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسها دون الافصاح أمام  والدته ، حيث انكرت معرفتها بأبي بكر ، وفي نفس الوقت عرضت عليها الذهاب الى ابنها ابي بكر لمساعدتها وهي شبه متأكدة بموافقتها على ذلك .

4)    استنكار ام جميل  سوء وانحطاط وخسة الذين ضربوا  أبابكر وأوصلوه لحالة الموت ، مما يساعد على حشد كراهية والدته لمشركي مكة وتعاطفها مع ابنها وأمثاله من المسلمين.

5)    التزام اقصى درجات الحيطة والحذر  في المحافظة على المعلومة الخطيرة التي تعرض القائد للخطر ، فرغم ان أبا بكر سألها عن حال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرفضت بطريقة غير مباشرة قائلة له : هذه أمك تسمع؟ فأجابها : لاشئ عليك منها ( أي إنها لا تفشي سرك)، فاطمأنت وأخبرته أنه سالم صالح. لكنها لم تخبره بمكانه زيادة في الحيطة والحذر إلا عندما سألها عن مكانه، فأخبرته بأنه في دار الارقم .

6)    ان السيرة النبوية غنية في أبعادها الامنية ، منذ تربية الأفراد وحتى بعد قيام الدولة ، وتظهر الحاجة للدول المسلمة لإيجاد اجهزة امنية متطورة في زمننا المعاصر ، تحمي الاسلام والمسلمين وتجتهد لرصد المحاربين للاسلام واختراقات الاعداء له ، وتستفيد من المعلومات التي تقدمها لها اجهزتها المؤمنة الأمنية ، ولايد أن تؤسس هذه الاجهزة  على قواعد منبعها القرآن الكريم ، والسنة النبوية ، وتكون أخلاق رجالها قمة رفيعة تمثل صفات رجال الأمن المسلمين.

7)    إن اهتمام المسلمين بهذا الأمر يجنبهم المفاجآت العدوانية .

😎     ((إذا عرفت العدو وعرفت نسك ، فليس هناك مايدعوك  الى أن تخاف نتائج مئة معركة ، وإذا عرفت نفسك ، ولم تعرف العدو ، فإنك ستواجه الهزيمة في كل معركة   ))  .

9)    حرص ام جميل على اختيار الوقت المناسب في تنفيذ المهمة ، حيث طلبت من ا بي بكر بتأجيل ذهابه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم الى الليل حتى تهدأ الحركة ويسكن الناس، وتنام العيون التي قد تكون مراقبة للطريق الذي يدلهم على مكان رسول الله صلى في حال خروج ابي بكر متوجها الى مكانه .

10)  لاتخلو المحن من منح ، ولا تزول الأمال مع الكرب، ولا ييأس المسلم من استخراج الامل من قلب الألم ، ففي ظل الازمة الطاحنة التي يمر بها ابو بكر  حسب الوصف انه كان في حال الموت إلا أن الله تعالى قد منحه هدية عظيمة وهي إسلام أمه أم الخير بعد دعاء الرسول لها .

        فقد كان حريصا على هداية الناس الأخرين ، فكيف بأقرب الناس إليه    .

حمزة بن عبد المطلب

مقبرة شهداء أحد حيث دفن حمزة

هو عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخوه من الرضاعة ، أرضعتهما ثويبة ، مولاة عمه أبي لهب.،

أمه هالة بنت وهيب بن عبدمناف بن زهرة وهي أبنة عم السيدة  آمنة بنت وهب أم النبي صلى الله عليه وسلم أي أن حمزة عم الرسول وفي نفس الوقت ابن خالته , وأخوه في الرضاعة.

كان حمزة يتصف بالأنفة والتعصب للعادات والتقاليد والدفاع عن القبيلة والعشيرة ، وكان  يحب ابن اخيه محمد صلى الله عليه وسلم يغار على ابن اخيه محمد صلى الله عليه وسلم اذا حاول احد النيل منه بدافع القرابة ، وحماية افراد العشيرة ، ولم تكن علاقته به علاقة قرابة فقط بل كانت علاقة قرابة وصداقة ومحبة وتقارب في العمر حيث كان يكبر النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين ، فقد ولد قبل عام الفيل بسنتين وولد النبي صلى  الله عليه وسلم في عام الفيل.

الفرج يأتي بعد  التعذيب والتنكيل

لم يمنع الأذى والتعذيب الذي تشبثت به قريش للمسلمين من دخول اعداد جديدة في الاسلام ، بل على العكس ادى ذلك الى  زيادة وتيرة معدلات  عدد الافراد  الذين يدخلون الاسلام .

ولننظر ما حدث في اسلام حمزة بن عبدالمطلب رضي الله عنه.

حماقة أبي جهل أدت الى اسلام حمزة

مر ابو جهل برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس عند الصفا ، فآذاه وشتمه ونال منه وعاب دينه والتهوين لأمره ، فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه  ومولاة  لعبدالله بن جُدعان في مسكن لها تسمع ذلك، ثم انصرف عنه ، فجلس في نادي قريش عند الكعبة ، فلم يلبث حمزة بن عبدالمطلب أن اقبل من قنصه متوشحا قوسه ، وكان اذا رجع لم يصل الى اهله حتى يطوف الكعبة ، وكان يقف على اندية قريش ويسلم عليهم ويتحدث معهم ، وكان أعز قريش وأشدهم شكيمة .

فلما مر بالمولاة ، وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجع الى بيته ، قالت له : يا أبا عُمارة لو رأيتَ ما لقي ابن اخيك محمد من أبي الحكم بن هشام(أبو جهل)، فإنه سبَّه وآذاه  ثم انصرف عنه ، ولم يكلمه محمد .

زلزال حمزة  يرتج بأبي جهل :

 فاحتمل حمزة الغضب لِما أراد الله به من كرامته ، فخرج سريعا لا يقف عند احد كما كان يصنع يريد الطواف بالكعبة معدا لأبي جهل إذا لقيه أن يوقع به ، حتى دخل المسجد ، فرآه جالسا في القوم ، فأقبل نحوه وضرب رأسه بالقوس فشجَّه شجةً منكرة ، ثم قال: أتشتمه وأنا على دينه أقول  مايقول؟ فارددْ عليَّ إن استطعتَ.

وقامت رجال بني مخزوم الى حمزة  لينصروا أبا جهل . (فقالوا : ماتراك يا حمزة إلا قد صبأت؟؟ فقال حمزة :  وما يمنعني منه وقد استبان لي منه ذلك ، وأنا أشهد أنه رسول الله ، وأن الذي يقول حق ،  فوالله  لا أنزع فامنعوني إن كنتم صادقين)  .

  فقال ابو جهل : دعوا أبا عُمارة ، فإني سببتُ ابنَ اخيه سبَّاً قبيحا، وتم حمزة على اسلامه.

فلما أسلم حمزة  عرفت قريش  أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قد عزَّ  ، وأن حمزة سيمنعه ، فكفَّوا عن بعض ماكانوا ينالون منه  .  ( الشيباني المتوفي  555م-630هـ ) الكامل في التاريخ ج 1 تاريخ الانبياء والرسل ص679.

اسلام حمزة .. يوم ضُرِبَ ابو بكر  :

كان إسلام حمزة بن عبد المطلب حدث ضخم، وصدى مدوٍّ،  فقد أسلم – رضي الله عنه- في  اليوم الذي  ضُرِبَ  فيه ابو بكر ، أواخر السنة السادسة من البعثة ، وفي شهر ذي الحجة على الأرجح، وكانت قصة اسلامه غاية في العجب، تظهر فيها بوضوح معاني الآية الكريمة: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56].

وقويت شوكة المسلمين بعد اسلام حمزة رضي الله عنه ، وأخذ يعلن دينه في كل مكان ، بل ويتحدى أبطال قريش منهم عمر ابن الخطاب وسنعلم ذلك من موقفه حينما طرق عمر بن الخطاب باب دار الارقم بن ابي الارقم شاهرا سيفه ، فقام رجل  فنظر من (خلل ) الباب ، فرأه متوشحا سيفَهُ ، وخافوا من بطش عمر ، فقام حمزة رضي لله عنه واستل سيفه قائلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم  : إئذن له،فإن كان يريد خيرا بذلناه له ، وإن كان يريد شرا   قتلناه بسيفه.

 حيرة حمزة

نطق حمزة بإسلامه اثناء غضبه ضد أبي جهل ويبين سبب غضبه وحنقه على أبي جهل ، وقد نطق بالاسلام في هذه اللحظة حمية عصبية ، ولم تكن حمية الايمان ، لكنه فكر وأكرمه الله بنور الهداية والايمان .

     وقد نقل ابن اسحاق تلك القصة على لسان حمزة كما يلي :  

اقبل حمزة على نفسه ، وقال ما صنعت ؟ اللهم إن كان خيرا فاجعل تصديقه في قلبي ، وإلا  فاجعل لي مما وقعت فيه مخرجا ، فبات بليلة  لم يبت بمثلها من وسوسة الشيطان ، حتى اصبح فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا ابن اخي ، إني قد وقعت في أمر ولا أعرف  المخرج منه ، وإقامة  مثلي على ما لا أدري ماهو !! أَرُشدٌ أم هو غيَّ شديد ، فحدثني حديثا ، فقد اشتهيت ياابن أخي أن تحدثني  ، فأقبل  رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكره ووعظه ، وخوفه وبشره ، فألقى الله تعالى في قلبه  الايمان بما قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، فقال : أشهد أنك الصادق، فأظهر يا أبن أخي دينك ، فوالله ما أحب أن لي ما أظلته السماء وأني على ديني الأول .

وزاد غير ابن اسحاق في اسلام حمزة انه قال : لما  حملني الغضب ، وقلت أنا على قوله ، أدركني الندم على فراق دين آبائي وقومي ، وبت من الشك في أمر عظيم لا أكتحل بنوم ، ثم أتيت الكعبة ، فتضرعت الى الله أن يشرح صدري ويُذهب عني الريب، فما استتممت دعائي حتى زال عني الباطل ، وامتلأ قلبي يقينا – أو كما قال – فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما كان من أمري ، فدعا لي بأن ثبتني الله  .

     فكان حمزة  ممن أعز به الدين. وروى البيهقي مثل ذلك  .

فرح حمزة بإسلامه وانشاده ابيات  منها  :

حمدت الله حين هدى فؤادي …… الى الاسلام والدين الحنيف

لدين جـــــــــــاء من رب عــــــــــــزيـــز……..خبير بالعباد بهم لطيــــــــــــــــــــــــــــــــف

أذا تُليت  رســــــــــــــــائله  علينـــــــــــــــــا …….تحدر  ذي اللب  الحصيف

رسائل  جاء  أحمد من هداها …….بــآيـــــــــــــــــــــــــــــات مبينـــة  الحــــــــــــــروف

وأحمد  مصطفى فينا مطــــــــــ.اع…. …فلا تغشوه بالقـــــــول العنيــــــــــف

فــــــــلا والله نسلمــــــــــــــــــــــــه لقـــــــــــوم .. ….ولما نقض فيهــــــــــــــــــــــــــم بالسيوف

ونتـــــــــــرك منهم قتلى بقـــــــــــــــــــــــاع …… عليها الطير  كالورود العكـــــــــوف

وقد خبرت ماصنـــــعت ثقيـــــف……. به فجزى القبــــــــــائل من ثقيـــف

إله الناس شر جــــــــزاء قــــــــــــــــــــــوم …….ولا أسقاهم صوب الخريــــــــــــف

عرض خاص من قريش

كان اسلام حمزة رضي الله عنه مصدر قوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، حيث رأى المشركون المنعة التي سيحمي بها حمزة ابن اخيه محمد ، فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه ، كما رأوا الزيادة المستمرة في اعداد من يدخلون الاسلام ، فاقترح  ((عتبة بن ربيعة)) على قريش ان يعرض بعض المغريات للنبي صلى الله عليه وسلم لعله يوافق على احداها وتتجنب قريش ذلك الصدام الواقع بينها وبين محمد صلى الله عليه وسلم وقبيلته واتباعه.

روى ابن اسحاق    : 

أن ((عتبة بن ربيعة))  – وكان سيدا – قال يوما وهو جالس في نادي قريش ، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده: يامعشر قريش ألا أقوم الى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا  لعله  يقبل بعضها ، فنعطيه أيها شاء ويكف عنا ،(وذلك حين أسلم حمزة)، ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثرون ويزيدون ، فقالوا : بلى يا أبا الوليد ، فقم اليه فكلمه، فقام اليه ((عتبة بن ربيعة)) حتى جلس الى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ياابن أخي ، إنك منا حيث قد علمتَ من السطة(اشرف النسب ) في العشيرة ، والمكان في النسب ، وإنك قد أتيتَ قومك بأمر عظيم فرَّقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم ، وعِبْت آلهتهم ودينهم ، وكفَّرت به من مضى من آبائهم ، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منا بعضها قال :

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( قل يا أبا الوليد أسمع )).

قال عتبة بن ربيعة : ياابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئتَ به من هذا الأمر  مالا ، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا ، وإن كنتَ تريد به شرفا، سودناك علينا حتى لانقطع أمرا دونك ، وإن كنت تريد مُلْكاً ملكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك رَئيا (تابع الجن) تراه لاتستطيع رده عن نفسك طلبنا لك  الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نُبرئك منه ، فإنه ربما غلب التابع  على الرجل حتى يُداوى منه ، أو كما قال له.  حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع منه ، قال : ((أقد فرغتَ يا أبا الوليد ))؟

قال : نعم

قال النبي : فاسمع مني

قال عتبة : أفعل

قال النبي : ((بسم الله الرحمن الرحيم. حم. تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ)) سورة فصلت 1- 4.  ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها يقرأها عليه  ، فلما سمعها عتبة منه ، أنصت لها ، وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليها يسمعُ منه ، ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الى السجدة منها ، فسجدَ.  ثم قال : قد سمعت يا أبا الوليد ماسمعتَ فأنت وذاك.

فقام عُتبةُ الى اصحابه ، فقال بعضُهم لبعض يحلفُ بالله : لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا: ماوراءَك يا أبا الوليد؟

قال عتبة: ورائي أني سمعتُ قولا والله ماسمعتُ مثله قط .  والله ما هو بالشعر  ولا بالسحر ، ولا بالكهانة ، يامعشر قريش أطيعوني واجعلوها بي ، خَلُّوا  بين هذا الرجل وبين ما هو فيه ، فاعتزلوه ، فو الله  ليكونن لقوله  الذي سمعت منه نبأ ، فإن تصبه العربُ فقد كفيتموه بغيركم ، وإن يظهر على العرب  فمُلْكهُ مُلْكُكُم ، وعزُّه  عزُّكم ، وكنتم أسعدَ الناس به. قالوا : سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه.

قال : هذا رأيي فيه فاصنعوا  ما بدا لكم  .

وبعد ثلاثة ايام من اسلام حمزة يحدث زلزال عظيم يهز مكة في كل ارجائها ويتغير مجرى التاريخ به،وهو ماسنبدأ به بإذن الله في الحلقة القادمة (32).

       بهذا أختم  الحلقة (31) ونلتقي معكم الاسبوع القادم بإذن الله في الحلقة  (32) مع فقه السيرة وظلال النبوة مع ملاحظة  احتفاظي بالمراجع لعدم امكانية نشرها في الجريدة في الوقت الحاضر..

اسأل الله ان يكتب لنا ولكم الاجر ” صدقة جارية” عن نشر سيرة وفقه أعظم نبي ورسول صلى الله عليه وسلم وان يجمعنا به صحبة في الفردوس الاعلى من الجنة .

د. محمد أحمد النجار
الجمعة 06 رجب 1439هـ
الموافق 23 مارس 2018

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.